بعد مسارعته في عرقلة سير تحقيقات الفساد التي كُشِفَ عنها النقاب في 17 ديسمبر عام 2013، وكذلك جميع التحقيقات الجارية الأخرى المتعلقة بهذه القضية التي تُدين كبار المسؤولين بحكومة رجب طيب أردوغان متزايدة السلطوية، فجأةً تَحَوَّل البرلمان الذي يهيمن عليه حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى “ورشة قوانين” تتوفَّر على إنتاج التشريعات التي من شأنها تمكين أردوغان من مسخ ما تَبَقَّى من سيادة القانون والحقوق الأساسية في تلك الدولة المرشَّحة لعضوية الاتحاد الأوربي.
ويبدو أنه لا نهاية لمشروعات القوانين العاجلة التي دفعت بها حكومة حزب العدالة والتنمية خلال الأشهر الخمسة الأخيرة وحدها، رغم ما يثيره كُلٌّ من هذه المشروعات المثيرة للجدل من ضَجَّةٍ كُبرَى في أوساط المعارضين والإعلاميين والحقوقيين والمجتمع المدني برُمَّته. كما أن هذا النمط من أنماط السلوك قد تَسَبَّبَ في إثارة دهشة الأوساط الخارجية، ولا سيَّما في “المجلس الأوربي” الذي تتمتَّع تركيا بعضويته الكاملة، وفي “الاتحاد الأوربي” الذي لا تزال البلاد في طور محادثات الانضمام إليه. غير أن أردوغان لا يبدو مباليًا بنسبة الـ57% من الأتراك الذين لم يُصوِّتوا لصالحه في الانتخابات الأخيرة، ولا بطريقة نظر حلفائه وشركائه في الخارج إلى مثل هذا السلوك. ولعل مشروع القانون الجديد الذي أرسلته الحكومة إلى البرلمان، والذي من شأنه أن يُحجِّم صحافة الإنترنت بشكلٍ كبيرٍ حالَ إنفاذه، يكون دليلاً على هذا المسلك الخاطئ الذي يسلكه الحزب.
يبدو أنه لا نهاية لمشروعات القوانين العاجلة التي دفعت بها حكومة حزب العدالة والتنمية خلال الأشهر الخمسة الأخيرة وحدها، رغم ما يثيره كُلٌّ من هذه المشروعات المثيرة للجدل من ضَجَّةٍ كُبرَى في أوساط المعارضين والإعلاميين والحقوقيين والمجتمع المدني برُمَّته. ويأتي مشروع القانون هذا على رأس تشريعات مراقبة الإنترنت المثيرة للجدل التي أُقِرَّت بالفعل في فبراير الماضي، والتي قلَّصَت إلى حدٍّ كبيرٍ مساحةَ حريَّةِ التعبير على الشبكة العنكبوتية وخوَّلت إلى الوكالة الحكومية المختصَّة (هيئة الاتصالات) سلطة حجب المواقع دون إذنٍ قضائيٍّ مُسبَق. وظاهريًّا يُفترض أن مشروع قانون صحافة الإنترنت يعترف بالصحافة الإلكترونية المتنامية داخل تركيا، لا سيما المواقع الإخبارية، وذلك بإقرارها من الناحية القانونية والسماح لها بالدخول إلى السوق الرسمية الْمُربِحة للإعلانات، وهو الأمر الذي طالما نادى به صحفيُّوها. وقد ظلت مسوَّدة القانون حبيسة أدراج مكتب رئيس الوزراء على مدى العامين الماضيين دون اتخاذ أي إجراءٍ بشأنها، ثم قررت الحكومة بشكلٍ مباغتٍ إرسالها إلى البرلمان -بعد إدخال بعض التعديلات عليها في اللحظة الأخيرة- على خلفيَّة فضيحة الفساد التي عصفت بحكومة أردوغان، والتي أشارت إليه وإلى بعض أفراد عائلته والمقرَّبين منه بإصبع الاتهام.
وتُثير هذه العجلة غير المتوقَّعة -بعد تجاهل المسوَّدة لمدة عامين- مخاوف من زيادة التضييق على البوابات الإخبارية الإلكترونية، لأن معظم التسجيلات الصوتية المسرَّبة عرف طريقه إلى الشبكة العنكبوتية أساسًا من خلال موقعَي “تويتر” و”يوتيوب”، مما دفع الحكومة إلى حجب الاتصال عن مواقع التواصل الاجتماعي عشية يوم الانتخابات دون أي سندٍ قانوني.
وقد أبطلت المحكمة الدستورية القرار غير القانوني للحكومة بحجب موقع “تويتر”، كما تعمل حاليًّا على دراسة تطبيق رفع الحظر عن موقع “يوتيوب”. وعليه فقد لا يكون الدافع وراء إرسال مشروع القانون الجديد إلى البرلمان ذا صلةٍ بما يريده صحفِيُّو الإنترنت حقًّا، وإنما يتعلق بتضييق الخناق على حرية التعبير أكثر من ذي قبل، تحت ستار الاعتراف بالمواقع الإخبارية الإلكترونية.
وكانت الجهة التي نِيطَ بها إعداد المسوَّدة هي “الإدارة العامة للصحافة والإعلام”، وهي هيئةٌ حكوميةٌ تتولى الإشراف على وسائل الإعلام، بعد صدور أوامر بذلك من رئيس الوزراء أردوغان ونائبه بولند أرنيج قبل ثلاث سنوات، حين كان على الحكومة أن تعمل على قدمٍ وساقٍ لتنفيذ الإصلاحات التي طالب بها الاتحاد الأوربي. وبعد سلسلةٍ من اللقاءات مع مختلف الأطراف المعنيَّة، خرجت “الإدارة العامة للصحافة والإعلام” بهذه المسوَّدة خلال عامٍ من إجراء اللقاءات وبعثت بها إلى مكتب رئيس الوزراء، لتظلَّ حبيسة أدراجه لمدة عامين، قبل أن يقرِّر أردوغان فجأةً استخراج المسوَّدة وإرسالها إلى مكتب رئيس مجلس النواب في 12 مارس. وفي 4 أبريل، أُحيلَ مشروع القانون إلى ثلاث لجانٍ مختصَّةٍ بغرض المراجعة، وذلك قبل إرساله أخيرًا إلى قاعة البرلمان حيث سيحظى بالموافقة على الأرجح.
أردوغان لا يبدو مباليًا بنسبة الـ57% من الأتراك الذين لم يُصوِّتوا لصالحه في الانتخابات الأخيرة، ولا بطريقة نظر حلفائه وشركائه في الخارج إلى مثل هذا السلوك. وقد خضعت المسوَّدة الأصلية للتعديل على يد مكتب رئيس الوزراء، وإن جرى ذلك بعد مناقشة أعضاءِ الحكومةِ مشروعَ القانون الذي ما لبث أن خرج إلى العلن عقب صدور قانون مراقبة الإنترنت رقم 5651 المثير للجدل، وهو القانون الذي فرض قيودًا صارمةً على حرية التعبير في الشبكة العنكبوتية. ولا تُعتبر المسوَّدة مشروع قانونٍ مستقلاًّ، بل تأتي عنصرًا مُكمِّلاً لسلسلة التعديلات الْمُجْرَاة على القوانين الحالية، بخاصَّةٍ القانون المنظِّم للصحافة (قانون العمل الصحفي رقم 5953). وعلى الرغم من أن مشروع القانون لا يتطلب من جميع البوابات الإخبارية الإلكترونية قَيْد خدماتِها في “هيئة الاتصالات”، فإن المتخلفين عن القيد الرسمي لن يحصلوا على “هُوِيَّاتٍ صحفيةٍ” رسمية، كما لن يُسمَح لهم بتلقِّي إعلاناتٍ حكومية. أما المقيدون فإن ما سيتمتعون به من مزايا إضافيةٍ تعرضها الحكومة سيأتي مصحوبًا كذلك ببعض الضمانات. بعبارةٍ أخرى، فإن الحكومة تنتهج سياسة “الجزرة والعصا” لترويض المواقع الإخبارية الإلكترونية.
كما لم تطلب الحكومة مشورة الخبراء العاملين بوزارة شؤون الاتحاد الأوربي خلال مرحلة إعداد المسوَّدة لمعرفة مدى تَطابُق مشروع القانون مع مبادئ الاتحاد ومعاييره، ولم تُدْلِ الوزارة برأيها في المشروع على لسان أحد خبرائها إلا خلال اجتماع “لجنة التنسيق مع الاتحاد الأوربي” بالبرلمان في 24 من أبريل. وبالنظر إلى أن “لجنة العدل” هي الكيان الرئيسي المنوط به إحالة مشروع القانون إلى قاعة المناقشات، فإن بعض المخاوف التي أبداها المختصُّ المبعوث من الوزارة لم تُشكِّل أيَّ أهميةٍ لنُوَّاب حزب العدالة والتنمية الحاكم الذين صدرت إليهم التعليمات بتمرير القانون مهما كانت التكلفة. كما أن من الْمُحيِّر أن يشهد خبير الوزارة بعدم انتهاك مشروعِ القانون تشريعاتِ الاتحاد الأوربي على الرغم ممَّا فيه من عيوب خطيرة، وهو ما يُعدُّ -إلى جانب ذلك- انتهاكًا واضحًا لِمَا تَعهَّد به وزير شؤون الاتحاد الأوربي مولود جاووش أوغلو لمفوَّض الاتحاد الأوروبي لشؤون التوسُّع وسياسة الجوار ستيفان فولي، في أثناء اجتماعٍ عُقد في بروكسل منذ بضعة أشهرٍ بالتزام تركيا بأخذ رأي الاتحاد في القوانين الْمُزمَع إصدارها خلال مرحلة الإعداد.
وقد تُوُصِّل إلى هذا الاتفاق عقب موجةٍ من انتقادات مسؤولي الاتحاد الأوربي لِمَا اعتبروه تراجعًا عمَّا تَحقَّق من إنجازاتٍ كبرى في مجالَي سيادة القانون والحقوق الأساسية في بلدٍ مرشَّحٍ لعضوية الاتحاد. وأشار فولي إلى ضرورة إتمام التشاور “في وقتٍ مبكِّرٍ” منعًا للانتقاد العامِّ، الأمر الذي وافق عليه جاووش أوغلو.
إن حكومة أردوغان ستستغلُّ هذا القانون في تضييق الخناق على الصحافة الإلكترونية، تمامًا مثلما فعلت مع وسائل الإعلام المطبوعة والمسموعة والمرئية، وستقمع المنافذ الإعلامية المنتقِدة لسياساتها في الوقت نفسه الذي تدعم فيه المواقع الإخبارية الموالية للحكومة. غير أن هذا الاتفاق لم يُحترَم على الإطلاق. وبغض النظر عن مسألة نقاش المسوَّدات مع مسؤولي الاتحاد “في وقتٍ مبكِّر”، فإن حكومة أردوغان لم تَسْعَ حتى إلى مشورة وزارة شؤون الاتحاد الأوربي -وهي جزءٌ من الحكومة ذاتها- حول الانعكاسات المحتمَلة لهذه المسوَّدات على عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوربي قبل إحالتها إلى البرلمان.
وتوجُّسًا من أن تكون حكومة أردوغان إنما أرادت كسب بعض الوقت لتجاوز مشكلاتها الداخلية وسعت إلى تفادي مزيد من انتقادات الاتحاد الأوربي، فقد كشف فولي النقاب عن اتفاقه الخاصِّ مع جاووش أوغلو في 10 من أبريل في أثناء إلقائه خطابًا أمام اجتماع “اللجنة البرلمانية الأوربية التركية المشتركة” المنعقد بالبرلمان الأوربي في بروكسل. ودون خوض في كثير من التفاصيل، فإنه قال: “أعتقد أننا بحاجةٍ فعليةٍ إلى تغيير أسلوب تعاوننا في ما يتعلق بمفاوضات طلب العضوية، ولذلك أهميةٌ خاصَّةٌ في مجالَي سيادة القانون والحقوق الأساسية. كما أعتقد أننا بحاجةٍ إلى تكثيف نقاشاتنا في جميع مراحل وضع السياسات والقوانين المتعلقة بهذه القضايا التي تقع في الصميم من إجراءات قَبُول العضوية”. وإضافةً إلى ذلك فقد تعهد قائلاً: “سنعامل هذه المسائل كأولوياتٍ مُطلَقة”.
إن لهذه المسوَّدة المعدِّلة للقوانين المنظِّمة لوسائل الإعلام الإلكترونية في تركيا تداعياتها على الفصل العاشر المتعلق بمجتمع المعلومات ووسائل الإعلام، وكذلك على الفصل الثالث والعشرين الذي يتناول الحقوق الأساسية والقضائية. كما أنها قد تؤدِّي إلى بزوغ تحدِّياتٍ قانونيةٍ أمام “المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان” حول المادة العاشرة من “الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان” التي تنصُّ على صون حرية التعبير. وفي الشكل الحالي للمسوَّدة تُخوِّل المادَّة السابعة إلى الوكالة الحكومية المختصة (هيئة الاتصالات) إلغاء “الهُوِيَّات الصحفية” في أثناء إجراء التحقيقات مع الصحفيين، كما يُمكنها استغلال هذه التحقيقات ذريعةً لوقف الإعلانات الرسمية (التي تُموِّلها الدولة) في البوابات الإخبارية الإلكترونية، في تجاهلٍ واضحٍ لمبدأ افتراض براءة المتهَم حتى تثبت إدانته.
وليس لهذه العقوبات الإدارية الصادرة عن كيانٍ سياسي مراجعةٌ قضائيةٌ سابقةٌ، والأكثر من ذلك تَبَنِّي الحكومة تدابيرَ صارمةً في التعامُل مع وسائل الإعلام الإخبارية الإلكترونية لا يُمكن تطبيقها على وسائل الإعلام التقليدية المطبوعة والمسموعة. مثل هذه التدابير تتضارب تضارُبًا واضحًا مع تشريعات “الاتحاد الأوربي”، وكذلك مع معايير “المجلس الأوربي”، وبالذات مع قوانين “المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان”.
توجد كذلك نقطةٌ أخرى تثير الجدل في المادة الثامنة من المسوَّدة التي تُوجِب على المواقع الإخبارية الإلكترونية الاحتفاظ بمحتوياتها مُخزَّنةً لمدة ستة أشهرٍ وتقديمها للسلطات عند الطلب. وبالنظر إلى أن “محكمة العدل الأوربية” قد قضت في الثامن من أبريل بإلغاء “تعليمات الاحتفاظ بالبيانات” (رقم 2006/24/EC) التي سوَّغَت للدول الأعضاء تخزين بيانات الاتصالات السلكية واللاسلكية الخاصة بالمواطنين لمدةٍ لا تقلُّ عن 6 أشهرٍ ولا تزيد على 24 شهرًا، فإن في المسوَّدة التركية بندًا مماثلاً من شأنه أن ينتهك مبدأ التناسُب بين جسامة الفعل والإجراء المتخَذِ حِيالَه، والحقّ في الخصوصية، وحماية البيانات، وحرية التعبير.
يعمل بالفعل عددٌ كبيرٌ جدًّا من البوابات الإخبارية الإلكترونية على نشر الكراهية ومهاجمة معارضي أردوغان، ويُزعَم أنها تحظى بدعمٍ ضمنيٍّ من الحكومة ووكالة استخباراتها سيئة السُّمْعة. أما المواقع الإخبارية التي توجه النقد -من الناحية الأخرى- فتهددها بالحجب باستمرار “هيئة الاتصالات” التي منحها قانون الرقابة على الإنترنت الصادر مؤخرًا صلاحياتٍ هائلة. ومن المتوقع أن يُصدِّق البرلمان على مشروع القانون الذي مرَّرَته اللجنة الفرعية المنبثقة عن “لجنة العدل” البرلمانية دون أي تغييرٍ يُذكَر. والحقيقة أن سبعًا من المجموعات الداعمة لصحافة الإنترنت ووسائل الإعلام الإلكترونية لم تُكلِّف نفسها حتى مجرَّد عناء الظهور خلال لقاءات الاتحاد الأوربي.
ويُشير اجتماع “لجنة التنسيق مع الاتحاد الأوربي” في 24 من أبريل إلى أن فصائل المجتمع المدني قد تَخَلَّت عن طموحاتها في التأثير على عملية سَنِّ القوانين، فجميعها تعرف أن كل ما سيقولونه لن يُشكِّل أي أهميةٍ على الإطلاق، لأن الحكومة تحاول ببساطةٍ إخماد أصوات التسريبات التي تتناول قضايا الفساد وغيرها من التحقيقات المسيئة إليها التي تُنشَر على المواقع الإخبارية الإلكترونية. وبما أن كيفية تطبيق هذا القانون -حالَ إقراره- متروكةٌ للحكومة، فسيشهد التطبيق كذلك مزيدًا من فرض القيود.
إن حكومة أردوغان ستستغلُّ هذا القانون في تضييق الخناق على الصحافة الإلكترونية، تمامًا مثلما فعلت مع وسائل الإعلام المطبوعة والمسموعة والمرئية، وستقمع المنافذ الإعلامية المنتقِدة لسياساتها في الوقت نفسه الذي تدعم فيه المواقع الإخبارية الموالية للحكومة. ويعمل بالفعل عددٌ كبيرٌ جدًّا من البوابات الإخبارية الإلكترونية على نشر الكراهية ومهاجمة معارضي أردوغان، ويُزعَم أنها تحظى بدعمٍ ضمنيٍّ من الحكومة ووكالة استخباراتها سيئة السُّمْعة. أما المواقع الإخبارية التي توجه النقد -من الناحية الأخرى- فتهددها بالحجب باستمرار “هيئة الاتصالات” التي منحها قانون الرقابة على الإنترنت الصادر مؤخرًا صلاحياتٍ هائلة. كما سيوفِّر مشروع قانون الصحافة الإلكترونية وسائل جديدةً تستغلُّها الحكومة في القضاء على البقية الباقية من وسائل الإعلام المعارضة في البلاد، حتى إنه لَيبدو أن تركيا قد غرَّرَت بستيفان فولي من جديد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة تودايس زمان، 19 مايو 2014