– (الزمان التركية): في سلسلة مقالاته في موقع صحيفة “الأهرام” المصرية، نشر الصحفي الجزائري خالد عمر بن ققه مقالًا بعنوان “بداية فتح الله كولن.. نهاية أردوغان”، تناول فيه رؤيته حول الوضع التركي بعد الانقلاب الفاشل في منتصف يوليو/ تموز الماضي، وحلّل ما يقوم به الرئيس التركي من ملاحقات لقادة وأتباع جماعة الخدمة.
يقول خالد عمر بن ققه:
ما يحدث فى تركيا هذه الأيام ليس موقفاً حاسماً من رئيس نجح فى افشال انقلاب ـ كاد يطيح به وبحزبه، من خلال قراراته المدعومة من الأنصار والأتباع وقطاع عريض من الجيش والشرطة، ولكنه صراع بين رؤيتين حول مصير الدولة التركية حاضرا ومستقبلا، وما سيتبع ذلك من تداعيات على المنطقة والعالم الإسلامي.. رؤية أولى لطرف داخل السلطة، ورؤية ثانية لفريق خارجها، والمشكلة فى الصدام المنتظر بينهما على المستوى الشعبي.
الرؤية الأولي، تخصًّ محمد فتح الله كولن، وهى أقرب لما تطلق عليه بعض الدوائر بالإسلام الشعبي، حيث تتميز جماعته بالعمل مع الآخر الداخلى والخارجي على التعايش، ويمكن أن نختصرها هنا فى ثلاثة أبعاد أساسية، أولها: الفعل من حيث هو تطبيق عملى للإسلام، يجعل من التنظير ممارسة، والتنظير هذا ينطلق من ميراث دينى عميق لــ« فتح الله كولن» على مستوى الانتماء الأسري، والوطني، وأيضا على مستوى الاستحضار لقيم الأمة الإسلامية ورسالتها عبر قرون خلت.
ويتجلى الفعل هنا فى توسيع مجال الخير لجهة خدمة المسلمين فى تركيا وفى خارجها، بحيث يشمل جمهورا واسعا، ويمسًّ بشكل مباشر «الإطعام من جوع»، و«الأمن من الخوف» و«القضاء على الجهل»، باعتباره المعطل للتنمية وبالتالى المهدد للإيمان، وكل هذه الأعمال وغيرها تدخل تحت ما يعرف فى تركيا بــ«الخدمة الإيمانية»، وهى تُخاطب وتعمل من أجل تقوية الجبهة الداخلية.
البعد الثاني: مجال حركة الفعل، وتبرزه مناطق ثلاث، الأولى : تركيا ليس فقط لكونها قاعدة الانطلاق، ولا لأنها بيئة الحركة، ومنبع العطاء لحركة كولن فحسب، ولكن لأن هذا المشروع تأسّس فى البداية من أجل إحياء دور الإسلام من خلال مواجهة بين الفكر الدينى وبين أطروحات التتريك والشيوعية فى الجامعات التركية، وتذهب بعض الدراسات إلى أن هذه الحركة أسهمت بشكل مباشر فى انقاذ الجامعات والتعليم عموما من الانهيار، وإن كانت مهّدت لدورلاحق للإخوان المسلمين.
الثانية : الفضاء التركى من حيث اللغة والقومية، ولذلك ركزت جماعة كولن جهودها على الدول التى يتواجد فيها أتراك، جمهوريات القوقاز مثلا، وبغض النظر عن موقف البعض من أن هذه النظرة ـ ربما دون قصد ـ قد ضيّقت من دور الأمة الإسلامية، لكن فى حقيقة الأمر أن نتائج هذا الفعل مفيدة لنا نحن العرب، لأنها تقف ضد أى تدخل تركى فى المنطقة على غرار ما فعل الرئيس أردوغان خلال السنوات الماضية، حين أسهم، ولا يزال، فى اشعال المنطقة وخاصة سوريا.
الثالثة : الفضاء غير التركي، ويقصد به كل الفضاء الإسلامى وغير الإسلامى خارج تركيا، ويتجاوز الأقليات التركية فى الدول الأخري، وهنا تظهر بوضوح استراتيجية كولن، لجهة تعميم الخدمة الإيمانية، لدرجة أنه يخاطب العالم بلغته، فمثلا: لغة التدريس فى مدارسه وجامعاته خارج تركيا هى اللغة الإنجليزية، مرفقة باللغة الأم، ثم اللغة التركية لمن أراد أن يتعلمها، ولأن مشاريعه تتميز بالوضوح واليسر والروح الإسلامية العالية، فهى مقبولة ومرحب بها فى عدد من الدول الإسلامية، بما فيها الدول العربية، وما نشاطه التعليمى والخيرى فى كينياوأوغندا، والأردن والمغرب إلا أمثلة كاشفة عن رسالة الرجل وجماعته.
البعد الثالث لرؤية كولن، وهو الإسلام فى بعده العالمى من حيث أنه دين رحمة وتسامح، لدرجة أنه يعمل من أجل التعايش مع الغرب ضمن استراتيجية هادفة وواعية، وقد نتج عن ذلك أمران نقيضان:
الأول: اعتراف الغرب به، وخاصة الولايات المتحدة، وبالتالى السماح له بالنشاط، ومن ثم تأييده وحمايته إلى حين، وإن كانت أمريكا تعتبره ورقة ضغط على تركيا تستغلها فى الوقت المناسب، ويكمن أن تضحى به فى أى وقت، وقد سيق لها أن تخّلت عن أكثر قادة العالم قربا منها وطاعة لها، لدرجة العبودية أحيانا.
الواقع أن الغرب يرى فى كولن ـ وذلك ضمن نظرة شاملة لما يمكن أن نطلق عليه الإسلام المتصوف أو الصوفى مطوعا للمجتمعات الإسلامية، وقوة مواجهة حقيقية للجماعات الدينية الأخرى الجهادية والسلفية وحتى ما يطلق عليه مصطلح «أنظمة وأحزاب وجماعات الإسلام المعتدل» على مستوى الجبهة الداخلية فى المجتمعات الإسلامية والعربية.
الثاني: وهو الاختلاف معه، ثم إبعاده، وأخيرا محاربته من منطلق أنه كان وراء الانقلاب الفاشل، والآن، بقدر ما هو معترف به غربيا وأمريكيا ـ إلى حين كما ذكرت سابقا ـ فإنه مرفوض تركياًّ وخاصة من الرئيس أردوغان ومن حزب العدالة والتنمية، وتلك مشكلة كبرى بل إنها تمثل إشكالية فى الفكر السياسى للتنظيمات الإسلامية، سواء التى وصلت إلى السلطة أو تلك التى ظلّت معارضة، أو حتى التى اتّخذت من العنف والإرهاب منهجا وأسلوبا وهدفا، وتقوم على إلغاء التعدد والتنوع والاختلاف، ملك المسائل التى يُقرِّها الإسلام بنص الآيات القرآنية.
هذا يقودنا إلى رؤية الرئيس رجب طيب أردوغان، وهى معروفة، وتزداد وضوحا فى مثالبها السياسية، وتُأزم الواقع السياسى لتركيا، وتدفعه نحو فتنة هى أشد من القتل، وهى مناقضة تماما لرؤية كولن، صحيح أن أردوغان يتحكم فى مؤسسات الدولة لجهة صناعة القرار، لكنه يدرك أن كولن يحظى بدعم واسع من الناحية الشعبية، والملاحقات والتصفيات والمحاكمات الحالية، هدفها القضاء على تحكم جماعة كولن فى حركة المجتمع، وأردوغان لا يرى فيها خطورة على الدين والمجتمع، وإن كان يحاول تسويقها للشعب التركى وللعالم الخارجى على هذا الأساس، ولكن يرى فيها خطورة عليه شخصيا، ولأن رؤية كولن ــ صارت واقعا عملياًّ، فإن الرئيس أردوغان يتجه نحو نهاية مؤلمة له ولحزبه، ولتركيا أيضا، حتى لو سلمته الولايات المتحدة «فتح الله كولن»، بل إن تسليمه، سيُعجَّل بنهاية أردوغان.. إنه فى حكم المنتهى.