بقلم: عبد الحميد بيليجي
إن وضعنا المأسوي في السياسة الخارجية التي نجحت في إثارة القلاقل حتى مع الإكوادور الواقعة في الطرف الآخر من الكرة الأرضية والصورة الوخيمة التي نواجهها في الشرق الأوسط أمر مثير للقلق البالغ جداً.
ولاشك في أن الأخطاء الداخلية في البلد تسفر عن نتائج سيئة أيضاً؛ فيتضرر الاقتصاد، ويصبح الشعب فقيراً، وتتأذى بعض شرائح المجتمع، ويتراجع البلد في مواكبة المجتمع الدولي. إلا أنه يمكن تلافي هذه النتائج السلبية عبر رؤية جديدة ومقاربة مختلفة.
ولكن ليس من الممكن دوماً تلافي الأخطاء المرتكبة في السياسة الخارجية. لنتذكر النتائج المتمخضة عن مغامرة الدولة العثمانية بقيادة الاتحاديين في خوض حرب البلقان والحرب العالمية الأولى. فقد أصبحت الإمبراطورية التي كانت تحكم العالم القديم (القارات الثلاث) دولة قومية تقتصر على الأناضول فحسب. ولولا الشجاعة التي أبداها الأتراك في حرب جناق قلعه (الدردنيل) لربما خسرنا حتى الأناضول.
وكلنا شاهدنا ما الذي تعرض له العراق حين أعلن صدام حسين أن الكويت محافظة عراقية وحاول احتلالها. كما شاهدنا في وقت ليس ببعيد أن سياسات ميلوسيفيتش العرقية وغير المتزنة قد أدت إلى تقسيم يوغسلافيا لعدة أجزاء، وسيرها في طريق المحو من الخريطة.
وانطلاقاً من هذه التجارب، والدروس القاسية المستخلصة من تاريخنا، فإن تركيا الحديثة انتهجت منهجاً بالغ الدقة والتأني ورباطة الجأش في سياستها الخارجية. وفي الحقيقة كانت هذه السياسة المتبعة منذ 200 سنة ناجمة عن حقيقة أن تركيا حافظت على استقلاليتها بالاستفادة من التوازن بين القوى الكبرى وليس بالاعتماد على قوتها الذاتية. مثلما كان في طلب الباتريوت من الناتو حين ورد الحديث عن القصف الصاروخي السوري، أو كما كان في دعوة الناتو إلى اجتماع طارئ عقب أزمة الطائرة الروسية.
فما الذي حدث للسياسة المتزنة والمتأنية التي كانت تقود البلد في الساحة الدبلوماسية، حتى برزت هذه المشاكل الحقيقية، وأصبحنا نواجه أمريكا وروسيا في الوقت نفسه؟
فالمسؤولون في هذا البلد كانوا يصفون إسرائيل حتى عهد قريب بدولة الإرهاب واليوم أصبحوا يصفونها بالدولة الصديقة. كما أنهم يحاولون التعاون مع اللوبي اليهودي الذي وصفوه قبل وقت قريب بأنه مصدر كل أنواع الشرور. وبالأمس قطعوا علاقاتهم بمصر من أجل الإخوان المسلمين، واليوم يحاولون المصالحة مع السيسي.
وفوق ذلك فهم يقدمون كل أنواع الدعم بما في ذلك السلاح للمجموعات المتصارعة في بلد جار، عبر سياسة لم نشهد لها مثيلاً في تاريخ الجمهورية التركية.وبالأمس دعوا زعيم الاتحاد الديمقراطي صالح مسلم إلى أنقرة، حتى قال رئيس الوزراء: “تحية لكوباني”، ودعموا الاتحاد الديمقراطي من خلال فتح معبر لهم على الحدود؛ واليوم اكتشفوا أن الاتحاد الديمقراطي إرهابي واتخذوه عدوًّا.
ومن أهم الأسباب التي أدت إلى هذه التناقضات، اعتبار السياسة الخارجية وسيلة للسياسة الداخلية. صحيح أن مساندة الفلسطينيين المظلومين، والوقوف إلى جانب المضطهدين الذين سحقهم النظام السوري عبارة عن سياسات سليمة وإنسانية؛ لكن استغلال هذه السياسات كوسيلة لتحقيق مكاسب في السياسة الداخلية، لا يسفر إلا عن إلحاق الضرر بالسياسة الخارجية.
وكان وزير الخارجية الأسبق، والسفير المتقاعد، والكاتب في جريدة زمان يشار ياكيش قد شاركَنا في اجتماع عقدناه قبل فترة وجيزة حول المنشورات الإعلامية، وتحدث لنا عن تجاربه السابقة. وكان ياكيش الذي عمل سفيراً في مصر والسعودية وسوريا، قد تحدث عن عُرْف تتبعه الدولة منذ العصر العثماني حتى الآن. فحين يراد إصدار قرار متعلق بالسياسة الخارجية، يُطلب تقرير من مختلف العاملين في وزارة الخارجية بدءا من الدبلوماسيين العاملين في الدولة المعنية، وصولاً إلى مستشار الخارجية، فكان كل واحد من هؤلاء يكتب رأيه بصيغة مختلفة. وبذلك تتم الاستفادة من كل التجارب الحديثة، وتعرض وثائق حول الدوافع التي أدت إلى اتخاذ القرارات المختلفة بالنسبة للأجيال عبر التاريخ.
أما الآن فقد أُهمل هذا العرف الذي استمر منذ قرون عدة، وحلت مكانه قرارات فردية غير مدروسة. والنتيجة واضحة للعيان. فتركيا التي أهملت الموروث العثماني والجمهوري، ربما تعيش الآن أصعب أيامها في السياسة الخارجية.
ومن الممكن التعرض لهزيمة في السياسة الخارجية. ولكن ينبغي إلقاء نظرة تاريخية شاملة وفق تجارب وموروثات الدولة، حتى لا تتحول هذه الهزيمة إلى مغامرة، ومن ثم إجراء تحليل متأنٍّ لقدرتنا والموازين الدولية. فعلى سبيل المثال كانت تركيا قد أمعنت النظر في هذه المقاييس، إزاء الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت 8 سنوات في الثمانينيات، حيث استطاع تورجوت أوزال أن يحافظ على علاقته الجديدة مع كل من العراق وإيران، وحقق مكاسب اقتصادية من هذه الأزمة الكبيرة. كما أقام علاقات اقتصادية مع الاتحاد السوفييتي رغم الحرب الباردة.
فإذا أُغفلت هذه الأمور، وظهر هوس إسقاط الأسد وإقامة صلاة الجمعة في دمشق، تكون النتيجة أن العمال الكردستاني وداعش يؤسسان دولتين بالقرب من الحدود.
وإن أهم ما يمكن لتركيا فعله من أجل العالم والشرق الأوسط اليوم، هو أن يلتزم هذا البلد ذو الغالبية المسلمة بالديمقراطية وسيادة القانون، وأن يكون اقتصادها قوياً، وأن تقيم علاقات جيدة مع العالم الإسلامي والغرب، وروسيا والدول الإفريقية.
وقد تعرضت صحيفتا يني شفق ويني عقد لهجوم مسلح حيث ألقيت قنابل المولوتوف قبل أيام على مقريهما. فلا يمكن مجابهة الآراء بالسلاح والسجن والتهديد.
كما أن كل محاولة للضغط على وسائل اللإعلام، وتهديدها وإسكاتها عبارة عن توجيه ضربة للديمقراطية. فأنا أشجب هذه الهجمات بشدة، وأطالب بمعاقبة الفاعلين في أسرع وقت ممكن. وتنديد كل وسائل الإعلام بهذه الهجمات يجب أن يقود وسائل الإعلام المقربة من الحكومة إلى إعادة التفكير في موقفها من وسائل الإعلام الأخرى. فحين اقتحمت الشرطة جريدة زمان بسبب نشر مقالة وخبرين، كتبت وسائل الإعلام المقربة من الحكومة في عناوينها الرئيسية عبارة مسيئة “اقتحمت الشرطة أوكارهم”. ولم تتقدم بأية بادرة طيبة حين تعرضت جريدة حريت لهجوم مسلح، ولا حين تم الاستيلاء على قنوات بوجون وكانال تورك ولا حين حُجبت قنوات سامان يولو من القمر الصناعي التركي، ولا حين اعتُقل صحفيون مثل جان دوندار ومحمد بارانصو.
فحكومة العدالة والتنمية التي كانت مبعث الأمل في تحقيق الديمقراطية مع الحفاظ على الهوية الإسلامية، أصبحت تواجه انتقادات في الآونة الأخيرة من قبيل: “هل هذه هي هويتكم الإسلامية؟” و”هل هذه هي العثمانية الجديدة التي تذكرونها على الدوام؟”.
فقد فرضت الحكومة أوصياء على مدارس خاصة حظيت باحترام تركيا بل والعالم كله، حيث كان الناس يرسلون أبناءهم إلى هذه المدارس وهم مطمئنون. في حين أن “ملك إيبك” حفيدة سوتشو إمام الذي لعب دوراً مهماً في تحرير مدينة كهرمان ماراش، وهي التي تُسمى بالمرأة العثمانية، والتي افتتحت عشرات المدارس وخرّجت مئات الطلاب؛ تم طردها من بيتها في أنقرة، وهي تعاني من الإقامة الجبرية في منزلها بإسطنبول. كما تم حجب موقع (herkul.org) الإلكتروني الذي ينشر دروساً دينية في التفسير والمواضيع الدينية المختلفة. وقد هُدم جزء كبير من كلية الشيخ محمود أفندي التي أُنشئت بعد جهود كبيرة منذ سنتين، والتي تشتمل على دورات لتحفيظ القرآن ومطعم وجامع.
وكان حسين تشليك أحد مؤسسي العدلة والتنمية قد انتقد خلال الأسبوع الماضي هذا التطور السلبي الذي أقدم عليه العدالة والتنمية. حيث وصف ما جرى لمجموعة كوزا- إيبك بأنه عملية سطو. وأفاد بأن الظلم الممارس على حركة الخدمة تحول إلى جنون عظمة.
وليس غريباً أن يسعد شخص مثل دوغو برينتشك المعروف بعلاقاته الوطيدة مع الدولة العميقة سعادة بالغة بحكومة ذات عقلية تصادر المدارس، وتقتحم الجرائد والمعاهد التدريسية وتغلقها، وتحجب المواقع التي تنشر دروساً حول القرآن والسنة، وتهدم مجمعاً دينياً تابعاً لجماعة محمود أفندي.