القاهر (الزمان التركية)
بقلم: منى سليمان
تلقي الشعب الأمريكي خبر فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب بالإنتخابات الرئاسية الأمريكية بمشاعر مختلطة بين الصدمة والمفاجأة حيث إنه كان الأبعد عن الفوز وفق إستطلاعات الرأي التي رجحت كفة المرشحة الديمقراطية المخضرمة هيلاري كلينتون نظرًا لما تملكه من خبرة وحنكة سياسية وشعبية جماهيرية وهي مهارات يفتقدها رجل الأعمال الجمهوري حديث العهد بالشأن السياسي ترامب.
تجاوزت ردود الفعل تلك الحدود الأمريكية حيث أعرب عدد من دول العالم عن مواقفه فور فوز ترامب تباينت بين الترحيب الحذر والمفاجأة والصدمة والتخبط نظرًا لمواقف المرشح الجمهوري خلال الحملة الإنتخابية التي بدا فيها أنه سيحدث تغييرات جذرية في توجهات السياسة الخارجية الأمريكية مما سيؤثر على عدة ملفات دولية مهمة ومنها محاربة الإرهاب ومكافحة الهجرة غير الشرعية وربما تشمل شكل النظام الدولي ككل.
تعد تركيا من أهم حلفاء واشنطن في منطقة الشرق الأوسط، فهي عضو بحلف الناتو وهناك العديد من الملفات المشتركة بين البلدين ـ وقد رجحت بعض الآراء فور فوز ترامب بأن العلاقات التركية الامريكية ستشهد توترًا خلال فترة توليه الرئاسة التي ستمتد لأربع سنوات مقبلة، نظرًا لاختلاف موقفه عن موقف أنقرة فيما يخص الأزمة السورية ومحاربة الجماعات الإرهابية والقضية الكردية.
إلا أن ذلك غير صحيح فمستقبل العلاقات الثنائية سيرتبط بمواقف “ترامب” المستقبلية من ملفات عدة على المستويين الداخلي والإقليمي والدولي ويمكن للمتابع من خلال تحليله للإرهاصات الأولى أن يستشرف تلك المواقف بوضوح حيث إن العلاقات بين أنقرة وواشنطن ستواجه خلال فترة “ترامب” جملة من التحديات والفرص التي ربما تعزز التحالف الأمريكي التركي أو تزعزعه، ومن بين جملة تلك القضايا:
على المستوى الداخلي:
لم يب “ترامب” أى إهتمام يذكر خلال حملته الإنتخابية بإدانة محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة التي تعرضت لها تركيا في 15 يوليو 2016 وكذلك لم يدن حملة الاعتقالات الواسعة التي شنتها أنقرة ضد كل من تتوهم أنه على صلة بحركة الداعية التركي المقيم في ولاية بنسلفانيا الأمريكية “فتح الله كولن” الذي أتهمته أنقرة بتدبير محاولة الإنقلاب، واعتقلت أكثر من 38 ألف موظف حكومي في كافة قطاعات الدولة فضلاً عن اعتقال المئات من الأكاديميين والصحفيين والإعلاميين، وفصل ووقف أكثر من 125 ألفا من وظائفهم.
وكذلك لم يهتم “ترامب” بإدانة التجاوزات الجمة ضد حقوق الإنسان التي ترتكبها الشرطة التركية ضد المعتقلين فضلا عن التضييق على المعارضة التركية ولم يهتم أيضا بنوايا الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” في تغيير نظام الحكم وتحويله لنظام رئاسي يوسع صلاحيات الرئيس ويمكنه من حكم البلاد حتى عام 2029 مما سيؤثر على الحياة الديمقراطية بالبلاد ويحولها لنظام حكم شمولي.بعكس الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته “باراك أوباما” الذي أصدر عدة بيانات تطالب أنقرة بإحترام حقوق الإنسان ومراجعة حملة الاعتقالات الواسعة بالبلاد.
وتجاهل “ترامب” للتجاوزات الديمقراطية والحقوقية في تركيا سيمثل فرصة للتقارب بين البلدين. وهذا ينقلنا لملف خلافي مهم بين واشنطن وأنقرة وهو مطالبة الأخيرة للأولى بتسليم “كولن” لأنقرة لمحاكمته، وهي المطالبة التي رد عليها نائب الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته “جون بايدن” بأنها مطالبة ستخضع للوائح والقوانين الأمريكية، بيد أن فريق “ترامب” الرئاسي كان منقسمًا حول تلك النقطة فمستشار الأمن القومي “لترامب” “مايكل فلاين” يرى أنه يجب على واشنطن تسليم “كولن” لأنقرة والتعاون معها لمواجهة قوى الإرهاب وبالطبع سيتم ذلك وفق القوانين واللوائح الأمريكية، ومن جهة أخرى أعلن المستشار السياسي “لترامب” ذو الأصول العربية “وليد فارس” أن “ترامب” سيعمل على التواصل مع الجماعات الإسلامية المعتدلة. وتلك الجماعات منها حركة “كولن”، والجدير بالذكر هنا أن الحكومة التركية قدمت أربعة ملفات لإقناع واشنطن بتسليمها “كولن” ولم يتم شىء حتى الآن. نظرًا لأن تلك الأدلة واهية ولا تتضمن دليلاً واحدًا ضد “كولن” أو حركته يثبت تدبيره للإنقلاب ضد الحكومة التركية.
ومن جهة أخرى فإن “ترامب” لن يهتم بدفع مفاوضات إنضمام تركيا للإتحاد الأوروربي (كان معروفًا أن واشنطن من أكثر الدول التي شجعت الإتحاد الأوروبي على بدء مفاوضات إنضمام أنقرة) وهذا لن يمثل تحديًا لأنقرة بل إنه سيوافق الهوى التركي الرافض للاتحاد حاليا لاسيما بعد توصية البرلمان الأوروبي بتجميد مفاوضات الانضمام فالطرفان التركي والأوروبي فقدا حماسهما في ضم أنقرة نظرًا للمتغيرات التركية الداخلية والإقليمية خاصة أزمة المهاجرين.
وعلى الصعيد الإقتصادي لن يكون مجديًا التعويل على تعزيز التعاون الإقتصادي وضخ إستثمارات أمريكية جديدة للسوق التركي تساهم في إخراجه من أزمته الحالية نظرًا لأن “ترامب” سيعمل على تعزيز الاقتصاد وجذب الاستثمارات لبلاده أولا، ولذا كان أول لقاء له مع مسؤول أجنبي فور فوزه مع رئيس الوزراء الياباني الذي يمثل أهم شريك اقصادي آسيوي لواشنطن.
وعلى المستوى الإقليمي تبرز القضية الكردية التي ستكون من القضايا محل الخلاف بين الطرفين حيث أعلن “ترامب” خلال حملته الإنتخابية إعجابه الشديد بالأكراد وبالقوات الكردية المشاركة في محاربة الجماعات الإرهابية في العراق وسوريا، كما ألمح الى إمكانية توسطه بين أنقرة والأكراد لإيجاد حل نهائي للقضية الكردية فهل سينجح في ذلك، خاصة بعد صعود القوى الكردية وسيطرتها علي عدد كبير من القرى والمدن في العراق وسوريا؟ هل سيكون “ترامب” عرابًا للسلام بين الأكراد وتركيا وينهي صراعًا استمر 35 عام؟ وهل يمكن إعادة العملية السلمية مرة أخرى بين الطرفين بعد حملة الاعتقالات التي يشنها “أردوغان” ضدهم يوميًا والتي شملت رئيس حزب الشعوب الديمقراطي “صلاح الدين دميرتاش” المرتبط بالاكراد؟ وبعد العمليات الارهابية التي ينفذها حزب العمال الكردستاني في جنوب شرق تركيا بصورة شبه يومية والتي تسفر عن مقتل وإصابة عشرات المواطنين؟ وهل يمكن حل القضية الكردية التركية بعيدًا عن الوضع الكردي في العراق وسوريا؟ هذا سيكون تحديًا جديًا بين أنقرة وواشنطن خلال فترة رئاسة “ترامب” إذا صدقت نواياه في إيجاد حل للقضية الكردية.
ومن جهة أخرى سنجد قضية محاربة الجماعات الإرهابية وعلى رأسها “داعش” تتصدر القضايا الإقليمية المحورية في العلاقات الثنائية بين الطرفين، لاسيما وأن “ترامب” يرى ضرورة محاربة الجماعات الإرهابية ثم التخلص من الرئيس السوري “بشار الأسد” ولا يمانع في التعاون معه حتى يتم التخلص من الإرهاب، وهو رأى إن بدا ظاهريًا مناقضًا لنهج “أردوغان” في معالجة القضية السورية إلا أنه يتوافق مع ما يتم تداوله مؤخرًا من وجود مفاوضات سرية بين دمشق وأنقرة لمنع قيام كيان كردي انفصالي في شمال سوريا وتنسيق القضاء على الجماعات الإرهابية وهذا سيمثل مساحة للتوافق وفرصة جديدة للتقارب بين “ترامب و”أردوغان”.
وعلى المستوى الدولي، فإن علاقات واشنطن مع بعض الدول الكبرى والمحورية سيكون له مردود إيجابي أو سلبي على أنقرة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر (روسيا، إيران، مصر).. فخلال حملته الإنتخابية أشاد “ترامب” بمواقف الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” في محاربة الإرهاب، والأخير من أعداء “أردوغان” الذي يتبع نهج العداء الشخصي للرئيس المصري على الرغم من أن السيسي لايعره أي اهتمام ولايبادله أسلوبه الذي يجافي القواعد والأعراف الدولية في التعامل بين الدول مما يعيق استئناف العلاقات المصرية التركية المتأزمة منذ تبادل الطرفين سحب السفراء بينهما في 2013.
وهنا يجب أن تتذكر أنقرة أن تعزيز التعاون بين القاهرة وواشنطن في الملفات الإقليمية المختلفة ومنها (محاربة الإرهاب، الأزمة السورية، القضية الفلسطينية، محاربة الهجرة غير الشرعية) سيؤدي إلى تراجع الدور التركي في المنطقة في تلك الملفات، والذي سعت إلى اكتسابه على حساب مصر في الفترة التي أعقبت انتفاضة 25 يناير 2011.
ومن جهة أخرى ورغم تحقيق مصالحة بين أنقرة وموسكو أنهت أزمة إسقاط الدفاع الجوي التركي لمقاتلة روسية فوق سوريا نهاية عام 2015، إلا أن العلاقات بين البلدين ربما تتعرض لأزمة جديدة في أي وقت، خاصة فيما يتعلق بالملف السوري، ولذا فإن تعزيز العلاقات الروسية الأمريكية خاصة في ظل إشادة “ترامب” المتكررة بنظيره الروسي “فلاديمير بوتين” ربما تؤدي إلى تهميش الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط وبحر قزوين وهذا سيكون تحديًا كبيرًا للسياسة الخارجية التركية التي سيتوجب عليها الموازنة في علاقاتها بين حليفها التاريخي واشنطن وعلاقاتها الحديثة مع موسكو، وكذلك الموازنة بين مصالحها الاستراتيجية في بحر قزوين ومنطقة الشرق الأوسط.
ومن جهة أخرى فأن تهديدات “ترامب” المتكررة بشأن تجميد الإتفاق النووي الإيراني المبرم بين طهران ومجموعة (5+1) ربما سيجد صعوبة في تنفيذه كونه إتفاقا دوليا أبرم وعليه تنفيذه، بيد أن العلاقات الإيرانية الأمريكية لن تشهد تقدمًا في عهد “ترامب” بل ستستعيد أزماتها المعتادة منذ عام 1979 وهذا سيشكل فرصة كبيرة لتركيا فيمكنها أن تتوسط بين طهران وواشنطن لتقريب وجهات النظر بينهما، ويمكنها أن تقوم بدور الوسيط في الملفات الإقليمية جميع بين طهران والقوى الكبرى والقوى الإقليمية ومنها المملكة العربية السعودية، في عدة ملفات منها (الأزمة السورية، اليمنية، التدخلات الإيرانية في دول مجلس التعاون الخليجي).
مما سبق نستخلص، أن هناك العديد من الملفات المتشابكة والمتداخلة بين أنقرة وواشنطن على المستويات كافة الداخلي والاقليمي والدولي، وبقدر ما تحمل من نقاط خلاف تحمل نقاط تلاق واتفاق، وإذا نجح الطرفان في الإستفادة منها والتوصل لصيغة مشتركة تحقق المصالح الحيوية للطرفين في كل ملف، فإن ذلك سيؤدي لإعادة التحالف التركي الأمريكي مرة أخرى لقوته المعهودة. ولعل الأيام القادمة تحمل الإجابة على تلك التساؤلات.