برلين (زمان التركية) نشر موقع مجلة حراء مقالاً لـ”يحي وزيري” بعنوان النظرية الفردوسية في العمارة الإسلامية وإليكم المقال بالكامل:
كان للتصوير القرآني للفردوس، ووصف العديد من الأحاديث النبوية للجنة بما تحويه من متع حسية وروحية، إلى جانب محاولة التغلب على الظروف البيئية القاسية، الدافعُ القوي لدى المسلمين لمحاكاة هذا التصوير المثالي في تصميم وتنسيق الحدائق الإسلامية. فالحدائق بصفة عامة تعكس العلاقة بين الإنسان والطبيعة، أما في العالم الإسلامي فتضاف رؤية أخرى لمفهوم الحدائق على أنها صورة مصغرة ونسخة مقلدة للفردوس أو الجنة.
وتميزت العمارة الإسلامية بما يمكن أن نطلق عليه “النظرية الفردوسية” أو “نظرية التضاد البيئي”، في محاولة لإيجاد الحدائق والجنات الأرضية في داخل بيئة تتسم بظروف مناخية قاسية، بغرض تحسين وتجميل هذه البيئة. لقد كان أهم ما يميز الحديقة في العصر الإسلامي “الخصوصية”؛ لذلك أحيطت بالأسوار العالية أو أشجار النخيل لحجب المناظر الداخلية، وغلب على تخطيطها التقسيمات الهندسية، كما اهتم المسلمون باستخدام المياه في حدائقهم بصور متنوعة ومتميزة. ومع نمو الفنون والعمارة الإسلامية وتطورها، أصبح الاتجاه في تصميم الحدائق يقترب -بقدر الإمكان- من الوصف القرآني للجنة أو الفردوس؛ فتنسيق الحدائق في رؤية الإنسان المسلم ما هي إلا صورة مصغرة للفردوس العلوي أو الجنة، ومحاولة لمحاكاة صنع الله، مما يرى في الطبيعة المحيطة، أو الآيات المنظورة التي تعكس عظمة الإبداع الإلهي.
إن المتأمل في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عن الجنات الأرضية أو الأخروية، ليندهش من دقة الوصف القرآني، والذي استلهم من خلاله المسلمون العناصر الأساسية والجمالية عند تنسيق حدائقهم أو عند اختيار مواقعها.
فمن الآيات الكريمة التي أوضحت الموضع النموذجي لاختيار الحدائق والجنات الأرضية، نجد قوله سبحانه وتعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(البقرة:265)؛ فالآية الكريمة أوضحت أن الموقع الأمثل لاختيار الحدائق والبساتين يكون بالأماكن المرتفعة من الأرض كالروابي مثلاً، فهذا يجنب الأشجار عدة عوامل معوقة للنمو والإثمار الجيد وأسباب المرض، ومن هذه العوامل التقاء الجذور بالمياه الجوفية الذي يحد من نموها ويمنع تعفن الجذور، كما أن المياه الزائدة لن تفسد الزرع؛ لأنه بربوة عالية والصرف ممتاز حول الربوة، وفي حالة عدم نزول الأمطار فإن هذه الحدائق تروى بطريقة الرش والرذاذ الخفيف للندى.
ويلاحظ أن المعنى اللغوي للفظ “الحديقة” يتفق مع ما ورد في الآية السابقة؛ فـ”الحدائق” جمع حديقة وهي البساتين أو الروضة أو الحائط، وعادة ما يطلق لفظ “الحديقة” على الأرض المرتفعة المزروعة بالشجر والتمر والنخل. أما “الروضة” فهي الأرض ذات الخضرة، ولا يقال في موضع الشجر “روضة”، ولا تكون إلا بماء معها أو إلى جنبها. و”الحائط” هو البستان من النخيل إذا كان عليه حائط. و”البستان” لفظة فارسية الأصل تعني “مكان العطر”، وأطلقت على كل أرض أدير عليها جدار وفيها شجر وزرع.
وعلى ذلك، فإن لفظ “الحديقة” عادة ما يطلق على الأرض المرتفعة المزروعة بالأشجار والنباتات، وهو ما يتفق مع ما أشارت إليه الآية الكريمة السابقة، ومن خلال التصوير القرآني للجنات والحدائق سواء كانت أرضية أو أُخروية، يمكن أن نستلهم العناصر الأساسية والجمالية لتصميم الحديقة بأفضلية اختيار الحدائق بالأماكن المرتفعة كالروابي على سبيل المثال، بصفة عامة والإسلامية منها بصفة خاصة، وبلورة هذا التصور من خلال العلوم المعمارية والبيئية المعروفة، ويمكن إيجاز عناصر الحديقة الإسلامية بناء على ذلك كما يلي:
الأشجار والنباتات
استخدمت الأشجار والنباتات في الحديقة الإسلامية لإيجاد الظلال والحصول على المتعة البصرية، ولقد أعطيت العديد من الآيات القرآنية وصفًا جميلاً للجنة وما بها من متع أعدها الله لعباده الصالحين، حيث يقول سبحانه وتعالى: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ)(الواقعة:27-33)، ويقول تعالى: (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً)(الإنسان:14).. فوجود الأشجار والنباتات بالحدائق، يؤدي إلى منافع شتى؛ فيمكن الحصول على الفواكه من بعض أشجارها كالعنب مثلاً، والبعض الآخر يستخدم كسور يحمي الحديقة من أعين المتطفلين ويوفر لها الخصوصية كأشجار النخيل، والبعض الآخر يوفر الظلال ويساعد على عدم سقوط أشعة الشمس على حوائط هذه المباني ويحد من شدة الإبهار بالمنطقة المحيطة بالمباني.. هذا إلى جانب الحصول على المتعة البصرية وتحقيق الجوانب الجمالية.
وقد بلغ اهتمام المسلمين بتحقيق الجانب الجمالي في الحدائق، إلى أنهم قد أحاطوا في بعض الأحيان جذوع الأشجار برقائق الذهب؛ ويروى عن “خمارويه ابن أحمد بن طولون” أنه كان يعتني بحدائق القصر الذي أنشأه، فكسى جذوع النخيل بالنحاس المذهب. وكأن المسلمين قد استلهموا هذا الأسلوب من حديث الرسول عليه الصلاة والسلام والذي ورد في جامع الترمذي، حيث يقول: “ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب”.
الاستخدامات المتنوعة للماء
الماء يرمز في الرؤية الإسلامية إلى أصل الحياة، لقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)(الأنبياء:30)، كما أنه رمز للتطهر والصفاء.
ولقد جاء استخدام الماء في الحديقة الإسلامية بصور متنوعة؛ فقد استخدم على شكل مسطحات مائية مظللة بالأشجار، أو على شكل نوافير تساعد على تحريك سطح الماء فلا يعمل كسطح عاكس، أو على شكل أنابيب علوية تتساقط منها المياه محدثة خريرًا مقبولاً، أو على شكل سلسبيل.. كما أن المسلمين استخدموا الفسيفساء الملونة في تكسية قاع وجوانب النوافير أو القنوات المائية، وذلك لإبراز جمال الماء والمحافظة على صفاء لونه بقدر الإمكان.
وجدير بالذكر أن بعض أحواض الماء كانت تحتوي على بعض الأسماك والطيور كالبطّ، كما تحتوي على نوافير حتى لا تسمح بتواجد الحشرات على سطح الماء، إلى جانب تأديتها لوظائف بصرية وسمعية أخرى.
وإذا كانت معظم بلدان العالم الإسلامي تقع جغرافيًّا في مناطق صحراوية وجافة، فقد تمكن المصمم المسلم من التغلب على هذه المشكلات المناخية باستخدام الماء كعنصر تصميمي أساسي في الحديقة الإسلامية من خلال الأساليب التالية:
وضع النافورات والمسطحات المائية في أفنية داخلية محاطة بسور عال أو مبان من جميع الجهات، مما يوفر حماية من الرياح القوية المتربة الحارة مع إيجاد علاقة بصرية قوية مع المشاهد، ويختلف ذلك اختلافًا جذريًّا عن الحضارة الأوروبية في فترة ما بعد النهضة؛ حيث إن تلك الحضارات كانت تميل إلى الاستعراض وإظهار القوة والبذخ، بينما كانت فلسفة الحضارة الإسلامية في استعمال المياه مرتبطة بجوانب وظيفية، وبالاستمتاع الحسي والروحي.
الحماية من الشمس بواسطة نباتات محيطة بمجرى الماء وضيق القنوات التي يتحرك فيها الماء، مما يقلل معدل البخر وفقدان الماء، ويعطى انعكاسات جميلة.
تقليل حجم الماء المستعمل مع المحافظة على نفس مسطح الماء الظاهر بتصميم قناة الماء على شكل نصف بيضاوي أو على شكل زهرة اللوتس.
استخدام رذاذ الماء الرفيع المندفع بقوة (Water Jets) مما يعطى إحساسًا جميلاً وصوتًا رقيقًا مع ترطيب الجو بأقل كمية ماء ممكنة.
عدم إهدار المياه المنصرفة من المسطحات المائية، وذلك بإعادة استخدامها في الري، كما في فناء البرتقال بمسجد أشبيلية.
لقد جاء استخدام الماء في الحدائق الإسلامية على درجة عالية من الرقي التصميمي، سواء من النواحي الجمالية أو لتحقيق حلول مناخية لتلطيف الجو مع استخدام أقل قدر ممكن من الماء، وهو ما يتمشى مع تعاليم الإسلام والتي تحارب التبذير والإسراف في كل شيء، فما بالنا بالماء وهو أصل الحياة.
المجالس المظللة والمكشوفة
لقد تم تزويد الحدائق الإسلامية بالأرائك والمجالس التي كانت غالبًا ما تختار بالقرب من النباتات والمسطحات المائية للاستمتاع بها عن قرب، ولقد تحدث القرآن الكريم عن المجالس في الجنة، حيث يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ)(المطففين:22-23). لقد كانت تستعمل المجالس المكشوفة، من الخشب أو الحجر أو المكسوة بالبلاط القيشاني الملون، كما كانت تستعمل الأكشاك الخشبية كمجالس مظللة -حيث المناخ حار والشمس ساطعة أغلب النهار- وكان لها فتحات صغيرة بجدرانها تمكن الجالس بداخلها من مشاهدة ما يجري خارجها.
ومن الأمثلة المعاصرة أنه تم استخدام الخيام في منتزه “السويدي” بمدينة الرياض كمناطق للجلوس، وكأن المصمم قد استلهم ذلك من وصف الرسول عليه الصلاة والسلام: “إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلا”، وهذه الخيام على شواطئ الأنهار في حدائق الجنة.
الروائح الزكية والأصوات الجميلة
تعتبر الروائح الزكية أحد العناصر الهامة لإدخال البهجة والسرور والإمتاع الحسي عن طريق حاسة الشم، ويخبر القرآن الكريم والأحاديث النبوية بأن الجنة لها رائحة زكية فيقول الله سبحانه وتعالى: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ)(الواقعة:88-89). كما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: “إن ريح الجنة يوجد من مسيرة ألف عام” (رواه الطبراني). لذلك فقد روعي في النباتات المستعملة في الحديقة الإسلامية أن تكون ذات رائحة جميلة، أو أزهار فواحة العطر، أو فواكه ذات رائحة زكية، مما يكسب البناء رائحة طيبة بشكل دائم وهذا يضيف بُعدًا جديدًا للاستمتاع الحسي.
أما الأصوات الجميلة فلها تأثيرات سمعية تدخل على النفس الهدوء والسكينة، مع تلافي الضوضاء والأصوات المزعجة، وهو ما يشير إليه قول الله سبحانه: (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لاَ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً)(الغاشية:10-11)، فأصوات النوافير وخرير مياهها، وزقزقة الطيور المختبئة في أشجار الحديقة والمتداخلة مع الأصوات الإنسانية داخل الحديقة، يكتمل اللحن الخاص بالمبنى.
استخدام الخط والكتابات العربية
جاء استخدام الكتابة العربية بالخصوص المختلفة (كوفي أو ثلث) لكتابة الآيات القرآنية في أجزاء كثيرة من الحديقة الإسلامية خاصة على أبوابها، تيمّنًا وتذكيرًا بنعم الله وبفضله، ومن الجائز أن المسلمين قد استلهموا هذا المعنى من قوله تعالى: (وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ)(الكهف:39).
إلى جانب الأحاديث النبوية التي أخبرت بأنه مكتوب على باب الجنة “لا إله إلا الله محمد رسول الله”.
ومن نماذج الآيات والكتابات التي استخدمت في الحدائق ما يلي:
“لا اله إلا الله”، “الله الواحد الأحد”، “ما شاء الله”، “ولا غالب إلا الله”، إن ينصركم الله فلا غالب لكم”.. وفي مداخل الحديقة “ادخلوها بسلام آمنين”، “جنات تجري من تحتها الأنهار”.. وللاستيعاذ بالله من الحاسدين كتب “يا حفيظ”، “والله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين”.. وكلها تعبِّر عن الإيمان العميق بالله.
وفي ساحة فناء “الريحان” بقصر الحمراء بغرناطة، فإن الداخل يجد كلمات تبرق على الجدران، مثل “السعادة”، و”البركة”، و”الازدهار”، و”الصحة الباقية”، و”الحمد لله على نعمة الإسلام”.
مما سبق يتضح أن العناصر الأساسية للحديقة الإسلامية قد استلهمت من معاني بعض آيات القرآن الكريم وبعض الأحاديث النبوية الشريفة التي تصف الفردوس، وهو ما أكد عليه “جون أدي” بقوله: “لقد كانت الحديقة عند المسلمين، هي تصوير للجنة أو الفردوس في الدار الآخرة”.