عمر فاروق نويان (*)
إسبانيا هي أول منطقة جغرافية التقى فيها الغرب بالمسلمين.
فالمسلمون الذين توجهوا إلى إسبانيا بقيادة طارق بن زياد سنة 711، وأنهوا خلال بضعة أشهر حكم ويزجوت. ووصف الراحل روجر جارودي (1913-2012) هذه الحادثة بقوله: “لم يكن ذلك احتلالا عسكريا. بل كان ثورة اجتماعية وثقافية. حيث منحت الأرض لمن يفلحها. وكان المسلمون يؤمنون بأن عيسى (عليه السلام) نبي عظيم وليس ابن الله. وفتحوا البلاد وتركوا الكنائس والكنس مفتوحة”. وبنوا منشآت عسكرية وجوامع على سواحل البحر المتوسط. ووصلوا إلى “سنس”(Sens)جنوب باريس بنحو 100 كم. بيد أنهم هُزموا في معركة بلاط الشهداء. وقد حكموا صقلية قرنين من الزمان.
وقد تُرجم القرآن الكريم إلى لغة غربية (اللاتينية) للمرة الأولى في 1143 في الأندلس. وكانت بداية هذه الترجمة على يد القس”بيير لو فينيرابل” (1092-1156) وهو قس دير كلوني (الذي تأسس بفرنسا في القرن العاشر). وكان فينيرابل قلقا من الحضارة الإسلامية في الأندلس، ولذلك أمر بترجمة القرآن الكريم إلى اللاتينية في توليدو. ولكن هذه الترجمة المحرفة كانت في الحقيقة سلاحا حربيا.
إذ إن فينيرابل أطلق هذا الافتراء على الإسلام وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم: “أنا أرى بأن المسلمين الذين آمنوا ببعض عقائد المسيحية وتركوا بعضها الآخر، قد حادوا عن الدين. وبالنظر إلى ما كتبه محمد بطريقة إلحادية في القرآن سنجد أن المسلمين يقولون إن عيسى وُلد من فتاة عذراء، وإنه أعلى مرتبة من بقية البشر، وإنه عاش بلا خطايا، وإنه بلغ بالحقيقة، وأظهر المعجزات؛ فهم يعترفون بأن عيسى هو كلمة الله وروحه، ولكنهم لا يؤمنون به كإيماننا. ولا يكنون له العشق الذي نكنه نحن، ولا يشعرون بمثل عواطفنا تجاه موته. فهم يرون بأن شبيهه هو الذي قُتل. كما أنهم يرفضون التعميد فشأنهم شأن الملاحدة. ولا يؤمنون بأن عيسى ضحى بنفسه من أجلنا. ويستهزئون بمقدسات الكنيسة كغفرانها للذنوب..وأثناء رحلتي إلى إسبانيا لزيارة بيوتنا هناك، بذلت جهدا كبيرا وأموالا كثيرة في سبيل ترجمة كتابهم وحياة مؤسسهم من العربية إلى اللاتينية، من أجل كتابة رد عليهم، وذلك كي تُعرف مدى الشبهات التي تحيط بهذه الفرقة الكافرة التي لا أساس لها”.
وقد أطلق فينيرابل على هذه الترجمة (!) عنوان “قوانين مدعي النبوة محمد”. وظلت هذه الترجمة هي المرجع الوحيد حول القرآن الكريم في أوروبا حتى القرن الـ17. وكانت هذه الترجمة المخطوطة التي تصف النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والكافر ومدعي النبوة (يوجد 25 مخطوط منها اليوم) قد طُبعت للمرة الأولى في 1550 بمدينة بازل السويسرية ذات الأغلبية البروتستانتية على يد تيودور بيلياندر. وكان مارتن لوثر في رده على الكاثوليك الذين اعترضوا على الترجمة قد قال: “نحن نطبع هذه الترجمة كي يُفهم الدين الذي تدعون أنه لا أساس له، بشكل أوضح”.
وكان اللوثريون قد غيروا عنوان هذا الكتاب فجعلوه: “مبادئ محمد… هو وتعالميه (القرآن)”. وقد انتشر هذا الكتاب بسرعة أكبر. وبعد عدة قرون تم نشر هذا الكتاب مرة أخرى في 2010، وكتب مقدمته المستشرق هنري لامارك، كما كتب الناشر تريستان فيجليانو مقدمة خاصة به (كلمة الناشر) قد أوضحا بأن هذا الكتاب بعيد جدا عن الترجمة الصحيحة للقرآن، لذا فقد تسبب بفهم القرآن فهما خاطئا طوال قرون عدة في أوروبا.
وكان القرآن قد تُرجم عن النص الأصلي إلى الإيطالية في 1547، وإلى الهولندية 1641، كما ترجمه أندريه دو رير إلى الفرنسية في 1647. كما تُرجم من الإيطالية إلى الألمانية في 1616، ومن الفرنسية إلى الإنجليزية في 1649، وإلى الروسية في 1716 و 1790. وفي كل هذه الترجمات كانت تُستخدم عناوين من قبيل: “أسس الدين التركي” و”كتاب الأتراك” و”الإنجيل التركي”؛ في حين كانوا يُطلقون على النبي محمد صلى الله عليه وسلم تسمية “النبي التركي”. ويبدو أن عالم الرياضيات والكلام الفرنسي باسكال
(1623-1662) الذي يحتل مكانة مرموقة في الفكر الأوروبي، لم يكن قد اطلع على ترجمة 1647. فهو يذكر بأنه قرأ كتاب “حقيقة الدين المسيحي” للهولندي هوجو جروتيوس الذي يعتبر الإسلام دينا محرفا، وكتاب “الهوية العقائدية لدى الأعداء اليهود والمسلمين” لريموند مارتين. فهو يؤمن بأن الإسلام دين وحي، ولكنه يرى بأن الإسلام لا يولي العقلَ أهميةً، وأنه دين قائم على التعصب، ويدعو الناس للبقاء في ظلمات الجهل. كما أنه وصف أن الرسول صلى الله عليه وسلم بالجبار، ورأى بأنه كرس عقيدة الفتوحات من خلال العنف الذي يُسمى بالجهاد، ومنع القراءة؛ في حين أن الحواريين أمروا بالقراءة. وقد قال: “محمد يقتل، وعيسى يضحي بنفسه”. ويتجاهل أمر الشنق المنسوب لعيسى في الإنجيل: “لا تظنوا بأني بُعثتُ إلى الدنيا لأنشر السلام فيها، بل بُعثتُ لآتي بالسيف”. متّى 10/34.
في حين أن فولتير يذكر بأنه غير قناعاته حول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، بعدما قرأ ترجمة 1647. وقد بدأت كلمة “مسلمان”(Müslüman) المسلم باللغة التركية تُستخدم في اللغة الفرنسية للمرة الأولى في 1551، وكلمة إسلام في 1697، كما استخدمت هاتان الكلمتان في الإنجليزية على التوالي في سنتي 1613، و1615. وقد كانوا إلى ذلك الحين يطلقون على المسلمين مصطلحات مثل (Sarrasin) أي الشرقيين. و(Acaren) أو (İsmailit) أي هاجريين وإسماعيليين (من نسل هاجر وإسماعيل). و(Muhammetan) نسبة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وكان أول مسلم ترجم القرآن عن النص الأصلي إلى الفرنسية هو محمد حميد الله (1908-2002)الذي ترجمه في 1959. وكان يقوم بالإضافات والتصحيحات على تفسيره باستمرار حتى قبيل وفاته لتكون على الشكل الأمثل (حوالي عشرين طبعة). وقد شاهدته مرارا وهو يقوم بذلك بين سنتي 1989-1994 وكان يصوم صوم شهر شوال رغم تقدمه في السن.
وكما تبين لنا فإن هذه الخطوة جاءت متأخرة جدا. فاللاوعي الأوروبي قد تشكل خلال المراحل المذكورة آنفا. فالقرآن يطالبنا بحقه علينا في هذا الصدد. ولكن المطلوب أولا في هذه الأيام الحديث عن هذا التاريخ، وأن يزيد عدد المؤرخين الشرفاء أمثال هنري لامارك وتريستان فيجيليانو من توجيه خطابهم للرأي العام. ولكن القضية الأهم من كل ذلك معقود بمدى صداقتنا لديننا أو مدى تطابق أقوالنا وأفعالنا وأحوالنا بديننا وعقيدتنا.
* عضو هيئة التدريس بجامعة جلال بايار بمانيسا