بقلم: ياوز أجار
برلين (زمان التركية) – في مثل هذا اليوم من عام 1997 شهدت تركيا انقلابًا مختلفًا عن جميع الانقلابات المعهودة لا تزال بصماته مستمرة في الحياة السياسية والمدنية، نظرًا لأن منفذي الانقلاب كانوا زعموا أنهم قاموا بإعادة تصميم تركيا لألف عام قادم من خلال هذا الانقلاب!
قامت زمرة عسكرية قليلة من حيث العدد، قوية من حيث التأثير والنفوذ، ومعها سند من وسائل الإعلام المؤثرة، وأجنحة ما يسمى “الدولة العميقة” الأخرى أو عصابة “أرجنكون” في كل مؤسسات الدولة والحياة المدنية، بانقلاب عسكري في 28 فبراير/شباط من عام 1997، استهدف الحكومة الائتلافية بين كل من حزبي الرفاه الإسلامي بقيادة الراحل “نجم الدين أربكان” والطريق القويم برئاسة السيدة “تانسو تشيلّر”.
عصابة أرجنكون كانت المحرض الأبرز لجنرالات الجيش على هذا الانقلاب، أو بعبارة أصحّ إن هذه العصابة استغلت مطامع بعض الجنرالات أو مخاوفهم من فضح ملفاتهم، بالإضافة إلى المقتنعين بضرورة الانقلاب، ومارست بكل وسائل الإعلام الضغوط على حكومة أربكان أسفر في نهاية المطاف عن سقوطها.
لكن الذي ميّز هذا الانقلاب عن نظيراته الثلاثة السابقة (1960، 1971، 1980، 1997) أنه لم يكن انقلابًا عسكريًّا تقليديًّا استُخدمت فيه الأسلحة والدبابات بصورة أساسية، وإنما تمثل في إدارة “حرب نفسية” وممارسة ”ضغوط” على الحكومة لإخضاعها لإرادة وخطة تنظيم أرجنكون، وإنشاء مناخ ترويعي في المجتمع، حتى يفرض على المجلس العسكري الانقلابي من تنفيذ مشروعه المعد لألف سنة قادمة، بحسب تعبير المجلس.
وهذا الفارِق جعل الرأي العام والباحثين أن يطلقوا على هذا الانقلاب مسميات: “الانقلاب الأبيض” و“الانقلاب الناعم” و“انقلاب ما بعد الحداثة”، وأن تستمرَّ الأجواء السلبية التي خلقتها حتى إلى يومنا هذا.
لقد تمتع المتورطون في هذا الانقلاب بحصانة قانونية لمدة أكثر من 15 عامًا ولم يتمكن القضاء من محاسبة أدنى شخصية منهم، حتى جاء عام 2013 ليمثلوا أمام المحكمة لأول مرة، وذلك بعد إجراء تعديلات جذرية في القوانين في أعقاب انطلاق القضايا المتعلقة بعصابة أرجنكون الإجرامية الانقلابية. وأسفرت المحاكمة عن اعتقال 76 شخصًا، بينهم كبار الجنرالات، وعلى رأسهم الجنرال جفيك بير وتشاتين دوغان.
ومع أن هذه المحاكمة مثلت سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ تركيا الحديث، نظرًا لأن كل الانقلابيين والمحرضين على الانقلاب لم يخضعوا لأي محاسبة قانونية قبل ذلك التاريخ، إلا أن هذه الخطوة التاريخية تعرضت للنكسة عندما اضطرت حكومة أردوغان إلى الاتفاق مع عصابة أرجنكون والجنرالات الانقلابيين بعد فضائح الفساد والرشوة في نهاية عام 2013، حيث خرجوا من السجن قيد المحاكمة في عام 2014.
وأرجع أردوغان سبب الإفراج عن أعضاء عصابة أرجنكون والجنرالات الانقلابيين إلى أن حركة الخدمة المستلهمة من فكر الداعية الإسلامي فتح الله كولن دبرت مؤامرة ولفقت جرائم لاعتقال أعضاء عصابة أرجنكون والجنرالات الانقلابيين وهم برآء من التهم المنسوبة إليهم، وهي الآن تسعى إلى الإطاحة بحكومته من خلال تحقيقات الفساد والرشوة التي لفقتها أيضًا وهي بريئة منها، على زعمه.
إلا أن أردوغان لم يغلق هذا الملف تمامًا وأبقاه مفتوحًا لكي يستخدمه كالسيف المسلط عليهم عند الضرورة، لذا نرى أن النيابة العامة طالبت في نهاية العام الماضي (2017) بإنزال عقوبة الحبس المؤبد على 60 جنرالاً وضباطًا عسكريًّا من أصل 76 شخصًا يخضعون للمحاكمة في إطار قضية “انقلاب شباط 1997 الناعم”، في مقدمتهم رئيس الأركان الأسبق الجنرال “إسماعيل حقي كارادايي” والجنرالان اللذان لعبا دورًا مهما في هذا الانقلاب “تشافيك بير” و”تشاتين دوغان”.
وقد فرح إعلام أردوغان بهذا القرار من خلال العناوين التي وضعها في صفحاته الأولى، حيث وضعت صحيفة “صباح” المملوكة لعائلة أردوغان مانشيت: “ليس انقلابًا ناعمًا بل انقلاب حقيقي: طلب الحبس المؤبد لستين جنرالاً انقلابيًّا”، فيما عنونت صحيفة “ستار”، التي تعتبر المتحدثة باسم الحكومة: “تحجيم وتأديب للجنرالات الانقلابيين”، وكذلك وضعت كل الصحف الأخرى الداعمة لأردوغان عناوين مشابهة.
أما إعلام أرجنكون فحاول ربط قضية “الجنرالات الانقلابيين” مع حركة الخدمة، كعادته، حيث زعم أن المدعي العام الذي أعد مذكرة الادعاء الخاصة بهذه القضية قبل 5 سنوات هو “مصطفي بلجيلي” القابع حاليًّا في السجن بتهمة “الانتماء إلى حركة الخدمة”. فصحيفة “آيدينليك”، التي تعتبر المتحدث باسم إحدى المجموعات المؤثرة في أرجنكون، صدرت بعنوان “تنظيم فتح الله كولن أعد مذكرة الادعاء بينما قدمها المدعي العام للمحكمة”، وانتقدت موقف إعلام أردوغان بعنوانها الفرعي قائلة: “انبعاث روح تنظيم فتح الله كولن لدى إعلام السلطة/أردوغان!”، بينما وضعت صحيفة “سوزجو” المعروفة بجذورها العلمانية عنوان “طلب الحبس المؤبد لستين جنرالاً بناء على أدلة قدمها تنظيم فتح الله كولن…”، وزعمت أن المدعي العام زكريا أوز، “المنتمي إلى حركة الخدمة”، الذي أشعل فتيل قضية أرجنكون، من يقف وراء هذه القضية أيضًا، وأن أدلة الإدانة مزورة غير صحيحة.
عناوين إعلام كل من أردوغان وأرجنكون تدل على أن الطرفين على دراية جيدة برسالات التهديد المتبادلة بينهما.
والواقع أن عناوين صحف أردوغان تتناقض مع مزاعمها الذاهبة إلى أن قضايا “باليوز/المطرقة” و”أرجنكون” و”جيتام” الانقلابية من تدبير حركة الخدمة، وأدلتُها مزورة، بهدف إقناع قاعدتهم الشعبية بأن تحقيقات الفساد والرشوة عام 2013 كانت مؤامرة نصبتها حركة الخدمة للإطاحة بالحكومة، بهدف إغلاق هذه التحقيقات، إلا أن مناورات أردوغان المتناقضة لا تزال تجد آذانًا صاغية لها من أنصاره على الأقل.
فضلاً عن ذلك فإن إعلام أردوغان بات اليوم يزعم أن لحركة الخدمة يدًا في انقلاب شباط 1997 الناعم، على الرغم من أن هذه الحركة كانت من أكبر ضحايا هذا الانقلاب بشهادة القاصي والداني، بل بشهاد منفذي الانقلاب.
والآن سنحاول تسليط الأضواء على الخلفية التارخية لذلك الانقلاب الذي يعتبر الأكبر والأثقل والأطول زمناً من الانقلابات السابقة من حيث نتائجه وتداعياته الممتدة إلى اليوم.
إرهاصات انقلاب 1997 الأبيض
من الممكن أن نقول إن أمر عصابة أرجنكون كان معلومًا منذ القديم لدى عدد محدود ممّن حكموا تركيا من المسؤولين كطورغوت أوزال وبولنت أجاويد، وحاولوا تصفيته بصورة تدريجية، إلا أنه لم يسعفهم عمرهم أو عمر حكوماتهم.
في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1996، أي قبل سنة واحدة من الانقلاب العسكري الناعم في 1997، وقعت فضيحة هزت كل تركيا، وأصيب الجميع بالصدمة والدهشة، وشكلت منعطفًا مفصليًّا في تاريخ تركيا الحديث وأرجنكون، إذ تحطمت سيارة كان على متنها نائب مدير شرطة إسطنبول “حسين كوجاداغ”، والعضو البرلماني من صفوف حزب الطريق القويم وزعيم قبيلة كردية قوية “سدات بوجاق”، وقائد تنظيم “الذئاب الرمادية” القومي “عبد الله جاتلي”، الذي كان زعيم مافيويًّا و”قاتلاً مأجورًا” ومطلوبًا على قائمة الشرطة الدولية الإنتربول، عندما اصطدمت بشاحنة كبيرة قرب بلدة “سوسورلوك” التي تقع بمحافظة باليكسير، وفيها مجموعة من الأسلحة غير المرخصة.. أسفرت حادثة أو فضيحة “سوسورلوك”، التي افتضحت فيها لأول مرة العلاقاتُ القذرة بين الدولة والسياسة والمافيا للرأي العام عيانًا بيانًا، عن مقتل كل من مدير أمن إسطنبول وزعيم المافيا والسيدة جونجا أوس التي كانت تحمل هوية مزورة، فيما أصيب البرلماني سدات بوجاق.
ومن المثير للدهشة أن أحد أجنحة الدولة كان يصرّ على إطلاق تحقيق شامل حول الحادثة، فيما سعى أرجنكون بكل قواه إلى إسدال ستار على الفضيحة، بحيث كان أول من ذهب إلى مكان الحادثة وحاول اختطاف جثة زعيم المافيا عبد الله جاتلي هو الجنرال “ولي كوتشوك” الذي سُجن في إطار قضية أرجنكون بعد أكثر من 10 سنوات من هذه الحادثة. استطاعت محكمة أمن الدولة، بصعوبةٍ للغاية، إصدار قرار بحبس البرلماني سدات بوجاق سنتين فقط، ولم تستطع تشميل التحقيقات على عناصر أخرى بسبب العوائق التي وضعتها البيروقراطية العسكرية والمخابرات خاصة بضغوط أرجنكون. لذلك أصبحت التحقيقات التي أطلقها الأمن والمخابرات والبرلمان عقيمة لم تؤد إلى نتائج تكشف الخيوط التي تربط بين ثلاثية الدولة والسياسة والمافيا بشكل كامل. وكان الجنرال ولي كوتشوك رفض الإدلاء بأقواله للجنة التحقيق البرلمانية حول الحادثة، على الرغم من ثبوت تسجيل الهاتف النقال لمحمود يلدريم الملقب بـ”يشيل” (الأخضر)، أحد المتهمين في إطار قضية سوسورلوك، على اسمه. وكان كل من عبد الله جاتلي ومحمود يلدريم من رموز القوميين الأتراك أو الذئاب الرمادية.
الشعب يتعرف على “أرجنكون” لأول مرة
مع ذلك فإن الرأي العام سمع لأول مرة وبشكل صاخب جداً بتنظيم أرجنكون، ونظّم احتجاجات موسعة استمرت أسابيع وشهورًا طويلة، وبدأ يطالب بسياسة نزيهة لا تتدخل فيها كيانات خارجة عن إطار السياسة في إدارة البلاد. ولقد اعتبر الكاتب الصحفي “جلال كازداغلي” هذه الحادثة بداية مبادرة الدولة إلى تصفية تنظيم أرجنكون، في حين أن شامل طيار، الكاتب الصحفي السابق والنائب الحالي من حزب أردوغان، رأى أن الذي انكشف في حادثة سوسورلوك كان “الذراع اليمنى للدولة العميقة” التي كانت تستخدم عامة القوميين الأتراك، بينما ظهرت ذراعها اليسرى من خلال قضية أرجنكون عام 2007 في عهد أردوغان، على حد تعبيره.
ومع أن أرجنكون كان معلومًا لدى مجموعة قليلة من رجال الدولة لا يتجاوزون عدد الأصابع، غير أن هذا الشبح لم يتجسد في ذهن الرأي العام إلا بعد حادثة سوسورلوك المذكورة وما تبعها من أحداث متتالية. إذ شاهد الرأي العام أن هناك بعض الأشخاص يرون أنفسهم فعلاً فوق الجميع، ويرفضون الخضوع للقانون الذي يخضع له كل المواطنين، بل القانون لا يستطيع أن يلمسهم بشيء، حيث كان رفض بعض الموظفين، معظمهم من السلك العسكري والمخابرات، بصفتهم متهمين أو شهداء، في إطار قضية سوسورلوك، المثول أمام المحكمة، والإدلاء بأقوالهم.
وكان “أرجنكون” أصبح لأول مرة موضوعا لبرنامج تلفزيوني أعده وقدمه “جان دوندار”، الكاتب الصحفي الشهير، رئيس جريدة “جمهوريت” المعروفة بتوجهاتها العلمانية سابقًا في 7 يناير 1997 على شاشة قناة “شوو تي في” (Show TV) وناقش فيه “الكيانات غير القانونية داخل الدولة”، وسلّط الضوء على علاقة عديد من العصابات وزعماء المافيا، مثل عبد الله جاتلي المذكور، ببعض الدوائر المتنفذة في الأمن والجيش والمخابرات، وارتكابهم جرائم واغتيالات باسم الدولة، ومن ثم حصولهم على حصانة قانونية تمنعهم من أي مساءلة أو محاكمة قضائية.
وأكد ضيف البرنامج العسكري والكاتب الصحفي “أرول مترجملر” أنه اطلع على “أرجنكون” عن طريق اللواء المتقاعد “ممدوح أونلوتورك” الذي كان عضوا في هذا التنظيم أيضًا وقُتل عام 1991 على يد مليشي مسلح ينتمي إلى حزب جبهة التحرير الشعبية الثورية (DHKP/C)، لافتًا إلى أن التنظيم يضمّ في بنيته ضباطًا وأمنيين وأساتذة وصحفيين ورجال أعمال، وأن كل العصابات في تركيا تعتبر وحدات صغيرة تابعة له، وأنه فوق رئاسة الأركان العامة والحكومة وكل مؤسسات الدولة. وأكد أن الاغتيالات الصاخبة التي استهدفت الرئيس طرغوت أوزال والقائد العام لقوات الدرك الجنرال “أشرف بتليس” والكاتب الصحفي الشهير “أوغور مومجو” والكاتب “أحمد تانر كيشلالي” يقف وراءها تنظيم أرجنكون.
أرجنكون دولة داخل دولة.. من الحاضنة الأطلسية إلى الروسية
وقد ألف جان دوندار بالتعاون مع كازداغلي كتابًا سمياه “أرجنكون: دولة داخل دولة” (1997). وجاء في الكتاب أن أرجنكونَ الذراعُ التركية للتنظيمات التي شكلها حلف الناتو لمكافحة الشيوعية أصلاً، وينقل ما قاله بولنت أجاويد من أن عناصر دائرة العمليات الخاصة كانت تعمل مع الكوموندوز الأمريكان ضمن مؤسسة عسكرية أمريكية، لكن لفت الانتباه إلى أن معظم المتهمين بالانتماء إلى هذا التنظيم في الوقت الراهن ليسوا موالين وداعمين للولايات المتحدة وإنما هم من القوميين الطورانيين المتطرفين الموالين لروسيا، وذلك بعد أن اتخذت أمريكا قرارًا بالاستغناء عن أرجنكون عقب انتهاء الحرب الباردة بينها وروسيا، الأمر الذي دفع أرجنكون إلى الحاضنة الروسية تلقائيًّا.
العبارات التالية ترِد في تقديم كتاب دوندان وكازداغلي: “ستقرأون في ثنايا هذا الكتاب كيف تأسس تنظيمٌ على غرار تنظيم غلاديو في إيطاليا، وكيف تم توظيف القوميين القدماء (الذئاب الرامادية) في أنشطة غير قانونية، والمنافسة الشرسة بين أجهزة الاستخبارات، وكيف تجاوزت مكافحة العناصر الإرهابية التابعة لحزب العمال الكردستاني الحدود القانونية وتسببت في ظهور عصابات في منطقة شرق وجنوب شرق تركيا، وكيف أن هذه العصابات تورطت في عمليات مشبوهة كالعمليات الاستفزازية قبيل انقلاب 12 سبتمبر/أيلول 1980، واغتيال طرغوت أوزال، وستجدون فيه أيضا العالم السري لتنظيم أرجنكون؛ الدولة داخل الدولة.. ومن ثم ستندهشون كيف أن الدولة لم تستطع حتى اليوم محاسبة ما يرد في هذا الكتاب”.
الكتاب ينطلق أساسًا من حادثة سوسورلوك ويحاول الوصول إلى جذور أرجنكون، حيث يقول: “لقد أقبرت تركيا في ذاكرتها أكبر فضيحة شهدتها في تاريخها الحديث وأخفتها في ملفات كتبت عليها “سري للغاية”. لقد تم إسدال ستار على أسرار الدولة القذرة التي انكشفت من خلال حادثة سوسورلوك من دون نقاش وبحث وتحقيق، بعد أن كنا على وشك كشف القناع عن العصابات التي تحاول السيطرة على الدولة، والعلاقات بين المافيا والسلطة الحاكمة والتنظيم السري غير القانوني المكون أعضاؤه من القوميين القدماء ووحدة القوات الخاصة. بينما كان يجب على البرلمان وضع يده على الحادثة، ومبادرة المدعين العامين للكشف عن كل خفاياها وصلاتها، مهما امتدت، وكان ينبغي للرأي العام أن يكون حذرًا منتبهًا واعيًا، وأن يشكّلَ الإعلام فرقًا خاصة لمتابعة الحادثة بكل حذافيرها.. إلا أن ذلك لم يحدث”.
على الرغم من التشاؤم الذي اتسمت به نظرة جان دوندار، إلا أن زميله جلال كازداغلي يزعم أن تصفية أرجنكون بدأت بحادثة سوسورلوك، ومن بقي بعدها من عناصر التنظيم يصفها بـ”بقايا” أو “مخلفات أرجنكون” وكياناتٍ تحاول الحفاظ على وجودها بطريقة مبتدئة غير محترفة، في مقال كتبه في 2008. ويستشهد على ذلك بالاغتيالات التي أقدم عليها أرجنكون قبل حادثة سوسورلوك وتلك التي أقدم عليها بعدها. ويذكر أن أول محاولة اغتيال بعد هذا التاريخ نفذها أرجنكون ضد الناشط الكردي الحقوقي والبرلماني “آكين بيردال” في 12 مايو 1998، حيث كان رئيس جمعية حقوق الإنسان. وقد ألقت السلطات الأمنية القبض على منفذي الهجوم على الفور، كما ألقت القبض على جميع المتورطين في عمليات الهجوم والتخريب والقتل الأخرى التي أقدم عليها التنظيم، ما عدا مرة أو مرتين. في حين أن هذا النوع من الهجمات والاغتيالات كانت تبقى مجهولة الفاعل قبل عام 1996، بدءًا من الاغتيالات السياسية الصاخبة التي قتل خلالها كل من البيرفسيور “بحرية أوتشوك” والكاتب والسياسي “معمر أكسوي” والكاتب الصحفي “أوغور مومجو” الذي كان يبحث في تنظيم حزب العمال الكردستاني وتوصل إلى نتائج مذهلة في علاقاته بأرجنكون.. وهذا وحده يكفي إعطاء فكرة لنا عن هذا الفْرق بين أرجنكون ومخلفاته وبقاياه، على حد تعبيره.
ويحاول كازداغلي من خلال هذه العبارات الانتهاء إلى أن هناك “إرادة” داخل الدولة قررت التخلص من بقايا ومخلفات أرجنكون، بالتوازي مع التوجه الجديد الرامي إلى ترسيخ دولة القانون والإدارة المدنية الذي بدأ مع طرغوت أوزال الموصوف بـ”الرئيس المدني المسلم” وباني “تركيا المدنية”.
محاولات إعادة هيكلة أرجنكون
برنامج جان دوندار الذي تحدثنا عنه كشف الغطاء عن هذا التنظيم للرأي العام بنسبة معينة، إلا أنه كان مجهولاً بالنسبة للجماهير العريضة. لكن جسم هذا التنظيم بدأ يظهر رويدًا رويدًا للشعب التركي بلحمه وعظامه اعتباراً من عام 2001. فقد نشر الكاتب الصحفي المخضرم “فهمي كورو” مقالا بصحيفة “يني شفق” المعروفة بتوجهاتها الإسلامية وعلاقاتها القوية مع أردوغان والمخابرات في 30 إبريل/نيسان و1 مايو/أيار 2001 تحدث فيه عن حصوله على وثيقة مؤلفة من 24 صفحة تحت مسمى: “أرجنكون: مشروع التحليل وإعادة الهيكلة والإدارة والتطوير”. كانت الوثيقة تحمل تاريخ 29 أكتوبر/تشرين الأول 1999، وتتحدث عن وحدة سرية تحت اسم أرجنكون وإعادة تشكيلها وتنظيمها، وتحدِّد هدفها قائلة: “هدف هذا العمل الإسهام في إعادة تنظيم أرجنكون الذي تم تشكيله وفق المبادئ الأتاتوركية ويعمل ضمن القوات المسلحة؛ الحامية المخلصة الوحيدة للكمالية”.
أعنف رد فعل على ما كتبه فهمي كورو صدر من صحيفة “آيدينليك” التابعة لحزب العمال الذي تغير اسمه فيما بعد إلى حزب الوطن بقيادة دوغو برينتشاك. لقد احتج الكاتب “حكمت تيتشاك” في مقال نشرته آيدينليك في 6 مايو/أيار 2001 على فهمي كورو زاعمًا أن: “وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية سي آي إيه وحلف شمال الأطلسي “الناتو” وقادة المخابرات الوطنية التركية تقوم بعملية تشويه في كل المجالات، وتختلق ملفات وتقارير في إطار حرب نفسية تستهدف الجيش التركي، وما يحاك من قصص حول ما يسمى بتنظيم أرجنكون ليس إلا جزء من هذه المؤامرة”. ولا يخفى على أحد محاولة الكاتب إخفاء هذا التنظيم من خلال نظريات المؤامرة الخارجية أو أسطورة العدو، وتصوير المخابرات التركية من الأطراف الرامية إلى تلطيخ سمعة الجيش التركي.
وفي معرض رده على صحيفة آيدينليك، كتب فهمي كورو مقالاً جديدًا عن أرجنكون في مطلع مايو/أيار 2001 قال فيه: “اضطررت إلى الرد على التساؤلات الواردة حول أرجنكون. فالبعض ظنّ انطلاقًا مما كتبت أنه تنظيم تشكّل لأغراض مالية أو اقتصادية، في حين أن البعض الآخر ظنّ وجود صلة بينه وبين حزب الحركة القومية. أما الحقيقة فإن أرجنكون الذي ’تم إعداد تقرير يطالب بإعادة تأسيسه مجددًا‘ تنظيم كبير معقّد للغاية ولا يرتبط بحزب بعينه، ويهدف إلى إعادة هيكلة الدولة. لستُ أنا من ابتدع أرجنكون! الأمر معلوم لأربابه، فقد كان هناك تنظيم قوي يحمل الاسم نفسه داخل الدولة سابقًا. فالعسكري المنفصل من القوات البحرية أرول مترجملر نوّه بأنه اطلع على وجود هذا التنظيم لأول مرة عام 1980. كما أن الكاتب الصحفي جان دوندار سبق أن كتب بالتعاون مع الكاتب جلال كازداغلي كتابًا بعنوان ’أرجنكون: دولة داخل الدولة‘ بالاستناد إلى الوثائق”.
أرجنكون بصورته المدنية!
وبعد 11 يومًا من مقال فهمي كورو اختارت مجلة “أكسيون” الإخبارية الأسبوعية وثيقة أرجنكون المذكورة موضوع الغلاف. فقد أكدت المجلة في خبرها التحليلي الذي نشرته في 12 مايو/أيار 2001 وحمل عنوان “أرجنكون المدني” وتوقيع الكاتب الصحفي “هارون أوداباشي” أن تنظيم أرجنكون هو “صانع وتيرة انقلاب 1997 الناعم”. وقال الكاتب في خبره التحليلي: “هناك عديد من نقاط مظلمة يجب تسليط الأضواء عليها، وأسئلة لا بد من طرحها في مسألة أرجنكون. لا شكّ في أن هناك تنظيمًا تمتد أذرعه إلى كثير من الأماكن في داخل تركيا وخارجها. لكن ما هي الدوافع التي تحرّك هذا الكيان؟ فمثلاً لصالح من يعمل أو يحفظ مصالح أي جهة هؤلاء الأشخاص الذين ينفذون ما يسمونه ’عمليات وطنية‘.. العمليات التي لا ترِد في القوانين المعمول بها في بلادنا؟ هل هو كما يُزعم جزء من حلف شمال الأطلسي الناتو أو أي كيان آخر جذوره في الخارج أم هو كيان محلي تمامًا قومي أو يساري أو كماليّ؟ ما هي مقاصده الأساسية وما هي إستراتيجياته ومن هم أعضاؤه وأعداؤهم؟ وما هي العمليات التي نفذها حتى اليوم؟ وما هو وضعه الأخير؟ وما إلى ذلك من الأسئلة الأخرى التي تطول؟”.
وأوضح هارون أوداباشي أن الذي يضفي على أرجنكون أهمية هو العمليات التي قام بها في الداخل التركي، وأضاف قائلاً: “أرجنكون يؤمن إيمانًا جازمًا من صميم قلبه أنه حارس النظام الحالي في تركيا. وإذا ما اقترن هذا الإيمان بالقوة والسلاح فإنه يستطيع أن يفعل كل شيء من أجل القضاء على من أعلنه “الأعداء الداخليين”، بما فيه التصنيف والإقصاء والقتل.. نصب المكائد وحياكة المؤامرات والافتراء والاغتيالات.. فبحسب وجهة نظرهم إذا كان الهدف مشروعًا فليس من المهم أن تكون الأداة أو الوسيلة الموصلة إليه مشروعًا وقانونيًّا أم لا. فمثلاً لا يرى بأسًا في تشكيل تنظيمات إسلامية مزيفة قانونية أو غير قانونية، يوظف التنظيمات الإسلامية القانونية منها في أحداث شغب وفوضى في الشوارع، ويستخدم التنظيمات الإسلامية غير القانونية منها في بعض العمليات السرية. والنقطة الجوهرية هنا هي: من هم الأشخاص أو الأطراف الذين سيعلنهم أرجنكون أعداءً وما هي المعايير التي سيعتمد عليها في تحديد هؤلاء الأعداء”.
وواصل هارون أوداباشي قائلاً: “زعم البعض أن تركيا ستشهد عملية تصفية أرجنكون على غرار ما تعرض نظيره غلاديو للتصفية في إيطاليا، نظرًا لأن حلف الناتو لم يعد يحتاح إلى مثل هذا التنظيم. بعض هذه المزاعم كانت صحيحة، إلا أنها أغفلت أن أرجنكون سسيقاوم التصفية ولن يرضى بالحلّ والتفكك وفقْد القوة والدينامية اللتين حصل عيلهما في الفترات السابقة. أرجنكون كان يريد البقاء في الحياة والحفاظ على وجوده، وكان في حاجة إلى دورة حياة جديدة أو عدو جديد يوجب بقاءه واستمراره عوضًا عن الشيوعية والأفكار اليسارية المنتهي رصيدهما في تركيا. وقد وجد أو صنع هذا العدو الجديد الذي سيستمد شرعيته منه ألا وهو: التيارات الإسلامية الرافضة للفكرة الكمالية”.
واللافت أن أرجنكون كان يصنع تيارات إسلامية راديكالية كحزب الله التركي ومجموعتي “عجزي مندي” و”تحشية” لتبرير وجودها وأنشطتها.
ولفت خبر أوداباشي إلى أن تنظيم أرجنكون يضمّ تحت مظلته عسكريين وموظفين عموميين وصناعيين ومنظمات مجتمع مدني وشركات أمن ونقل وجمعيات وأوقافًا وإعلاميين، وشرع في عملية إعادة هيكلته في 1999 بالاستناد إلى تجاربه السابقة، وأكد أن التنظيم سيظهر في العهد الجديد بصورته المدنية بدلاً من صورته العسكرية القديمة، وأنه سيركز على كسب قوة اقتصادية، وسيعيد صياغة الفكرة الكمالية العلمانية إزاء العدو الجديد “التيارات الإسلامية” ليتخذ من ذلك سندًا وذريعة لإعادة السياسة والمجتمع وفق أهدافه.
تقرير المخابرات التركية حول أرجنكون
ومن ثم صدر أول تقرير رسمي عن تنظيم أرجنكون من المخابرات التركية في عام 2002. وبحسب ما أعلنته المخابرات فإنها علمت بوجود أرجنكون لأول مرة من خلال بلاغ تلقته في 3 يوليو/ تموز 2002. فقد بعث شخص يعرِّف نفسه بأنه “شرطي” رسالة مكونة من صفحتين، و 5 أقراص صلبة إلى المخابرات يتحدث فيها عن أرجنكون، ويشير إلى أنه تنظيم سري يعمل ضمن القوات المسلحة. وتقول المخابرت في تقريرها بأنها قامت بتحويل هذه المعلومات إلى كتيّب وأرسلته أولاً إلى رئاسة هيئة الأركان العامة في 10 تموز/يوليو 2003، ثم إلى رئاسة الوزراء في 19 نوفمبر 2003؛ نظرًا لأنه تشكل لديها انطباع وقناعة بأن هذه المعلومات تزيح الستار عن مجموعة داخل القوات المسلحة شكلت تنظيمًا يستهدف الدولة/النظام ويتحرك وفق أهداف تلك المجموعة، وأنها تلقّت هذه المعلومات من مصادر وقنوات متعددة ومختلفة، وفق عبارتها.
طورغوت أوزال: رائد الدولة الديمقراطية المدنية
في ظل توجه “الدولة المدنية والإدارة الديمقراطية الشفافة المفتوحة” الجديد الذي قاده الراحل طرغوت أوزال كانت تشكلت في تركيا “بيئة سلمية حوارية” منذ تسعينات القرن الماضي. ولا مرية في أن حركة الخدمة كفاعل مدني كانت تأتي في مقدمة الحركات والمؤسسات التي أسهمت في تشكل هذه البيئة، وأفضل دليل على ذلك مئادب الإفطار واجتماعات منتدى “آبانط” العلمية الشهيرة التي أقامها “وقف الصحفيين والكتاب” التابع لحركة الخدمة بالتعاون مع شقيقاتها من الاتجاهات الأخرى، وكان أردوغان وعدد كبير من السياسيين الحاليين من كل الأحزاب البرلمانية ضمن المشاركين في هذه الفعاليات.
وبالتوازي مع التوجه إلى الطابع المدني للدولة نرى حراكًا غير مسبوق للمجتمع المدني في تركيا، إذ أطلق فتح الله كولن بعد عام 1990 حركة رائدة في الحوار والتفاهم بين معتنقي الأديان والأفكار الأخرى اتسمت بالمرونة والبعد عن التعصب والتزمت والتطرف، واحتضنت كل الأقليات الموجودة في تركيا، بمافيهم اليهود، لتجد صداها خلال مدة قصيرة في تركيا أولاً وفي العالم لاحقًا. كما أسست حركة الخدمة “وقف الكتاب الصحفيين” الذي استطاع جمع المثقفين اليمينيين واليساريين والإسلاميين تحت مظلة واحدة. كما استطاعت الحركة الانفتاح على العالم من خلال مئات المؤسسات التعليمية والاقتصادية، وعلى وجه الخصوص على الجمهوريات التركية المنفصلة من الاتحاد السوفيتي. وكان طرغوت أوزال في مقدمة السياسيين الذين قدموا دعمهم علنًا لكولن ومشاريع حركة الخدمة، حيث أجرى زيارة إلى دول وسط آسيا المنفصلة عن روسيا، وأكد لجميع رؤساء الحكومات الذين التقاهم أنه “متكفل لمدارس حركة الخدمة”. كما أن كولن قام بزيارته في المستشفى الذي خضع للعلاج فيه.
وقد دفع أوزال ثمن دعمه لمدارس كولن وسياساته الرامية إلى إضفاء “الصفة المدنية” على الدولة بحياته، حيث توفي في 17 إبريل/نيسان 1993 جراء “التسمّم الغذائي” على أيدي أرجنكون، كما كشفت الفحوصات الطبية التي أجريت على رفاته في عهد أردوغان، لكن هذا الملف تم إغلاقه فيما في عهد أردوغان أيضًا دون أن ينال المجرمون عقابهم.
مدارس الخدمة: الماركة العالمية لتركيا!
ومن أهمّ الخدمات التي قدمتها حركة الخدمة للشعب بكل أطيافه وطوائفه في تلك الفترة، والتي اعترف بها جميع مثقفي تركيا، بما فيهم المثقفون الداعمون لحكومة أردوغان حاليًّا، أن الآلاف من المساكن الطلابية وصالات القراءة ومراكز دروس التقوية والتحضير الجامعي والمدارس والجامعات الخاصة التي فتحتها “الخدمة” في كل أنحاء تركيا باتت “جسورًا” تحمل أبناء الجماهير العريضة المهمشة بشكل أو آخر، خاصة المسلمين، إلى مؤسسات الدولة، بعد أن كانت تلك المؤسسات حكرًا على الأقليات الأجنبية والنخب الأغنياء فقط. ذلك أن مستوى التعليم في المدارس الرسمية كان منخفضًا جدا بحيث لا يمكن النجاح في الامتحان الجامعي بدون دعم خارجي. فكان الأغنياء يرسلون أبناءهم إلى المدارس الخاصة الأجنبية، في الأغلب، أو يحصلون على دروس خاصة في منازلهم؛ في حين أن الجماهير العريضة الفقيرة لم تكن بمقدورها الدراسة في المدارس الخاصة ولا تلقي دروس خاصة في منازلهم، وبالتالي كانوا لا يستطيعون الانتقال إلى المرحلة الجامعية والوظائف العامة بعد انتهاء المرحلة الثانوية في المدارس الرسمية. وهنا مثّلت الآلاف من المساكن الطلابية وصالات القراءة- بدون مقابل مادي -، ومراكز دروس التقوية والتحضير الجامعي مقابل مبالغ رمزية مقارنة بالمدارس الخاصة، شعلة أمل للطلبة الفقراء. وحركة الخدمة حققت نجاحًا بارزًا في هذا المجال بحيث كان الطلاب الدارسون في تلك المؤسسات يحتلون الدرجات الأولى دائمًا في الامتحان الجامعي وامتحان التوظيف العام، بالإضافة إلى أن مدارس الخدمة الخاصة كانت تحصل على الدرجات الأولى وتحصد ميداليات ذهبية في المسابقات العلمية العالمية، حتى أصبحت ماركة عالمية في هذا المجال. وهذا الأمر كان يعدّ سابقة هي الأولى من نوعها، حيث لم تسبق أن حصلت تركيا على المراكز الأولى من قبلُ، بل لم تشارك أصلاً في مثل هذه المسابقات. والأهم من كل ذلك أن أبناء الأناضول “المسلمين” هم من كانوا يحققون هذه النجاحات العلمية بعد أن كانوا يُتَّهمون بالرجعية الدينية والتخلف الديني من قِبل فئة الأغنياء العلمانيين. (أستخدم هذه الأوصفاف تصويرًا للواقع فقط لا للتمييز). وأكد كثير من الممثلين والمطربين المعروفين بعلمانيتهم الصارمة أن ما ميّز هذه المؤسسات عن نظيراتها قدرتُها على الجمع بين المبادئ العلمية والقيم الأخلاقية لدى الطلبة الدارسين فيها.
ولم تقتصر مبادرة حركة الخدمة إلى الانفتاح بتركيا على العالم الخارجي على مؤسساتها التعليمية فقط، بل مئات الشركات التجارية والاقتصادية الصغيرة والكبيرة انتشرت في معظم بقاع العالم أيضًا وأنعشت الاقتصاد التركي بصورة غير مسبوقة، إلى جانب جهود طرغوت أوزال في هذا الصدد.
حركة الحوار والتفاهم بين معتنقي الأديان والأفكار الأخرى التي أطلقتها الخدمة وجمعت كل ألوان تركيا تحت مظلة واحدة، فشكّلت قوس قزح اجتماعيّاً، باتفاق آراء كل المنصفين، بما فيهم الرئيس الحالي أردوغان، وصلت فيما بعد إلى ذروتها بالاجتماع الذي عقد عام 1998 بين كولن والبابا في الفاتيكان إثر دعوة البابا لـه. ذلك لأن كولن آمن بأن العالم أصبح، بفضل تقدم وسائل الاتصالات الحديثة، قريةً صغيرة عالمية بحيث لن تحقق أي حركة قائمة على الخصومة والعنف والعداء أي نتيجة إيجابية، ولا بد أن يكون الحوار والإقناع السبيلَ الأوحد لنشر المعتقدات والأفكار. لذلك نراه يؤكد في كل خطاباته ومحاضراته ودروسه أن الإسلام لا يمتّ بصلة إلى الإرهاب، ولا يمكن تجويزه مهما كانت الذرائع والمبررات، بل يعلن في كل مناسبة أنه “لا يمكن أن يكون المسلم إرهابيًّا، كما لا يمكن أن يكون الإرهابي مسلمًا”.
تحريض أرجنكون الجيش على الانقلاب
لكن يبدو أن هذه الأجواء التي عاشتها تركيا بكل أطيافها لأول مرة في تاريخها الحديث أزعجت كثيرًا عصابة أرجنكون التي تسيطر عليها مجموعات “مارقة” تتغذى على صراع الأقطاب المضادة، ولا تريد الخضوع للدستور والقوانين مثل جميع المواطنين الآخرين، وتريد أن تكون تركيا “غرفة صغيرة” منغلقة على ذاتها، لكي تتفرد في حكمها وتحتكرَ مواردها تحت الأرض وفوقها. ذلك لأن بقاءها ودوامها كان منوطًا باستمرار حالة الاستقطاب والانقسام والتشرذم بين فصائل المجتمع المختلفة فكريًّا وعرقيًّا. فشرعت تبحث عن طرق كفيلة باسترجاع “تركيا القديمة”، وإعادة الدولة إلى “الأقلية” أو “الزمرة الحاكة” التي تمثلت بشكل أساسي في القوميات الأجنبية والفئات المعادية للدين، بعد أن خرجت من أيديها بفضل سياسات أوزال ومندريس من قبله. فقام التنظيم بتحريض زمرة قليلة من العسكريين المتنفذين أوقعهم تحت سيطرته وأخضعهم لإرادته بشكل أو آخر، أو خدعهم وأفزعهم بمجموعة دينية تطلق على نفسها “عجزي مندي”، يقودها شخص يدعى “مسلم كوندوز”، أعضاؤها قليلون جداً لعلهم لم يتجاوزوا ألف شخص في عموم تركيا، تبدو عليهم علامات الجهل والسذاجة بصورة بارزة، ويجذبون الانتباه بأفكارهم المتطرفة وحركاتهم المثيرة وملابسهم الاستفزازية، يتجولون في شوارع العاصمة أنقرة وعلى رؤوسهم عمائم سوداء وفي أيدهيهم عصيّ طويلة. ومع ذلك زعموا انتماءها إلى “حركة النور” التي تنحدر منها حركة الخدمة أيضًا، والتي تميزت كل الحركات المرتبطة بها على مدى تاريخها الطويل بسلميتها واعتدالها في الفكر والسلوك، ورفضها لأي نوع من العنف والكفاح المسلح في الداخل مهما كان حاكم البلد. هدف هذه المجموعة الظاهرة في ثوب ديني كان التمهيد لعسكرة الأجواء وتنفيذ مخطط الانقلاب في نهاية المطاف. بمعنى أن أرجنكون لعب على الوتر الحساس لدى المؤسسة العسكرية التي تعتبر نفسها “حارسة النظام”، وهذه المجموعة الدينية المصنوعة من قبل أرجنكون لعبت الدور الأساسي في إثارة حفيظة الجيش تجاه خطر قدوم “دولة الشريعة” وزوال “النظام العلماني الكمالي”.
ومن المثير للدهشة أن مجموعة “عجزي مندي” بدأت تظهر في الإعلام التركي مجددًا في الآونة بعد غياب كامل على مدى 15 عامًا، ويدلي زعماءها الذين يسمون أنفسهم شيوخًا بتصريحات راديكالية مثيرة جدا باسم الإسلام ويثيرون حفيظة العلمانيين والمؤسسة العسكرية، الأمر الذي يكشف عن اليد الخفية التي تحركها.
ولا يمكن نسيان الحملة التحريضية الاستفزيزية التي قادها “دوغو برينتشاك”، زعيم “الحزب الاشتراكي” في ثمانينات القرن الماضي، و”حزب العمال” اليساري في تسعينات القرن المنصرم، و”حزب الوطن” القومي المتطرف حاليًّا، وهو شخصية غامضة عليها كثير من علامات الاستفهام، أرمنية الأصل، (ولا ذنب في ذلك)، برزت بمواقفها المتقلبة المتلونة منذ البداية. خرج برينتشاك مطالبًا بتنفيذ “قوانين الثورة الجمهورية” المطبقة في الظروف الاستثانائية إبان تأسيس الجمهورية التركية، وحرّض الجيش على الانقلاب قائلاً: “دبابات جيشنا الوطني لم يتم شراؤها من أجل الاستعراضات العسكرية في الاحتفالات الرسمية”، وما إلى ذلك من عشرات التصريحات الاستفزازية. ووجه برينتشاك انتقادات لاذعة لسياسيين زعم أن لهم صلة وثيقة بالولايات المتحدة، واتهم طرغوت أوزال بكونه “باني الدكتاتورية القائمة على ثنائية المافيا – الطرق الصوفية”، وتنفيذِ المخططات الأمريكية في تركيا، كما وصم السيدة تانسو تشيلّر، زعيمة حزب الطريق القويم، وشريكة نجم الدين أربكان، زعيم حزب الرفاه، في الحكومة الائتلافية وقتها بـ”العمالة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية”.
وهذه الشخصية الغامضة التي سجنت في 2009 في إطار قضية أرجنكون، ثم خرج من السجن في 2014، بفضل تعديلات قانونية أجرتها حكومة أردوغان في أعقاب بدء تحقيقات الفساد والرشوة أواخر عام 2013 تستحق تسليط الأضواء عليه أكثر؛ نظرًا لأنه لعب دورًا مهمًا في أحداث انقلاب 1997 الناعم وعرف منذ القديم بعدائه الشديد لحركة الخدمة وفتح الله كولن.
من هو دوغو برينتشاك؟
لقد خطف برينتشاك الأضواء على نفسه عبر مواقفه الحساسة في اللحظات الحرجة طيلة تاريخ السياسة التركية. فمع أن نسبة الدعم التي يحصل عليها في الانتخابات ضئيلة جدًا لا تتجاوز 1%، إلا أنه تمتع حتى اليوم بنفوذ قوي في أجهزة الدولة، خاصة في أجهزة الأمن والقضاء والجيش، ولعب أدوارًا حاسمة في تلميع أو تشويه حركات ومجموعات سياسية أو مدنية، بفضل علاقاته “الغامضة” و”المثيرة” مع بؤر القوى الداخلية والخارجية.
وأسّس برينتشاك أربعة أحزاب وترأسها، وهي حزب العمال والفلاحين (1978-1980)، والحزب الاشتراكي (1991-1992)، وحزب العمال (1992–2015)، وحزب الوطن الحالي (15 شباط 2015 – ؟). لم يتبنَّ فكرًا معينًا ثابتًا، وإنما روّج لأي فكر مهما كان، بحسب الظروف واتجاه الرياح؛ فهو كان ماركسيًّا لينينيًّا ماوِيًّا في سبعينات القرن الماضي؛ وداعمًا لليسارية الكردية في الثمانينيات؛ وقوميًّا علمانيًّا متطرفًا بعد التسعينيات! وأصدر برينتشاك صحيفة يسارية علمانية باسم “آيدينليك” (Aydınlık)، وقاد المجموعة التي تكوّنت حول هذه الصحيفة. واللافت للانتباه أنه دعم في تسعينات القرن الماضي حزب العمال الكردستاني الإرهابي، وعمل على تشتيت اليسارية التركية من خلال توظيف اليسارية الكردية. حتى إنه كان يشرف على مجلة (نحو 2000) التي تحولت إلى اللسان المتحدث باسم العمال الكردستاني. وأجرى برينتشاك، الذي كان يمثل اليسارية التركية حينها، لقائين مختلفين مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، الذي كان يمثل اليسارية الكردية، أحدهما في عام 1989، والآخر في عام 1991، والتقطتهما عدسات آلة التصوير وهما يتبادلان الزهور فيما بينهما، في أحد المعسكرات التابعة للعمال الكردستاني، على الرغم من أنهما يظهران اليوم العداء لبعضهما البعض، بل يعتبر أحدهما الآخر نقيضه، حيث يقدم برينتشاك نفسه في الوقت الراهن “قوميًّا وطنيًّا علمانيًّا” يجاهد ضد أوجلان الذي يحاول تقسيم تركيا!
وعُرف برينتشاك بمواقفه المصلحية المتقلبة، ولا يخفي أنه لا يتبني أي دين أو فكر أو توجه إيدولوجي معين؛ إذ يقف اليوم إلى جانب “المعسكر الأوراسي” بقيادة روسيا والصين، لكنه كان يدافع قبل ذلك عن “المعسكر الغربي” بقيادة أمريكا وبريطانيا أو حلف شمال الأطلسي الناتو ويصف الاتحاد السوفيتي بـ”الأمبريالي”؛ ويعلي اليوم من شأن “القومية التركية الطورانية”، غير أنه كان يصف تركيا من قبلُ بـ”الدولة المحتلة” لجزيرة قبرص، ويعترف بمزاعم الإبادة الأرمنية على يد الدولة العثمانية.
ومن المثير للانتباه أن محمد أيمور؛ رئيس شعبة مكافحة الإرهاب في جهاز المخابرات التركي سابقاً يصف برينتشاك بـ(fabricator)، أي المحترف في اختلاق أحداثٍ من أجل إثارة البلبلة والفوضى في البلاد؛ في حين يتهمه “هرم عباس”، نائب رئيس المخابرات الأسبق بـ”العمالة لدولة أجنبية”، ويشرح مهمته في كتابه بعنوان “التحليل” (Analiz) بقوله: “تنفيذ عمليات التصفية باستخدام طرقٍ وأساليبَ شتى ضد العناصر المستهدَفة التي تشكّل عائقاً أمام تحقُّق مصالح الدولة الأجنبية التي تعمل لصالحها، والسعي للحيلولة دون تطورِ وتقدُّم تركيا، ومنعها من اتباع سياسة وطنية مستقلة بعيداً عن مصالح تلك الدولة الأجنبية، وذلك من خلال تنظيم أنشطةٍ وفعاليات تقود البلاد إلى حالة عدم الاستقرار المتواصلة”.
ومن الجدير بالذكر أن هرم عباس كان يقود مشروع “إضفاء الطابع المدني على المخابرات التركية” بأمر من طرغوت أوزال، وقضى نحبه إثر عملية اغتيال تعرض لها أثناء ذهابه لعمله في 26 سبتمبر/أيلول 1990 وتبناها تنظيم “اليسارية الثورية”. وهذه الحادثة أصبحت موضوعًا للمسلسل التركي الشهير “وادي الذئاب” في مشهد يتعرض رئيس شعبة استخباراتية لقبه في المسلسل “أسلان آكبك”، واسمه الحقيقي في المسلسل “عباس أوسطا أوغلو” لعملية اغتيال على يد شخصية غامضة تدعى “بالا” في المسلسل وتضع على عينيها دائمًا نظارة سوداء. وكان “رجائي شاشماز”، معدّ مسلسل “وادئ الذئاب” أجاب على سؤال “هل تعتزمون تصوير مسلسل عن عصابة أرجنكون؟” عقب بدء عمليات أرجنكون في 2007 قائلاً: “لا داعي لذلك! فإني قد كشفتُ الغطاء عنها قبل 10 سنوات من خلال مسلسل وادي الذئاب”.
أظن أن هذا القدر من المعلومات يكفي للكشف عن حقيقة هذه الشخصية الغامضة التي لعبت الدور المحوري في وتيرة انقلاب 1997 العسكري الذي أطاح بحكومة أربكان وتشيلّر.
الهدف الحقيقي لانقلاب أرجنكون الناعم
سمي انقلاب 1977 في تركيا “انقلاب ما بعد الحداثة”، الذي استهدف الحكومة الائتلافية (يوليو/حزيران 1996 – يوليو/حزيران 1997) بين أربكان وتشيلّر، من أجل إعادة تصميم السياسية والمجتمع معًا، بذريعة “مكافحة الرجعية” و”الحفاظ على مبادئ أتاتورك الكمالية”، التي كانت الورقة الرابحة في جميع الانقلابات الثلاثة السابقة أيضًا. لكن الفريق الانقلابي في المؤسسة العسكرية المرتبط بتنظيم أرجنكون قام بإجراء انقلاب “محدود” أو “ناعم” فقط انتهى بإسقاط الحكومة، وطردِ عدد كبير من الموظفين في جهاز الأمن والمؤسسة العسكرية بصفة خاصة بحجة “الرجعية الدينية” أو “الانتماء إلى حركة الخدمة”. ومع أن الموظفين العموميين المفصولين من وظائفهم، نتيجة تحريض أرجنكون القوى الفاعلة في الدولة، كانوا ينحدرون من الفئات والعائلات المتدينة والمحافظة خاصة، والأحزاب اليمينية عامة، وينتمون إلى أفكار ومجموعات مختلفة جدًا، لكن التنظيم كان يضع جميعهم تحت سلّة واحدة وهي “الرجعيون الدينيون” أو “المنتمون إلى حركة الخدمة” لتبرير حركة التصفية. ولم يتوقف أرجنكون عند تصنيف موظفين عموميين حسب توجهاتهم الفكرية والدينية من أجل وصمهم وطردهم فقط، وإنما سعى إلى منع المفصولين من الحصول على وظائف في حياتهم المدنية أيضًا!
وينبّه الباحثون ممن كتبوا في هذا الموضوع إلى أن الانقلاب استهدف السلطة الشرعية أو الحكومة المنتخبة في الظاهر، غير أن المجتمع المدني بكل أطيافه كان تضرر أكثر من الحكومة التي خضعت للضغوطات العسكرية ووافقت على تطبيق ما سمي حينها “قوانين مكافحة الرجعية الدينية”.
وعلى الرغم من استقالة حكومة نجم الدين أربكان في يونيو/حزيران 1997 رضوخًا لضغوط المؤسسة العسكرية المحرَّضة من قبل أرجنكون بحجة انتشار “الرجعية الدينية” في البلاد، ومن ثم تأسيس زعيم “حزب الوطن الأم” اليميني “مسعود يلماظ” حكومة ائتلافية مع كل من حزبي “اليسار الديمقراطي” و”تركيا الديمقراطية”، إلا أن ضغوط عصابة أرجنكون على الجيش والحكومة والمجتمع لم تنقطع أبدًا، بل امتدت لسنوات طويلة ولم يسلم منها حتى زعيم “حزب اليسار الديمقراطي” بولنت أجاويد الذي شغل منصب رئيس الوزراء من عام 1999 حتى عام 2002، وذلك على الرغم من علمانيته ويساريته الصارمة المعروفة لدى الجميع، ما يعني أن همّ العصابة لم يكن منصبًّا على الحفاظ على علمانية الدولة أو إرث أتاتورك كما زعم، بل كان شغله الشاغل إعادة الدولة إلى “الأقليات”، ليس حبًّا فيهم، وإنما استغلالاً لهم، لسهولة السيطرة عليهم، لقلتهم وحاجتهم إلى قوة تحميهم أو مظلة تحتضنهم تجاه الأغلبية، سواء علموا بذلك أم لم يعلموا.
أرجنكون يتهم كولن بالسعي لتأسيس دولة الشريعة!
وعلى الرغم من أن أردوغان يتهم اليوم كولن بـ”الضلالة” بل “الكفر” و”السعي لهدم الإسلام من داخله”، إلا أن إعلام أرجنكون نشر حينها مقاطع فيديو في يوليو/حزيران 1999 تتضمن مقتطفات من الدروس التي ألقاها كولن في أوقات ومناسبات مختلفة، وأخرجها عن سياقها ليتسنى له اتهام حركة الخدمة بـ”الرجعية الدينة” ومحاولة تقويض “العلمانية”. وانطلاقًا من ذلك بدأ ينشر في جميع الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة التابعة له أخبارًا تخدم مزاعم اختراق حركة الخدمة لمؤسسات الدولة عبر الطلبة الذين تخرجوا في مؤسساتها التعليمية، ومن ثم حصلوا على وظائف عامة في أجهزة الدولة. وكان كولن ينصح في هذا الدرس لمحبيه من الموظفين العموميين بأن يلتزموا الحيطة والحذر لكي لا يُشعروا أنفسهم على “البؤر المظلمة” التي تسترت في “أعماق الدولة” ولا تستسيغ وجود “أي شخص له أدنى صلة بالإسلام” في المؤسسات الرسمية. إلا أن وسائل الإعلام الموجهة من قبل أرجنكون كانت أثارت زوبعة في الفنجان، واستغلت نصيحة كولن هذه في الاستشهاد على اختراق أجهزة الدولة من قبل حركة الخدمة، وواصل نشر هذا النوع من الأخبار على مدار 3 أو 4 سنوات متتالية دون انقطاع، من أجل تشويه سمعة المؤسسات التعليمية التابعة للحركة وإقناع نخب تركيا بذلك، خاصة الفئات العلمانية. لكن هذه الحملات أثمرت نتائج عكسية، حيث لم تستطع تغيير نظرة نخب تركيا والمثقفين من كل الاتجاهات الفكرية إلى مؤسسات الخدمة بل عملت على زيادة اهتمامهم بها وإقبالهم عليها.
وأفضل مثال على ذلك أن الكاتب الصحفي الراحل توكتاميش آتيش الذي لم يكن يشكّ في علمانيته ووطنيته أحد في تركيا كان من الذين خرجوا معترضين على اتهامات أرجنكون أو باسمه المعروف آنذاك الدولة العميقة، وأكدوا أن هذه النصيحة إن دلت على شيء فإنها تدل على مدى الضغط الذي كان يُمارَس على “الفئات المتدينة” أو المحافظين الملتزمين بمتطلبات دينهم وأخلاقهم، وأشاروا في الوقت ذاته إلى إعلان ويزر العدل الأسبق من حزب الشعب الجمهوري “محمد موغلتاي” (1994 – 1995) على الشاشة التلفزيونية أنه قام بفصل أكثر من 5 آلاف شخص “متدين” من شتى المؤسسات والهيئات الرسمية، بينهم متعاطفون مع حزب الرفاه وحركة الخدمة والجماعات الإسلامية الأخرى، ووظّف مكانهم ممّن ينتمون إلى فكرهم العلماني اليساري المتطرف و”الطائفة العلوية” على وجه الخصوص. وفي هذا السياق، وجه كولن المتعاطفين معه بصفة خاصة، والمتدينين بصفة عامة، بأن يتجنبوا إظهار هوياتهم الدينية في المؤسسات الرسمية على نحوٍ يثير حفيظة الأطراف العلمانية الصارمة حتى لا يتعرضوا للنفي أو الطرد من الوظيفة.
“شرذمة قليلة أجنبية اخترقت الدولة وليست الخدمة”
وفي إطار رده على مزاعم اختراق أفراد حركة الخدمة لمؤسسات الدولة، قال كولن بأن تشجيع أي إنسان لأفراد شعبه على دخول بعض مؤسسات بلاده في إطار القانون لا يمكن تسميته بـ”الاختراق”، حيث إن المشجَّعين على دخول هذه المؤسسات هم أفراد الشعب التركي، ومواطنو الدولة التركية، والمؤسسات هي مؤسسات هذا الشعب وهذه الدولة. ومن ثم لفت إلى نقطة مهمة بقوله: “إن الاختراق الحقيقي في تركيا جرى فعلاً في فترة معينة على أيدي شرذمة قليلين مِمَّن ليسوا من الأمة التركية. فالذين يتهمون اليوم أبناء الأمة التركية باختراق دولتهم ربما يسعوْن للتستر على اختراقهم الحقيقي للدولة التركية. ولعل قلقهم نابع من أن أبناء هذه الأمة لاحظوا اختراق هذه المجموعات الأجنبية لمؤسسات دولتهم. فالأتراك لا يخترقون مؤسسات دولتهم، بل الدخول إليها والتوظيف فيها حق قانوني ومشروع لهم، فهم يستطيعون أن يدخلوا إلى السلك السياسي والقضائي والجيش والاستخبارات والخارجية في إطار القوانين واللوائح الخاصة بتلك المؤسسات الرسمية دون أي مانع”.
ونفهم من التصريحات الأخرى لكولن أنه لا ينفي حقوق الأقليات في تركيا أبدًا، ولا يرى بأسًا في توظيف الأجانب أيا كانت أصولهم، في مؤسسات الدولة ضمن شروط متساوية تنتبطق على الجميع، بل هو الذي التقى ممثلي القوميات والطوائف والأديان السماوية في تركيا والعالم، ومن ثم قاد الحركة التي تدعو إلى الحوار والتعايش السلمي بينهم، وإنما هو يعترض على عمل بعضٍ من هذه الأقليات لصالح الدولة التي تنتمي إليها “عرقيًّا” أو “فكريًّا” على نحو يخالف مصالح الشعب التركي والدولة التركية.
أجاويد “اليساري” يقاوم أرجنكون ويدافع عن كولن
وعلى الرغم من ضغوط أرجنكون والإعلام المتعاون معه على الأستاذ كولن، ومطالبتهم بإغلاق مؤسسات حركة الخدمة التعليمية في الداخل والخارج، خاصة في الجمهوريات التركية المنفصلة عن الاتحاد السوفيتي، أو تسليمها إلى الدولة، وفتْح المدعي العام تحقيقًا في تصريحاته المذكورة، إلا أن رئيس الحكومة بولنت أجاويد تدخَّل في الأزمة ودعا إلى معالجة الأمر بهدوء، بدلا من فتح الموضوع للنقاش على المحطات التلفزيونية والجرائد، كما دافع عن كولن ومؤسسات الخدمة التعليمية بقوله: “مدارس الخدمة تنشر الثقافة التركية حول العالم، وتعرِّف تركيا بالعالم. هذه المدارس تخضع لإشراف متواصل من السلطات المعنية”.
أرجنكون يحرض أوزبكستان على حركة الخدمة
وكان أرجنكون المعترض على أدنى مظهر من مظاهر الدين في القطاعين الخاص والعام، والذي كان يسعى لتوجيه الحكومات من وراء الستار بالتهديدات أو الوعود، حرض حكومة أوزبكستان ضد حركة الخدمة من أجل تضييق الخناق عليها هناك وجميع دول وسط آسيا، مدعيًا أن هذه الحركة كما أنها اخترقت مؤسسات الدولة في تركيا من أجل تحويل النظام القائم من “العلماني” إلى “الإسلامي”، كذلك تقوم بحركة الاختراق ذاتها في جميع الجمهوريات التركية المنفصلة عن الاتحاد السوفيتي الروسي. غير أن أيًا من تلك الجمهوريات لم تُعِر بالاً لهذه المزاعم سوى دولة أوزبكستان، وعندها تدخل رئيس الحكومة أجاويد أيضًا وقال: “الرئيس الأوزبكستاني لديه مخاوف غير مبررة تتعلق بتركيا. تركيا لا تتدخل في الشؤون الداخلية لأوزبكستان. لا يمكن أن نسمح بالإساءة إلى العلاقات بين البلدين بسبب مخاوف غير ضرورية”. لكن أوزبكستان لم تقتنع بما قال أجاويد وقررت إغلاق المدارس التابعة لحركة الخدمة، وجميع المؤسسات التركية الأخرى عقب اندلاع أزمة بين الطرفين بسبب المزاعم الواردة حول تورط أحد الأتراك في محاولة اغتيال استهدفت الرئيس الأوزبكي آنذاك إسلام كريموف.
وقد تزايدت ضغوطات أرجنكون وتَواصل تحريضها للجيش على كولن لدرجة أن الأخير أعلن استعداده لتقديم توصية لمن يشرفون على المدارس والجامعات المفتوحة بتشجيع منه في داخل تركيا وخارجها ليسلموها للدولة ويضمّوها إلى المدارس الرسمية، شريطة الحفاظ على مستوى التعليم العالي المقدم فيها، تفاديًا لمشاكل أكبر وتحوُّلِ وتيرة الانقلاب الناعم إلى انقلاب عسكري دموي يعود بالبلاد إلى سنوات مظلمة عاشتها تركيا سابقًا.
كولن يغادر إلى أمريكا للمعالجة وتهدئة الأوضاع في تركيا
وفي ظل هذه الأجواء الخانقة، ونظرًا لتلقيه دعوة من زملاءه المقيمين في الولايات المتحدة بمعالجة مرضه المتفاقم يومًا بعد يوم، اتخذ كولن قراراً بمغادرة تركيا إلى أمريكا عام 1999، الأمر الذي لعب دورًا في تهدئة الأوضاع في تركيا إلى حدٍّ معين. لكن السلطات التركية، بتحريض وتشجيع من أرجنكون، فتحت دعوى بحقه في 22 أغسطس/آب 2000 بتهمة “تشكيل منظمة إرهابية غير مسلحة”، و”التحريض على هدم الدولة العلمانية لتأسيس دولة الشريعة”، كما حاول اغتياله أكثر من مرة في مدينة بنسلفانيا، وفق ما كتبته صحيفة يني شفق الموالية لأردوغان.
غير أن أرجنكون لم يستطع إقناع نخب تركيا من كل الاتجاهات الفكرية بإرهابية حركة الخدمة ومؤسساتها التعليمية، بل استمر دعمهم لها رغم حملات الحرب الإعلامية الهائلة الرامية إلى تشويه صورة تلك المؤسسات التعليمية. إذ كانت هناك مشكلة جذرية استمرت سنوات – ولا تزال – ألا وهي العجز عن إلصاق “الرجعية” و”العنف” و”الإرهاب” بحركة الخدمة، تمهيدًا لإعلانها حركة إجرامية وإرهابية، وتوظيف هذه التهمة في إجراء حركة تصفية شاملة تستهدف الكوادر التي تلتقي في القاسم المشترك “الديمقراطية” و”الوطنية”، وتُعارِض تدخُّل كيانات غير قانونية، مثل أرجنكون، في العملية السياسية بالبلاد. ذلك لأن الخدمة عُرفت منذ نشأتها الأولى بتركيزها على العلم والمعرفة والأخلاق والمبادئ الإنسانية العالمية من خلال فتح معاهد التحضير الجامعي والمدارس والجامعات الخاصة في تركيا وكل أنحاء العالم، والتزامها الصارم بمبدإ السلم والحوار، ونبذ العنف بكل أشكاله، مهما كانت الذرائع أو المبررات، وانفتاحها على “الآخر” في الداخل والخارج. لذلك قضت المحكمة بعد 8 سنوات من هذه التهمة بتبرئة ساحته، ثم وافقت المحكمة العليا على القرار باتفاق آراء أعضاءها.
أرجنكون يعاقب أجاويد لدعمه كولن
لم يغفر أرجنكون لبولنت أجاويد، الذي شغل منصب رئيس الوزراء من 11 يناير/كانون الثاني 1999 حتى 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2002، دفاعه المستميت عن كولن مثل طرغوت أوزال سابقًا، على الرغم من علمانيته ويساريته الصارمة. وهذا لأن أجاويد كان يؤمن بمعقولية ونافعية أفكار كولن وأنشطته لتركيا والعالم والإنسانية جمعاء، كما بين ذلك في عديد من تصريحاته الصحفية ولقاءاته التلفزيونية. إذ تبين من خلال تحقيقات أرجنكون التي انطلقت عام 2007 في ظل حكومة أردوغان ولا تزال مستمرة حتى اليوم، أنه، أي أرجنكون، أحاط أجاويد برجاله، وعمل على تدهور حالته الصحية من خلال الأدوية التي قدمها له أطباؤه. فقد ورد بين الاتهامات الموجهة إلى “محمد خبرال”، عميد مستشفى جامعة “باشكنت” في العاصمة أنقرة، في إطار قضية أرجنكون، منع معالجة أجاويد، عندما تلقى علاجًا في هذا المستشفى.
وهذا ما أكده رئيس حرس أجاويد الشخصي “رجائي بيرجون” الذي أصبح عضوًا برلمانيًّا فيما بعد. فقد قال عندما أدلى بإفادته كشاهدٍ في إطار قضية أرجنكون في 21 مايو/أيار 2012: “وإذا نظرنا إلى الأحداث التي عاشتها تركيا في تلك الفترة من تقسيم حزب أجاويد إلى قسمين وغير ذلك، بالاستفادة من مرضه، فإن ما تعرض له أجاويد كان شبيهًا بانقلاب 1997 الناعم”. وأضاف: “لقد مكث أجاويد في المستشفى (مستشفى جامعة باشكنت المذكور) عشرة أيام. وأكد مسؤولو المستشفى ضرورة بقاءه تحت الرقابة في المستشفى لمدة 8 أشهر، وإلا قد يؤدي مرضه إلى شلل كلي أو الموت. غير أننا قررنا نقل أجاويد إلى منزله رغم كل شيء، فبدأت عندها تتحسن حالته الصحية. إن هذا الكيان (أرجنكون) كان يريد الحصول على تقرير من إدارة مستشفى يفيد بعدم صلاحية أجاويد لرئاسة الوزراء في ظل ظروفه الصحية لإسقاط حكومته”.
اتخذ أجاويد أخيرًا تحت وطأة الضغوط السياسية والعسكرية قرارًا بتقديم موعد الانتخابات النيابية لتجرى في نوفمبر/تشرين الثاني 2002 وينهزم حزبه “اليسار الديمقراطي” أمام حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، ويعتزل الحياة السياسية حتى وافته المنية في 2006.
وإذا نظرنا إلى التصريحات التي أدلى بها “دورسون تيتشاك”، رئيس دائرة “الحرب النفسية” في الجيش سابقًا، وأحد المتهمين في إطار قضية أرجنكون، لصحيفة “حريت” في شهر مارس/آذار من عام 2016، فإنه من السهولة بمكان أن ننتهي إلى أن الهدف الحقيقي من وتيرة انقلاب 1997 الناعم (اعتبارًا من إسقاط حكومة أربكان في 1997 حتى تأسيس حكومة أردوغان في 2002) كان حركة الخدمة. إذ قال دورسون تيتشاك في حواره مع تلك الصحيفة بالحرف الواحد: “الهدف الأساسي من انقلاب 28 فبراير/شباط 1997 كان الرجعيةَ المقصود بها حركة الخدمة 80%!”، على حد قوله.
وما كتبه دوغو برينتشاك في صحيفة “آيدينليك” في 25 يناير/كانون الثاني 2017 يساند ما قاله الجنرال تيتشاك: “وتيرة انقلاب 1997 استهدفت تحالف تنظيم فتح الله كولن وحكومة تيشلّر (الائتلافية مع أربكان).. تشخيص خطورة هذا التنظيم للجمهورية التركية لعب دورًا مهمًّا في وتيرة 28 فبراير/شباط (الانقلابية)”. وأعاد برينتشاك للأذهان المقولة الشهيرة للجنرال “حسين كيفريك أوغلو” الذي تسلم منصب رئاسة الأركان العامة عقب الانقلاب: “وتيرة 28 فبراير/شباط (الانقلابية) ستستمر ألف عام”، ثم أردف قائلاً: “كان مجلس الأمن القومي الذي عقد في 23 يونيو/حزيران 1999 طالب حكومة أجاويد بتطبيق القرارات الإستراتيجية الخاصة بمكافحة الرجعية الدينية من دون أي تنازل وهوادة، كما أشار على وجه الخصوص إلى مكافحة تنظيم فتح الله كولن”.
لكن يرى محللون قريبون من حركة الخدمة أن هدف هذا الانقلاب كان تصفية الكوادر “الوطنية الديمقراطية” بالدرجة الأولى بذريعة مكافحة حركة الخدمة، والجنرال تيتشاك يبرر الانقلاب بمكافحة “الرجعية”، ويختزل الرجعية في “حركة الخدمة” إجمالاً، ويغلّف هدف القضاء على البيروقراطية الوطنية الديمقراطية المعارضة لعصابة أرجنكون وكل العصابات المارقة المندرجة تحتها بالقضاء على الخدمة فقط، مستشهدين على ذلك بأن نتائج هذا الانقلاب أثرت على كل البيروقراطيين الذين جمعهم القاسم المشترك “الوطنية والديمقراطية” من المتدينين والعلمانيين واليساريين ولم تقتصر على المتعاطفين مع الخدمة فقط.
برينتشاك: تركيا عادت إلى برنامج انقلاب 1997 الناعم بعد الانقلاب الفاشل!
وكما يلاحظ مما سبق، فإن الاتهامات التي تسوقها اليوم السلطة السياسية المدنية بقيادة أردوغان ضد حركة الخدمة هي نفس الاتهامات التي كان يسوقها ضدها قديمًا تنظيم أرجنكون أو “الزمرة الحاكمة الأجنبية” في أساسها، والمتمركزة في المؤسسة العسكرية في جملتها. ولا فرق بين تلك القديمة وهذه الحديثة إلا في المسميات والمصطلحات، كالرجعية قديمًا والكيان الموازي حديثًا، بل نرى أن أردوغان نفذ مخططات تلك الزمرة فعلاً عندما أعلن حركة الخدمة إرهابية وأغلق كل مؤسساتها في تركيا وعدد من بعض الدول الأفريقية والعربية. ولذلك ليس من المستغرب أن يقول دوغو برينتشاك: “إن تركيا عادت إلى برنامج وتيرة انقلاب 1997 بعد تعرضه للانقطاع، وذلك بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016”. وهو يشير بكلمته “بعد محاولة الانقلاب الفاشلة” إلى حركة التصفية الشاملة التي انطلقت في صفوف العسكر والأمن والقضاء وكل فصائل الحياة المدنية، والتي أكد برينتشاك أنهم من أعدوا قائمة الأسماء الواجبة تصفيتهم على مرأى ومسمع من الجميع.
ومن اللافت أن “أحمد دونماز”، الكاتب الصحفي المخضرم في موقع “TR724” الإخباري، يعيد جذور الجهود الرامية إلى إعلان حركة الخدمة تنظيمًا مسلحًا إرهابيًّا، من خلال تدبير انقلاب محكوم عليه بالفشل وإلصاق الجريمة بالخدمة في 2016، للحصول على ذريعة تصفية الكوادر الوطنية الديمقراطية بحجة مكافحة الخدمة، إلى أيام انقلاب 1997 الناعم.
ويلفت أمره أوسلو، الخبير الأمني والكاتب الصحفي، الذي كان يكتب في جريدة “طرف” الليبرالية قبل إغلاقها، الانتباه إلى أن انقلاب 1997 كان يخطط للقضاء على “الفئة المتدينة والمحافظة” التي فتح الراحل طرغوت أوزال أبواب الدولة ومؤسساتها لها خلال فترة شغله منصبي رئيسي الوزراء والجمهورية، بحجة مكافحة “الرجعية” التي تمثلت بنسبة 80% في حركة الخدمة ، بحسب تعبير رئيس دائرة الحرب النفسية.