الحكم الفردي غير قابل للعمل في تركيا
ممتاز أر توركونه
أظهر نائب رئيس الوزرء التركي السابق الرجل الثاني في حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا بولنت أرينتش من خلال كلمات عدة كانت كشفرة خدشت كل جزئية في شخصية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كيف يمكن إخماد جذوة الحكم الفردي في البلاد بسهولة بالغة.
لاحظوا أنه على الرغم من أن تصريحات أرينتش أقامت الإعلام الموالي ولم تقعده بعد، وكأن هناك من داس على ذيله، لم يصدُر أي رد عليه عن الناطقين باسم العدالة والتنمية ومسؤولي الحكومة، وحتى من الشخصيات المقربة من أردوغان. أما الأقلام المأجورة التابعة لقصر أردوغان فلجأوا إلى توجيه إهانات لأرينتش بدلاً عن تفنيد كلامه والدفاع عن نقيضه. وهذه اللوحة تعرض لنا أن التصميم الداخلي لجبهة الحكومة لا يتحمّل عناء نظام الحكم الفردي الذي تجري الدعاية والترويج له عبر أساليب إدارة إدراكات الرأي العام والآلة الإعلامية العملاقة فقط.
إنه ليس مزاحاً، فأرينتش وجه لأردوغان ضربة من العيار الثقيل، لكن ليس انطلاقاً من أضعف نقطة عنده وهو ملفات الفساد، بل انطلاقاً من النقاط الأخرى التي يفتخر بها ويعلنها للقاصي والداني ويعتبر نفسه الأقوى فيها. إذ انتزع أرينتش من يده الشبح المسمى بـ”الكيان الموازي” الذي يسدّ حاجة العدو المشترك للتحالف الذي شكله مع جبهة وشبكة أرجينيكون، الدولة العميقة في تركيا، وكذلك كشف عن دور أردوغان في “توافق دولما بهشه” الذي توصلت إليه كلٌّ من حكومة رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو وزعماء حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، والذي يعتبر منعطفاً تاريخياً في وضع اللمسات الأخيرة على مفاوضات السلام الداخلي، وسلّط الضوء على عيوننا لنرى وكأننا ننظر إلى الشمس في كبد السماء مدى استغلال أكبر مشكلة تعاني منها تركيا من أجل تحقيق مكاسب انتخابية.كما أكّد، بصفته سياسياً محنكاً ومسؤولاً في العدالة والتنمية، تقويض استقلالية القضاء، وتعطيل مبدأ الفصل بين السلطات، وعجز الدولة عن توزيع العدل، والضغط على الصحفيين واعتقالهم دون أي دليل مادي لإدانتهم.
يجب على الجميع، سواء كانوا مؤيدين أو معارضين لأردوغان،بل حتى على أردوغان نفسه، أن يمعن في كلام أرينتش متجاوزاً الأشخاص والصراعات الشخصية. فتأسيس نظام لحكم الفردي يضر بالبلد ويضع كل ممتلكات البلد في خطر من أجل إنشاء نظام ديكتاتوري. إذ نرى أنه لا يمكن إدارة هذه البلاد وفق الرؤى الشخصية التي تهمل المؤسسات وعادات الدولة والإدارة ومبادئها المعروفة. فإذا ألقيتم بالصحفيين المعارضين لكم في السجون، فذلك يعني القضاء على الشعور بالعدل والأمن الذي يلم شمل المجتمع، وليس على حرية الصحافة والرأي فحسب. وعلى ضوء ذلك إذا نظرنا إلى أردوغان نرى أنه عزز من صداقته الشخصية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طبقاً لدواعي ومقتضيات النظام الاستبدادي وليس من أجل سياسة تركيا في المنطقة. أولم تُظهر أزمة الطائرة الروسية والتوتر الذي أعقبها إلى أي مدى خالفت هذه السياسة الشخصية مصالح تركيا؟
إن الذين يعتقدون بأن تركيا تسير بسرعة نحو مستنقع النظام الديكتاتوري يخلطون بين أمرين: الاستخدام الفعلي لرئيس الجمهورية غير المسؤول وبالتالي غير المتمتع بالصلاحيات دستورياً، لقوة رئيس الوزراء المسؤول وبالتالي المتمتّع بالصلاحيات، أي تجاوز الرئيس حدود مهامه وانتهاكه حدود مهام رئيس الوزراء وكأن كل أمور البلاد تدور حول شخص واحد، يختلف عن دوران الكواكب السيارة في انتظام حول الشمس في المجموعة الشمسية. فهذا تشبيه خاطئ لا يصور واقع تركيا وواقع العلاقة بين أردوغان وداود أوغلو ووزراء حكومته. لأن استخدام أردوغان لهذه الصلاحيات بشكل فعلي لا يتأتي من أي مكان أو منصب رفيع، بل يستخدمها بعد انتزاعها من رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة. أو ليست الحماية والحصانة التي يوفرها القانون الخاص بـ”جريمة الإساءة للرئيس”، مع أن أردوغان لا يجد أي حرج في وصف من يشاء بالسافل أو غير الخلوق أو المقزز أو الخائن، مثالا جيداً على تعطيل العدل بسبب غياب هذه الموازنة بين الصلاحية والمسؤولية؟
وللأسباب المذكورة يتعمق الصراع بالضرورة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء. فلا رغبات أردوغان الشخصية ولا مقاومة داود أوغلو الشخصية سبب هذا الصراع. بل حينما يحصل مَنْ لا مسؤولية له على الصلاحية تتعطل آلية الدولة تلقائياً. فلا يبقى قطاع خاص ولا نظام قابل للتنبؤ ومناسب للساسة والمجتمع ويمكن العيش فيه بأمان.
ولا بد أن يفسَّر توجه داود أوغلو لزيارة السعودية دون أن يترك نائباً عنه، واصطحابُه للمسؤولين عن أمن البلد، وعلى رأسهم رئيس هيئة الأركان العامة خلوصي أكار، على أنه ردة فعل بصورة مؤسسية على سياسة الحكم الفردي غير المتزنة وغير القابلة للتنبؤ. ما يدل على أن الكاريزما الشخصية التي بددها بولنت أرينتش إنما فعل ذلك في الحقيقة العقلُ الجمعي وردة الفعل المؤسسية لهذا البلد.
نظام الرجل الواحد لا يعمل ولا يجدي نفعاً في بلدنا!