إسطنبول (زمان عربي) – أكّد المفكر الإسلامي التركي الأستاذ فتح الله كولن وجوب التحلّي بالأخلاق الحميدة والتخلّي عن الأخلاق الفاسدة على الصعيد الشخصي وضرورةِ تعامُلِ الدولة مع رعيتها بالعدل والإحسان وإزالة الطرق المؤدية إلى الفحشاء والمنكر والبغي، وإنشاء وسائل إعلام مرئية ومسموعة ومكتوبة تقدّم خدماتها على طريقة تنسجم مع المبادئ الإسلامية السامية وتَحُول دون انتشار الغرائز الشهوانية والانحطاط الأخلاقي لدى الأجيال الشابة.
وفيما يلي مقتطفات من درس الأستاذ كولن الذي نشر في موقعه الرسمي على شبكة الإنترنت:
يقول الله جلّ جلاله في مُحكم تنزيله:”إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” (النحل: 90).
يأمر المولى عزّ وجّل في هذه الآية الكريمة الحكام والولاة على وجه الخصوص بأن يعدلوا في حكم بلادهم وإدارة أمورها، ويلتزموا بحقوق الرعيَّة بأدق تفاصيلها، ويقدّموا أسباب راحتهم واطمئنانهم من المأكل والمشرب والمأوى على سعادتهم الذاتية.
فكأن الله تعالى يقول للأمراء والولاة إذْ يأمرهم بالإحسان والعدل: “إن ربكم مُطّلع عليكم ويراكم حيثما كنتم، وعليمٌ بكل أطواركم وشؤونكم..” بل يُشْعِر قلوبكم عبر آلاف الوقائع التي يمتحنكم فيها بأنه يراكم دوماً ويجعلكم تحسّون بوجوده الإلهي في كل مناسبة. لذلك يتعيّن عليكم أيضًا أن تكونوا واعين ومدركين ومستحضرين في كل حين بأن الله تعالى يعرف ويرى كلَّ ما يبدر عنكم من تصرفات وسلوكيات بينما تؤدون مسؤولياتكم وواجباتكم تجاهه سبحانه وتعالى. وهنا يمكن أن نستحضر في أذهاننا الملاحظات والخواطر التي ترِد في تعريف مفهوم “الإحسان”.
كما يأمرنا الله جلّ جلاله في هذه الآية بأن نُنْفِق جميع ثرواتنا من أجل تحقيق طمأنينة أفراد الشعب وسعادتهم، وتحويلِ الفكر الإسلامي المبني على الإيمان إلى عمقٍ من نوعٍ آخر في طبائعهم.. وكذلك يأمرنا بتنفيذ أمر الإنفاق هذا بدءًا من أقرب حلقة حتى أوسعها.
بعد ذلك يكلّف الأمراء والولاة بإزالة الطرق المؤدية إلى الفحشاء والمنكر والبغي والتمرد والطغيان، ويطالبهم بالتخطيط لإنشاء وسائل إعلام مرئية ومسموعة ومكتوبة، تقدّم خدماتها على طريقة بحيث لا تشوِّه أخلاق الجيل الناشئ، بل تتوافق مع روحنا الوطنية وجذورنا المعنوية ومصادرنا الذاتية، وتَحُول دون انتشار الغرائز الشهوانية والانحطاط الأخلاقي لدى الأجيال الشابة.
القرآن لا يكتفي بالقول “تحلّوْا بالأخلاق الحميدة” بل يأمر بمنع الأخلاق الرذيلة أيضًا
إن القرآن الكريم لا يرصد القضية على الصعيد الإرشادي المجرد ولا يقول “تحلّوا بمكارم الأخلاق” فحسب. بل يؤكد في الوقت ذاته ضرورة إصلاح الأوكار التي تحتضن الفحشاء والمنكر والبغي والطغيان، ويصر دوماً على إصلاح مرتكبيها لكيْ يتحلى الناس بمحاسن الأخلاق.
أجل، في الوقت الذي ينهى فيه القرآن الكريم الناس عن الأمور التي عدّها الله تعالى قبيحة وسيئة من ناحية، يدعوهم من ناحية أخرى إلى العيش كأناس ملتزمين بضوابط الكتاب والسنة ومعايير الحياة الروحية. لكن القيام بهذه الوظيفة (التخلّي عن الأخلاق الرذيلة والتحلّي بالحميدة، والدعوة لهما)، وفق القرآن الكريم، يتمّ بطرق وأساليب مختلفة بين الطبقات المختلفة في المجتمع.
مرونة قائمة على محور الأمل والعفو
يتعامل القرآن الكريم مع المجرم الذي اقترف ذنبًا أو الإنسان الذي ارتكب معصية جهاراً بطريقة خاصة بحيث تمهّد له الطريق ليتمكّن من العودة إلى صوابه ورشده. فالقرآن الكريم ينصح في هذا المضمار بالتعامل مع المذنب أو المخطئ بالعفو والصفح الواسعين، سواء ارتكب ذنبه أو خطأه وسط العائلة أو المجتمع أو الأمة أو أية بيئة أوسع من ذلك، ويرشد طلبته إلى التحلّي بالسماح والكرامة والوقار والجدية. فمثلاً يقول: “وَالَّذِينَ لَايَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا”. (الفرقان: 72)
أجل! المؤمن يتخذ موقفاً صارماً من الفسق والفجور كما علّمه وهداه الله عزّ وجلّ. لكن إذا ما وجد نفسه بشكل أو آخر، ومن دون علم، في بيئة يُرتكب فيها الفحشاء والمنكر، يقول حينها “سلام” ويمرّ منها مرور الكرام وعزيزَ النفس ويمضي في طريقه، ويَحُول دون الكشف عن هذا الفحشاء والمنكر للجميع، ولا يلوم المذنبين ويفضحهم على الملأ، ويتجنّب تصرّفاتٍ وحركاتٍ من شأنها أن تسبِّب ابتعادهم عن الدين والديانة كلّياً.
ويصف القرآن الكريم أبطال العفو والصفح والسماح الذين اتخذوا من هذه المبادئ السامية دستورًا لهم قائلاً: “وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا” (الفرقان: 63).
إنهم عباد الرحمن الصفوة الذين يمثّلون قدوة للمؤمنين بوقارهم وجديتهم، ويعكسون دومًا روح القرآن بسلوكياتهم؛ يذكّرون الله في جميع حركاتهم وسكناتهم، ويمثلون الأخلاق النبوية في قيامهم وقعودهم. ومن الممكن أن نرى الأخلاق التي أمرها لله تعالى وبلّغها رسوله صلّى الله عليه وسلّم متجلية في أحوالهم وشؤونهم وأطوارهم. وفي الوقت ذاته يتجلّى دائماً الإيمان بالله في وقارهم وجديتهم واحترامهم وأدبهم. وعباد الله الذين يمثلون صرح التسامح والمسامحة إذا مروا بمكان يَحْتشَد به جهلاءَ وغافلِون قالوا “سلامًا”، ولا يرغبون في حرمان السلام والأمان الإلهيين حتى من هؤلاء الناس.
يظهر القرآن الكريم بوضوح عبر توجيهاته المذكورة الطريقة التي يجب أن يتبعها المؤمن في تعامله مع الجاهلين والمذنبين ومنعدمي الأدب، ويأمر بمرونةٍ ورحابةِ صدرٍ تقوم على محور الأمل والعفو (فتح باب الأمل للمذنبين مع دعوة المؤمنين للعفو والصفح عنهم) على نحو غير مسبوق في أي دين وكتاب آخر.