استعرض الكاتب الجزائري د. محمد باباعمي في مقاله بمجلة (نسمات) الثقافية بعنوان (من “إسلام القوة” إلى “قوة الإسلام” الحوار نموذجَا)، منهج المفكر الإسلامي فتح الله كولن في تعزيز قيمة الإسلام والمسلمين بالحوار مع الآخر.
وجاء في المقال: مع مرور الوقت، وأثناء التأمُّل في النصوص التأسيسيَّة للإسلام، والنظرِ في حقيقة المسلمين عبر تاريخهم المشرق، ومقارنة ذلك بواقعهم اليومَ في عهد النكسة والنكبة؛ تأكَّد لي بما لا يدع مجالا للشكِّ، أنَّ الإسلام نزل للكبار، لا يفهمه إلاَّ الكبار، ولا يستطيعه إلاَّ الكبار…
نعم، اقتنعتُ أنَّ الإسلام لا يأبه بالصغار، ولا يعتني بالأصفار، ولا ينفعُ من آثر سُكنى الغار، وإضرامَ النار، وملازمة الفار…
فكلَّما أخلد إنسان، أو أمَّة، إلى الأرض، صار الإسلامُ أبعدَ عنه -عنها- من بُعد مشرق الكون عن مغربه؛ أي إنَّ الملايير من السنوات الضوئية تحول بين الإسلام الحقِّ وبين المتخلِّفين المنتكسين المرتكسين…فلا إسلام بلا قوَّة، ولا قوَّة بلا إسلام، هما وجهان لعملة واحدة، واسمان لحقيقة واحدة؛ دع عنك العملات المزوَّرة، والأسماء المحرَّفة… فاليوم وجب علينا أن نتحوَّل من “إسلام القوة”إلى “قوة الإسلام”إيمانا بهذا البعد الحركي العالمي الحضاري لديننا الحنيف.
نبي الرحمة والتسامح
كان نبي الرحمة -وهو في أعلى مقام من مقامات قوَّة الإسلام- يحاور المشركين، والمنافقين، والملحدين، والمتمرِّدين… ويدعو الجميع إلى الاحتماء بالدليل، والجدل بالبرهان: “قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ”(البَقَرَة:111)؛ بل إنَّ الحوار عند رسول الرحمة لا ينطلق من مبدأ: أنا على صواب، يقينًا…وأنت على خطأ، يقينًا! بل على قاعدة: “وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ”(سَبَأ:24).
كولن على درب الحبيب
كان التشنُّج سيِّدَ الموقف في تركيا بداية الثمانينيات، وكان الناس يتقاتلون فيما بينهم، يقتل الواحد منهم الآخر لمجرَّد كونه من الجهة الأخرى، حتى إنَّ الناس لا يخرجون من بيوتهم ليلا، وإذا صادف أن خرج أحد فإنَّ احتمال أن يُغتالَ أو يؤذى قائم وممكن؛ وهنالك تأمَّل الأستاذُ فتح الله كولن في الحال والمآل، فرأى أنَّ المثقفين والكتَّاب والصحفيين والسياسيين… وكلَّ من له أتباع ومستمعون ومهتمون، هم الأصل في المسألة، فإن تسامحوا تسامح الناس، وإن تناحروا تناحر الناس، ووجد أنَّ الإسلام هو دين السلم والسلام، بلا منازعٍ، وأنه دين الرحمة والمرحمة، بلا مثيلٍ، بل هو دين التواصي بالصبر والحبِّ…فشرَع هو نفسُه في محاورة كلِّ الجهات، حتى التي يبدو أوَّل وهلة أنَّها أعتى أعداء الإسلام والمسلمين، فكان يزورهم ويدعوهم لزيارته، ويدعو الناس في “الخدمة”إلى كسب قلوب كلِّ من يعرفونه من أبناء البلد، مهما كان دينهم، وحزبهم، وإيديولوجيتهم، وسلوكهم…
يقول رئيس وقف الصحفيين والكتاب: “علَّم الأستاذُ كلَّ واحد منَّا أن يعتزَّ بإسلامه، ويثق في دينه، ويخلص في عبادته، ويحاور كلَّ أحد، بلا اسثناء”.وكان يقول لنا: “إذا مرض أحد ممن تختلفون معه، فيجب أن تزوروه في المستشفى، حتى إذا فتح عينه لم يجد سوى أهله وأنتم… هكذا كان رسول الرحمة يفعل”.
ولقد استجابت لدعوة الحوار كلُّ الجهات، مِن أعلاها إلى أدناها، وشارك فيه أكبر أسماء البلد، إذ كانوا جميعا مبهورين من كونه جاء مِن “عالم دينٍ”، ومصطلح “عالم الدين”له دلالة تقليدية سكونية، وليست حضارية ولا حركية، غير أنَّ كُولَن خالف النموذج المعتاد، وغيَّر البراديم الكلاسيكي، وأظهر شكلا جديدا، غير مألوف في تركيا يومها، للعالِم المسلم، بما آتاه الله من مواهب فطرية، ومن قدرات علمية، ومن آفاق معرفية، ومن رؤى مستقبلية…