بقلم: منى سليمان
(الزمان التركية) – ِرصدت الكاتبة منى سليمان – باحثة دكتوراه بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، متخصصة بالعلاقات الدولية – التحولات التي دفعت تركيا إلى تغيير سياستها الخارجية تجاه العراق، وتناولت بالشرح الأهداف من وراء الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس الوزراء التركي بن على يلدريم إلى العراق.. وإلى نص المقال.
مثلت زيارة رئيس الوزراء التركي “بن على يلدريم” للعراق والتي شملت لقاءات مع مسؤولين عدة في العاصمة المركزية بغداد وعاصمة إقليم كردستان آربيل واستمرت لمدة يومين (7-8) يناير الحالي، حلقة جديدة من سلسلة التحول في السياسة الخارجية التركية، حيث إنها أتت بعد عام من التوتر في العلاقات بين البلدين وشهد حملة دبلوماسية عراقية ضد أنقرة، حيث تقدمت بغداد بشكوى لمجلس الأمن ضد أنقرة، فضلاً عن التلاسن الإعلامي بين الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” ورئيس الوزراء العراقي “حيدر العبادي”، وهذا التوتر جاء على خلفية تواجد قوات عسكرية تركية في معسكر بعشيقة دون موافقة بغداد وإصرار “أردوغان” على المشاركة في معركة تحرير الموصل وتدخله المستفز المستمر في الشأن العراقي الداخلي، فما الذي تغير لتنسى بغداد وأنقرة عامًا من الجفاء بينهما ويبدأن في صفحة جديدة من التعاون المثمر في مجالات عدة منها مكافحة الإرهاب وتصدير الطاقة والتعاون الاقتصادي، وهذا ما سنوضحه فيما يلي:
أولا: الدوافع التركية للتقارب مع بغداد:
تعد الزيارة هي الأولى من نوعها على المستوى الإستراتيجي بين البلدين حيث لم يجتمع مسؤولي البلدين على مستوى رفيع كرئاسة الوزراء منذ ما يزيد عن عام ونصف، وكان السبب الأول في هذه القطيعة هو تواجد القوات التركية في معسكر “بعشيقة” بالموصل، وجدير بالذكر أن هذه الزيارة جاءت بناء على الطلب التركي، لأنها الأكثر تضررًا من توتر العلاقات مع بغداد، حيث تملك أنقرة العديد من الدوافع لإعادة النظر في علاقاتها مع العراق والتي تجعل من الأفضل استمرار تواصلها مع حكومتي بغداد وآربيل، تلك الدوافع هي في حد ذاتها الملفات العالقة بينهما والتي تسعي أنقرة لحلها بغية تحقيق المصالح التركية في العراق ومنها ما يلي:
1-بحث مستقبل تواجد القوات التركية في بعشيقة: كان تواجد تلك القوات السبب الرئيسي في التوتر بين البلدين، حيث أرسلت أنقرة في يوم 1/12/2015 ما يقارب من (180-300) عسكري و(20 – 25) دبابة إلى معسكر الزليكان الواقع شمال مدينة بعشيقة، التي تقع بدورها على بعد 27 كم غرب مدينة الموصل في محافظة نينوى، ليرتفع تعداد العسكريين الأتراك في المعسكر لنحو 1000 عسكري.
ومهمة تلك القوات تدريب قوات البيشمركة الكردية وأيضاً قوات “الحشد الوطني” التركمانية والقوات العربية، على قتال داعش ورفع التعداد جاء لتأمين المعسكر القريب من مناطق سيطرة “داعش”، وتضم تلك القوات وحدات تابعة للاستخبارات التركية العامة، واستخبارات الجيش، إضافة إلى وحدات تابعة للقوات الخاصة التركية (من ذوي القبعات الزرقاء والحمراء)، والفرقتان معروفتان بالقدرات القتالية العالية في المناطق الجبلية وفي إدارة المواجهات القريبة والقيام بعمليات كشف وتثبيت للمواقع الاستراتيجية للعدو وتوجيه ضربات لمحوها، وتتواجد القوات التركية داخل معسكر كبير يملكه لواء مدرع كردي يتبع لقوات البيشمركة الكردية، ولا تتخذ القوات التركية أي شكل من الاستقلال في تواجدها العسكري، بل تقدّم الدعم اللوجيستي للبشمركة، هذا بالإضافة إلى وجود 1500 جندي تركي في الموصل، مما يجعل القوات التركية المنتشرة بالعراق الثالثة من حيث العدد بعد القوات الإيرانية والأمريكية، الأمر الذي اعتبرته الحكومة العراقية انتهاكاً لسيادة البلاد، واستدعت وزارة الخارجية العراقية السفير التركي في العراق وسلمته مذكرة احتجاج على خلفية دخول قوات تركية إلى العراق، دون موافقتها وكان الرد التركي حصولها على موافقة إقليم كردستان بإعتبار المعسكر كردي ويخضع لإدارة آربيل بيد أن القوات تتواجد في أراضي العراق وليس أراضي الاقليم.
واليوم وبعد مرور عام على الدفع بتلك القوات نجد أن عددها وتعدادها قد تضاعف كما أنها تشارك في عملية “درع الفرات” التركية ضد “داعش”، إذن تواجدها بالعراق أصبح ضرورة ملحة لتركيا بيد أن بغداد ترهن عودة العلاقات بين البلدين بسحبها، ولاحتواء الغضب العراقي تعهد “يلدريم” بسحب القوات التركية من “بعشيقة” بعد حل السلام بالموصل!، وهو تعهد شفهي غير موثق باتفاق مكتوب ولم يحدد جدول زمني لسحبها كما أنه رهنها بتحقيق السلام والقضاء على “داعش” وهو أمر سيستغرق سنوات مقبلة، بيد أنه بهذا التعهد تكون أنقرة قد ضمنت تواجد قواتها بالعراق وإعادة علاقاتها مع بغداد.
2-محاربة الإرهاب: بعد توقيع الاتفاق الثلاثي بين (أنقرة، موسكو، طهران) حول تسوية الأزمة السورية أصبحت أنقرة لاعبا مؤثرا في محاربة الإرهاب، لاسيما تنظيم (داعش) الذي يتواجد في العراق وتحديدا في مدينة الموصل، التي تشهد منذ ثلاثة أشهر معارك ضارية ضد التنظيم وترفض بغداد مشاركة أنقرة فيها، وهذا كان أحد أسباب الخلاف بين البلدين، ولذا كان مهما لأنقرة أن تنهي هذا الخلاف لتضمن مشاركتها في معارك الموصل، حيث إن تلك المدينة تملك قيمة إستراتيجية في الأمن القومي التركي فهي تعد معبرا بين الحدود العراقية والسورية التي تخوض فيها أيضا أنقرة عملية “درع الفرات” ضد “داعش”.
ولم تختصر أنقرة الإرهاب في تنظيم “داعش” فقط، بل أنها طالبت بغداد وآربيل بإعلان تنظيم “حزب العمال الكردستاني” (حزب كردي يتواجد في محافظات جنوب تركيا ويتخذ من جبال قنديل بإقليم كردستان العراق معسكرا تدريبيا لقواته، وكذلك له معسكرات في سنجار ودهوك)، وحركة “الخدمة” التي تتبني أفكار المفكر الإسلامي التركي “فتح الله كولن” تنظيمات إرهابية بل وطالب “يلدريم” خلال اجتماعاته مع نظيره العراقي “حيدر العبادي”، ورئيس إقليم كردستان “مسعود بارزاني” بإغلاق معسكرات الكردستاني ومؤسسات الخدمة في كل محافظات العراق، وهو الطلب الذي لم ينفذ حتى الآن.
3-بحث مستقبل الأقليات بالعراق: يعتبر الرئيس التركي “أردوغان” نفسه وصيًا على أقليات العراق من التركمان (يتركزون في منطقة تلعفر) والآيزيديين (يتركزون في سنجار)، ولذا ترفض تركيا دخول قوات “الحشد الشعبي” الشيعية إلى منطقة تلعفر، وتطالب بغداد بطرد عناصر حزب العمال الكردستاني من منطقة سنجار تمهيدا لإعادة الإيزيديين مرة أخرى فيها، وهي مطالب قد لاقت آذانًا عراقية صاغية حيث رفضت بغداد دخول قوات “الحشد الشعبي” الشيعية لمناطق التركمان والسنة خشية حدوث مواجهات طائفية بينهم.
4-التعاون الاقتصادي: من أهم أهداف زيارة يلدريم للعراق هي إعادة تعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين، لاسيما بعد تراجعه لأكثر من 40% منذ عام 2014 عقب سيطرة “داعش” على الموصل ونينوى وقطعت طرق التواصل البري بين بغداد وأنقرة، وهذا الهدف له أهمية بالغة لدى أنقرة التي يعاني اقتصادها من أزمات متلاحقة بدءًا من تراجع معدلات السياحة إثر تصاعد العمليات الإرهابية ثم تراجع قيمة الليرة مقابل الدولار.
5-تعزيز التعاون مع إقليم كردستان: ليس خفيًا أن إقليم كردستان العراق أصبح يملك كافة مقومات الدولة ولا ينقصه سوى الإعلان عنها والاعتراف الأممي الدولي بها، وهو يملك العديد من الملفات المشتركة مع أنقرة تتساوى في أهميتها وقيمتها التي تملكها بغداد وربما تتفوق عليها، فآربيل تقدم الدعم اللوجيستي والمادي والمعنوي لكل من .. “حزب العمال الكردستاني” الذي يشن هجمات شبه يوميه ضد أهداف تركية منذ انتهاء الهدنة الموقعة بين زعيمه “عبدالله أوجلان” وبين الحكومة التركية في 2013، وقوات البيشمركة التي تشارك في المعارك ضد داعش في سنجار والموصل ونجحت في وقف زحف داعش باتجاه شمال العراق، والقوات الكردية السورية التي تشارك في معارك ضد “داعش” في سوريا، وكذلك تتواجد في الإقليم عشرات المؤسسات التعليمية والتربوية التابعة لحركة الخدمة التي يناصبها أردوغان العداء، فضلا عن أن العلاقات بين الإقليم وطهران تعززت بشكل كبير لاسيما على المستوى الأمني نظرًا لمشاركة قوات الحشد الشعبي القوات الكردية في الحرب ضد داعش، وهذا أدى لتراجع التعاون بين آربيل وأنقرة لحد ما، ولذا ترغب أنقرة في إعادة تعاونها مع كردستان العراق لتحقق أهدافها في محاربة “الكردستاني” و”الخدمة” وتضمن إعادة تدفق صادراتها مرة أخرى للإقليم، كما أنها تعمل على منع الإقليم من الانفصال عن العراق لأن ذلك سيكون بداية لتقسيمها فهي ترغب في الحفاظ على وضع الإقليم الحالي كمنطقة عازلة بينها وبين “داعش” وورقة ضغط في يدها على الحكومة العراقية والإيرانية.
ولعل المانع في تحقيق أهدافها تلك هو الموقف الأمريكي المؤيد والداعم بقوة للقوات الكردية التي ساهمت بشكل كبير في محاربة داعش وهذا بالطبع بعد تلقي شحنات أسلحة أمريكية حديثة ودعم لوجيستي من العسكريين الأمريكيين المتواجدين بالإقليم وببغداد، فواشنطن ترغب في تعزيز تواجد القوات الكردية بالمنطقة لتكون جيشها الميداني التي تواجه به “داعش” دون تكبد خسائر بشرية، فأيًا منهما ستنجح في تحقيق أهدافها أنقرة أم واشنطن؟.
6-موازنة التواجد الإيراني بالعراق: حيث تعزز طهران تواجدها في العراق يومًا بعد يوم وهو أمر ترفضه المملكة العربية السعودية حليفة تركيا، لاسيما بعد نجاح طهران في كسب جولة جديدة في مباراة التنافس الإقليمي بعد الجولة السورية، فبفضل الدعم الإيراني للرئيس السوري “بشار الأسد” استعاد حلب وسيطر على توسع المعارضة المسلحة وفصائلها واستمر في السلطة حتى الآن، وبفضل الدعم الإيراني لقوات “الحشد الشعبي” والحكومة العراقية استعاد العراق الفلوجة وصلاح الدين وسنجار ومعظم المدن التي سيطر عليها داعش منذ يوليو 2014 وحاصرها في الموصل تمهيدًا لطردها من العراق، وتركيا لا ترغب في ترك العراق ساحة سهلة لطهران تحقق فيه المزيد والمزيد من المكاسب الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية أيضا على حسابها، بل تريد إثبات حضورها بقوة على الأصعدة كافة لتؤكد أنها شريكة مع الحكومة العراقية في مكافحة الإرهاب وطرد “داعش” ولكي تضمن دورًا مستقبليًا في ترتيب البيت العراقي الداخلي في بغداد وآربيل بعد طرد “داعش” واستقرار الوضع الأمني، لاسيما فيما يخص وضع الأقليات في العراق ووضع السنة التي تعد تركيا حليفًا لهم وكذلك وضع الأكراد الذين يهددون بين فينة وأخرى بإعلان استقلال كردستان عن العراق وهو أمر لن تسمح به تركيا مطلقًا.
ثانيا: زيارة “يلدريم” للعراق .. النتائج والتقييم:
عول كثيرين على زيارة رئيس الوزراء التركي “بن على يلدريم” للعراق في أنها ستحل كافة القضايا العالقة بينهما وستكون طوق النجاة اقتصاديا وأمنيا للحكومة التركية التي تتوالى عليها الأزمات، ويمكن القول إن الزيارة نجحت جزئيًا في إزالة التوتر في العلاقات بين البلدين وإعادة الاتصالات على مستوى إستراتيجي بينهما، كما نجحت اقتصاديًا، بيد أنها لم تنجح في إنهاء الملفات الأمنية العالقة، فموقف رئيس الوزراء العراقي “حيدر العبادي” كان دليلًا واضحًا على ذلك حيث أنه رهن التطبيع الكامل بين البلدين بسحب القوات التركية من معسكر “بعشيقة”، ولم يقنعه تعهد “يلدريم” الشفوي بسحبها، وقد أنهي “يلدرم ، العبادي” مباحثاتهما يوم 8 يناير 2017، بعقد اتفاق من تسع نقاط وهو بمثابة “ميثاق عمل” لحل الملفات العالقة بين الجانبين حيث أكد على:
عدم السماح بتواجد أي منظمات إرهابية على أراضيهما وعدم القيام بأي نشاط يهدد الأمن القومي لكلا البلدين، وكما شهد تأكيد أنقرة على عراقية معسكر بعشيقة والالتزام بوحدة العراق واحترام سيادته.
زيادة التعاون في إدارة مياه نهري دجلة والفرات، والذي تتصاعد بشأنهما أزمات بين البلدين في الحين والآخر بسبب تحكم أنقرة في مياه النهرين نظرا لأنها دولة المنبع والعراق دولة المصب.
زيادة مستوى التعاون التجاري والاقتصادي بين أنقرة وبغداد، وإعمار المناطق التي تضررت نتيجة الإرهاب، وتنفيذ الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين، إلى جانب اتفاقهما في مسألة تعزيز التعاون بشأن إدارة مياه نهري الفرات ودجلة، والمشاريع المائية المشتركة.
ضرورة تعزيز العلاقات الثقافية والاجتماعية بين شعبي البلدين، وشدد على وجوب القيام بقفزة نوعية واسعة في مجالات الثقافة والسياحة، بهدف تعزيز التضامن بين المواطنين في البلدين.
خلاصة القول، أن زيارة “يلدريم” قد دشنت لمرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين، حيث إنها نجحت اقتصاديا وتم التوقيع على عدد من الاتفاقيات التي تعيد ضخ مليارات النفط العراقي في خزينة الاقتصاد التركي مرة أخرى، كما أنها شهدت انعقاد الدورة الثالثة لاجتماعات المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي بين العراق وتركيا.
وأعادت التذكير بأهمية القوة الناعمة لتركيا من خلال النص على ضرورة تعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي والاجتماعي في الاتفاق مع بغداد تلك القوة التي كانت بابًا للانفتاح التركي على الدول العربية منذ عقد من الزمان، ويبقي التذكير بأن الملفات الأمنية هي التي ستحدد مستوى التعاون بين البلدين مستقبلا خاصة بعد تصريح “أردوغان” الذي اعتبر فيه قضية العراق وسوريا مسألة وجود بالنسبة لبلاده، وهذا ينفي نوايا أنقرة بسحب قواتها من العراق أو سوريا قريبًا لأن التهديدات الأمنية المتمثلة في تواجد تنظيمات إرهابية كداعش وحزب العمال الكردستاني لن تنتهي قريبا، كما أن العراق وسوريا هي ساحة للتنافس الإقليمي التركي الإيراني الذي لم يحسم بعد، وهذا يؤكد رغبة أنقرة في الفصل التام بين أمرين وهما علاقاتها مع بغداد وعلاقاتها مع آربيل، لأن الحكومة التركية تتعمد هذا الفصل لاستغلاله والضغط به على بغداد وآربيل، فهي ترغب أن تكون الوسيط في حل الخلافات وهي كثيرة بين الحكومة العراقية المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان في آربيل، كما أنها ترغب في الضغط على كلا منهما وتهديدها بالتقارب مع الأخرى لتحقيق المصالح التركية الاستراتيجية والاقتصادية في العراق، ولذا فإن التوتر في العلاقات التركية العراقية لن تنهيه زيارة واحدة بالرغم من أهميتها بل يتطلب من الدبلوماسية التركية بذل المزيد من الجهد لتحقيق أهدافها دون صدامات جديدة.