بقلم د. محمد جكيب
الأحداث في تركيا ينبغي أن لا نمرّ عليها مرور الكرام، وينبغي أن لا نعتبرها مجرَّد أحداث تُحَرَّر على هامشها المقالات وتدبَّج التحاليل، فالحدث عظيم يعكس ظاهره صراعًا كما يطلق عليه البعض، في شكل استهداف طرف متحصن بالحكم والسلطة طرفًا آخَر، لكن خلفية الحدث تقدِّم عدة مؤشرات على أن تركيا والجغرافيا القريبة منها تقف على بوابة تحوُّل كبير آخذ في التشكُّل، وما نشهده هو الشجرة التي تُخفِي الغابة.
مِن الحصافة عدم التفاعل مع حدث “الانقلاب الفاشل” بمعزل عن مسلسل أحداث كثيرة سابقة، ولا فصله عن الجوّ العامّ للأحداث التي تعرفها منطقة الشرق الأوسط والتي تؤدِّي فيها تركيا دورًا ما في حضور أطراف أخرى كروسيا وإيران، وغيرهما.
بدايةً لا يجد المتابع إلا أن يشجب الانقلاب، بغضّ النظر عن كونه محاولة حقيقية جرى إفشالها، أو كونه انقلابًا حِيكَ بإحكام، لِمَرامٍ وغايات يمكن تلمُّس بعضها، والعجز عن الوصول إلى المرامي الأخرى لعدم وضوح الرؤية أولًا، وثانيًا لأن نتائج العملية الانقلابية متوقفة على ما سيأتي به تطور الأحداث مستقبَلًا، وثالثًا لأن معالم انقلاب على هامش انقلاب آخَر آخذة في التمدُّد والتوسُّع.
إن رفض الانقلاب مسألة مبدئية، لأن نجاحه يعني شيئًا واحدًا هو توقُّف تطوُّر المسلسل الديمقراطي، الذي قطعت فيه تركيا أشواطًا مهمة، وهو يمثل متنفَّسًا لشرائحَ واسعةٍ للمجتمع الكبير، على الرغم من التراجعات الكبيرة التي سجَّلها المراقبون في الفترة الأخيرة، بعد فضائح الفساد التي تَورَّط فيها مقرَّبون من دائرة رئيس الوزراء آنئذ والرئيس التركي حاليًّا.
كثيرون سيرجعون بذاكرتهم إلى أحداث الفساد سنة 2013 وما تبعها من تضييق على الحريات العامة، لكن هذا الحدث ليس سوى حدث بسيط يُخفِي تضارُبًا عميقًا في الرؤى والمواقف، ولعلّ الديمقراطية ومنهج تصريفها أحد أهم أسباب الخلاف، بالإضافة إلى العلاقة مع الغرب عمومًا، والعلاقة مع الاتحاد الأوربي على وجه التحديد.
لقد تابع العالَم وقتها بدهشة كبيرة الحملة التي شنَّها رجب طيب أردوغان على فتح الله كولن، إذ سيعرف القاموس السياسي في تركيا مصطلح “الكيان الموازي” الذي ادَّعى أردوغان أن فتح الله كولن يتزعَّمه، لتنطلق بعد ذلك حملة “شيطنة” زعيم “الكيان الموازي” المفترَض، وشيطنة أتباعه، وتنطلق حملة “مطاردة السَّحَرَة” كما أطلق عليها، حملة لم تترك سبيلًا لمضايقة الخدمة ومؤسَّساتها إلا سلكته، وقد كان واضحًا آنئذ أن الاختلاف إن كان سياسيًّا في الظاهر، فإنه في العمق كان اختلافًا ثقافيًّا وفكريًّا حول عمق العلاقة التي تربط كل طرف على حدة بالمنظومة الإسلامية باعتبارها منظومة كلّية ينبغي تمثُّلها مهما كانت الظروف والصعوبات، وجدير بالذكر أن أردوغان كان حاول بكل ما في وسعه جرّ حركة الخدمة إلى مواجهة مباشرة، في الوقت الذي تكررت فيه دعوات فتح الله كولن إلى التهدئة والتجاوز عن الإساءة والتذكير بأن الأيام كفيلة بأن تُبرِز مسلك كل طرف على حدة، لكن لم يكُن بمقدور أي أحد الجزم بأن حملة تشويه صورة فتح الله كولن والخدمة، مجرَّد سيناريو لتنفيذ مخطَّط سياسي يروم الانحراف بالمسلسل الديمقراطي في تركيا في اتجاه معيَّن سيظهر من خلال إفصاح أردوغان عن رغبته في تحول تركيا إلى النظام الرئاسي.
وعلى هامش هذه الحملة وفي إطار التضييق على الحريات العامة، كانت الصحافة والإعلام في مقدِّمة الأهداف، بخاصة صحافة المعارضة، بدعوى الانتماء إلى “الكيان الموازي”، وأُجبِرَ بعض المؤسسات الإعلامية على إعلان إفلاسه ثم إغلاقه أو الاستيلاء عليه، وإعادة توجيه خطه الإعلامي في اتجاه يخدم أهدافًا محدَّدة تروم إعداد الرأي العامّ لأمر ما، وتكشف الأحداث الجارية الآن بعض معالم الغاية التي استُهدف من أجلها الإعلام.
السؤال الذي يفرض نفسه في هذا المقام هو: لماذا تفاعل الشارع التركي ضدّ الانقلاب ووقف في وجه العسكر، لتتحرك الآلة الإعلامية مركزة على دوره في إفشال العملية الانقلابية؟ هل لأنه يخشى على الديمقراطية، أم لأن علاقةً عاطفيةً تربطه بالزعيم الذي اشتغل خلال العقد الأخير وقبله على تلميع صورته وقُدّم على أنه هو البطل المدافع عن قضايا المسلمين وأنه سيحقق ما لم يستطِع أحد تحقيقه لقضايا الأُمَّة الشائكة؟
ألا نلمس معالم خطة مدروسة أساسها تشكيل اقتناع حول بطل يستطيع استدراج ملايين لقبول التحوُّلات الآتية، عبر ملفات دبلوماسية مع الدول الكبرى، وربما على متن الدبَّابات؟ من يدري؟ المؤشرات تشير إلى أن المنطقة تقف على صفيح ساخن، وعلى بوابة تحوُّل كبير، كما سبقت الإشارة.
على كل متنعِّم في الأحداث الأخيرة أن لا يضع ستارا يحجب ما يجري في جنوب تركيا، حيث المشكلة الكردية، وعودة حزب العمال الكردستاني إلى حمل السلاح وتنفيذ عمليات ضدّ الجيش التركي والمدنيين، والكل يدرك وجود تعتيم كبير على ما يجري في “غازي عنتب”، باعتبارها بوابة مفتوحة على شماليّ العراق وعلى مقربة من سوريا. وقد سبق لكاتب هذا المقال في مناسبة سابقة أن ذكّر بدور الخدمة في نشر وعي تربوي يَحُول دون انخراط أبناء المنطقة في العنف، ويدفعهم إلى المساهمة في تنمية منطقتهم، لكن الحملة ضدّ “الخدمة” قد تكون وقفت هذا النشاط.
وغيرَ بعيدٍ عن هذه الجغرافيا تبرز الإشكالية العراقية المركَّبة، حيث الطائفية والداعشية تصنعان الحدث، وأما الوضع في سوريا فإذا نظرنا إلى حجم ما تم ترويجه في بداية الأزمة، فإن تراجعات كثيرة قد سُجّلت، ولا أحد يدري لمصلحة من!
إضافة إلى كل ما تَقدَّم هناك أحداث ينبغي استحضارها في محاولة فهم قضية الانقلاب الفاشل، لأنها سبقت حدث الانقلاب بمدة وجيزة، فأولًا أقدم أردوغان على تقديم اعتذار لروسيا بشأن الطائرة التي أُسقِطَت قبل شهور، وهو الحدث الذي حرصت الحكومة التركية وأردوغان على وجه التحديد على التشدُّد في مواقفهما بخصوصه، إذ ظهر الزعيم التركي في صورة بطل يحرص على أن تكون تركيا دولة قوية لا تقدِّم تنازلات.
أما الحدث الثاني فهو الاتفاق التركي الإسرائيلي، الذي تم بموجبه تطبيع العلاقات بين إسرائيل وأردوغان على المستوى السياسي، وتجدر الإشارة إلى أن العلاقات التجارية لم تتوقف بين إسرائيل وتركيا، بالإضافة إلى أن هذه العلاقات مسألة استراتيجية لا تتأثر بالأحداث. والأزمة التي حصلت كانت ربما أسلوبًا لتلميع صور رئيس الوزراء آنذاك.
ثالثًا عرف المشهد التركي قبل سنوات قليلة إقدام أردوغان على توجيه ضربة مُوجِعة للدولة العميقة الممثلة في “أرجينيكون”، التي تتشكل أساسًا من عدد كبير من جنرالات الجيش المتقاعدين الذين لم يتركوا محاولة التحكُّم في الشأن السياسي الداخلي بشتَّى الوسائل، إذ ثبت ضلوعهم في محاولات انقلابية سابقة، وقد حُكم عليهم بالسجن، ليصدر في ما بعد قانون بإعادة محاكمتهم لتُبرَّأ ساحتهم ويخرجوا من السجن متوعِّدين.
كل هذه المعطيات يُفترض استحضارها عندما تتحرك رغبة تحليل الانقلاب، وبكلام دقيق ينبغي عدم النظر إلى حدث الانقلاب مفصولًا عمَّا سبقه وعما تلاه حتى الآن وعما سيأتي.
السؤال هو: لماذا قد يكون أردوغان هو من دبَّر هذا الانقلاب ضدّ نفسه؟ يبدو أن المنطقة، خصوصًا المنطقة العربية، مقبلة على تحوُّل كبير جدًّا، وتركيا قد تلعب دورًا ما في هذه اللعبة، أو هي على علم بذلك وأحد المنفّذين، ولَمَّا كان أردوغان يعلم أنه سيجد معارضة قوية من “الخدمة”، فلم يكُن أمامه سوى شيطنة هذه “الخدمة” واتهامها بتدبير الانقلاب.
تصنَّف الخدمة وفتح الله كولن على أنه أرسى أسس الإسلام الاجتماعي القائم على مبادرة المجتمع نفسه وأخذه بزمام المبادرة في مقابل الإسلام السياسي، ومن هنا فإن الأمر في العمق يتعلق بمنظومتين متعاكستين في التعامل مع الإسلام، بعبارة أخرى عمل فتح الله كولن على بناء أسس مجتمع يتمثل القيم الأخلاقية ويحرص على تنزيلها رغم كل الظروف والصعاب، وهذه القيم نفسها هي التي منعت الخدمة من أن تغضّ الطَّرْف عن قضايا الفساد سنة 2013، في حين برز حزب العدالة والتنمية حزبًا سياسيًّا حريصًا على التحكُّم في السلطة والتشبُّث بها، منسجمًا في ذلك مع حقيقة العمل السياسي الحزبي، الذي قد يضطرّ إلى توظيف القيم والأخلاق أو تجاوزها حسبما تقتضي المصلحة السياسية.
علينا التسليم بأن قضية الفساد هي القضية التي أفاضت الكأس وجعلت الخلاف يطفو على السطح، لكن حدة الخلاف كانت وصلت حدًّا من عدم التوافق والاتفاق قبل 2012، وهو ما عبَّرَت عنه وسائل إعلامية في أكثر من مناسبة قبل تفجِّر الأزمة.
كل هذه المعطيات وغيرها تجعل الملاحظ يميل إلى القول بأن أردوغان قد يكون ضالعًا في تدبير هذا الانقلاب ضدّ نفسه حتى يحصل على فرصته التاريخية لتصفية حساباته مع خصومه، وحتى إذا سلّمنا -كما قال- بأنه لا يد له في الانقلاب وبأنه هدية من السماء، فإنه قد اتخذه مطيَّة لكل الإجراءات التي ينفّذها، والتي سينفّذها، وهو ما يمكن اعتباره مقدِّمات لدخول تركيا في متاهة.