بقلم: نهال بولاط
عبدالله بن أبي بن سلول هو شخصية حُرمت من السعادة في عصر السعادة. في البداية اعتنق الدين الإسلامي. بعد ذلك سعى لإفساد ذات البين والعمل على تفريق جماعة المسلمين عبر الفتن والافتراءات والمؤامرات، وظل يتردد اسمه حتى يومنا هذا بسبب أعمال الشر التي ارتكبها ولقبه المسلمون بـ” كبير المنافقين”.
وعند النظر إلى الأسباب المقارنة لنزول الآيات في القرآن الكريم نجد أمامنا عديداً من الأسباب والحوادث والأشخاص على اختلافها. وكان عبدالله بن أبي بن سلول أحد الموضوعات في بعض هذه الآيات. إلا أنه كان سببًا في نزول هذه الآيات بسبب الفتن التي أشاعها وممارسته النفاق، ونظريات المؤامرات التي حاكها بين الناس، وليس لأعمال الخير التي فعلها للأسف الشديد.
وعلى الرغم من إشهار بن سلول – الذي عرف بكبير المنافقين- إسلامه عقب غزوة بدر، إلا أنه أضمر العداء والضغينة للرسول صلَّى الله عليه وسلَّم والدين الإسلامي حتى وفاته.
طمعه في السلطة جعله يعادي الرسول
أحد الأسباب الكامنة وراء موقف بن سلول المعادي للرسول هو أنه كان مُقررًا أن يترأس أهل يثرب، إلا أن هذا الحدث لم يتحقق بسبب هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة. وكلما زاد طمعه في السلطة في قرارة نفسه لم يمنعه ذلك من إشهار إسلامه ومحاولة إلحاق الضرر بالإسلام من داخله.لدرجة أنه فكر حتى في قتل الرسول عليه السلام. إذ بعدما فشل في أن يتبوأ السلطة في المدينة أرسل له علية القوم في قريش خطابًا يتعهدون فيه بأنهم سيقدمون له يد العون في أن يصبح زعيماً إذا ما قتل سيدنا محمد. بيد أنه لم يتجرأ على فعل ذلك حيث كانت الأكثرية في المدينة من المسلمين.
حسنًا، لماذا وكيف أصبح إنسان يعادي الرسول والإسلام إلى هذه الدرجة مسلمًا؟
عندما انتصر المسلمون في غزوة بدر، فطن بن سلول إلى أنه لن يستطيع أن يصبح زعيماً للمدينة، وما لبث أن اعتنق الإسلام بعدما فكر في أنه لن يستطيع أن يبقى مشركًا في المدينة. إلا أنه لم يكفَّ عن حياكة المؤامرات وإشاعة الأخبار الكاذبة والخاطئة وإفساد ذات البين والعمل على تفريق المسلمين.
وكان يهود المدينة من المتواطئين مع بن سلول. وأقدَم اليهود الذين لم يستسيغوا انتصار المسلمين في غزوة بدر على بعض الأمور المتطرفة. إلا أنهم رضخوا لحكم النبي في نهاية المطاف. وهنا يخرج أمامنا بن سلول، والذي كذب على الرسول بعدما قال له إن قبيلة الخزرج المعروفة قديمًا بقربها لليهود اتفقت مع اليهود في هذا الموضوع.
وعليه أنزل الله تعالى الآية رقم (51) من سورة المائدة التي يأمر فيها المؤمنين بألا يتخذوا اليهود والنصارى أولياءَ، ويخبرنا في الآية التي تليها مباشرة بأن في قُلُوبِهِم مرَضاً قاصدًا بن سلول ومن شايعه. “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَتَتَّخِذُ واْالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَيَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ”. (المائدة: 51-52).
كما نرى طمع وهوس بن سلول في غزة أحد أيضًا. إذ بينما كان الرسول ذاهبًا إلى أحد بـ700 شخص جمع سلول 300 شخص والتحقوا بهذه المجموعة. إلا أنه عاد إلى المدينة من منتصف الطريق بالأشخاص الذين قدموا معهم قائلاً “لم أكن أعلم أنكم ذاهبون للحرب”.
افترى حتى على زوجة رسول الله
أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها.. تعرضت هي الأخرى لافتراءات بن سلول. وافترى هذا الرجل الذي يسبقه الكذب ذاته على هذه السيدة الفاضلة التي عاشت تحت سقف واحد مع الرسول منذ سن مبكرة والتي تُعد أكثر مَنْ روى الأحاديث عنه والتي تعلمنا منها الكثير من المعلومات بخصوص المرأة والتي كان الأدب والحياء سمتها في قيامها وقعودها.
هذه الافتراءات كانت ثقيلة للغاية بعدما جعل السيدة عائشة رضي الله عنها تعيش أيامًا عصيبة جدًّا. وكانت الواقعة على النحو الآتي: ارتحلت قافلة كانت تضم الرسول صلى الله عليه وسلم، وبينما وقفوا للاستراحة في مكان بالقرب من المدينة بدأت السيدة عائشة تبحث عن قلادتها بعدما أدركت أنها سقطت منها وتخلفت عن القافلة.
ولما ضلت طريقها للقافلة بدأت في الانتظار على أمل أن يعودوا إليها. وبعد فترة رآها صفوان بن المعطل (رضي الله عنه) -الذي كانت مهمته سياقة العسكر يلتقط مايسقط من متاع المسلمين حتى يأتيهم به- نائمة تحت ظل شجرة. ثم أيقظها بشكل ملائم وأركبها ناقته ولحقا بالقافلة.
وبمجرد أن رأى بن سلول هذا الموقف شن افتراءات كاذبة لا أساس لها من الصحة عن صفوان بن المعطل والسيدة عائشة. وبينما كانت تسير السيدة عائشة في طريقها ذات يوم علمت بهذا الحادث المؤلم وهذه الافتراءات التي تُقال بحقها التي لم تكن تعلم بها منذ فترة طويلة. وذهب إلى جوار أمها على إثر الصدمة التي سمعتها، وأخبرتها بأن ذلك غير حقيقي وعيناها مغرورقتان في الدموع. وبعدها أتى إلى جوارهما سيدنا أبو بكر رضي الله عنه وذرف الدمع مع ابنته وزوجته.
أصاب هذا الافتراء القبيح الجميع بجروح عميقة، وجعلهم يسيؤون الظن بها، إلا أنها خذلت وأحرجت كل من صدّق هذا الكذب فيما بعد. غير أن هذه التهمة الكاذبة أثّرت في مجتمع كبير وجعلتهم يشكون فيها.
السيدة عائشة كانت تتربص في حزنٍ اليوم الذي ستظهر فيه براءتها بعدما فوضت أمرها إلى الله وتوكلت عليه. وعُرف الافتراء الملفق بها في التاريخ الإسلامي باسم “حادثة الإفك”.
وفي نهاية المطاف تسبب هذا التشويه القبيح الملفق لامرأة طاهرة في نزول الآيات من العاشرة إلى السابعة والعشرين من سورة النور. وأكدت آيات الله أن السيدة عائشة لم تكن مخطئة قط.
وتكفي آية واحدة منزلة لإظهار ضرورة كيف ينبغي أن يكون موقف المؤمنين في هذا الموضوع: “لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ” (النور: 12).
وتحث هذه الآيات على ضرورة توخي الحذر في موضوع تصديق الكلام المقال بخصوص شخص أو مجموعة من الناس دون عمل أية تحريات أو تحقيقات أبدًا. كما تشمل الآيات في الوقت ذاته جميع الناس الملفق بحقهم الافتراءات بعد السيدة عائشة.
وصيته والآية المنزلة بحقه
وعندما مرض بن سلول الذي ظلّ بجوار عبدٍ قال الله عنه “وإنك لعلى خلق عظيم” لسنوات طويلة لكنه كان تعيسًا بعدما حُرم من حلاوة الدين الذي جاء به رسولنا الحبيب، وسقط طريح الفراش وأدرك أن الساعة آتية لا ريب فيها، استدعى ابنه عبد الله إلى جواره، وأوصاه بأن يكفنوه بقميص سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأن يشيع جنازته. وعبد الله كان من طليعة المسلمين الخلصاء والمخلصين على النقيض من والده.
وعندما توفي والده جاء عبد الله إلى جوار الرسول وأخبره بوصية والده. ثم وافق رسول الله على وصية هذا الرجل الذي فرق ذات بين المسلمين حتى مماته وشن الافتراءات على زوجته وتسبب في إحداث الغوغائية بين المسلمين، وأعطاه قميصه لتكفينه، وقال له إنه سيؤم بصلاة الجنازة.
غير أن سيدنا عمر (رضي الله عنه) استفسر الرسول عليه السلام قائلاً: “ألم ينهَك الله أن تصلي على المنافقين؟”. فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ، فقال: “اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْلَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْۚذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۗوَاللَّهُ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ” (التوبة: 80).
وهذه كانت آخر صلاة جنازة أمَّ بها الرسول، ولم يؤد أية صلاة على المنافقين قط. فبعد جنازة بن سلول نزلت الآية الكريمة التي تأمر بعدم الصلاة على المنافقين: “وَلاَتُصَلِّعَلَىأَحَدٍمِّنْهُممَّاتَأَبَدًاوَلاَتَقُمْعَلَىَقَبْرِهِإِنَّهُمْكَفَرُواْبِاللّهِوَرَسُولِهِوَمَاتُواْوَهُمْفَاسِقُونَ” (التوبة: 84).
موقف الرسول من المنافقين
ظل يتردد اسم بن سلول حتى هذا اليوم بسبب أعمال الشر التي ارتكبها، وحُرم من السعادة في عصر السعادة. عندما سقط على فراش الموت بعد ارتكابه كل هذه السيئات يبدو أنه فكر في العقوبة التي سيتعرض لها في الآخرة أو فكّر في هذا الاحتمال على الأقل حتى طلب بأن يتكفن بقميص الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا يظهر إيمانه –وإن لم يؤمن بنبوّة رسول الله والدين الذي نزل عليه- لكنه لم يستطع أن يحول دون السيئات التي اقترفها بسبب الحسد والضغينة بالرغم من الحقائق كافة.
وثمة حكمة تكمن وراء موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم على وصيته؛ فهذا يظهر في البداية كم أن رسول الله كان رحيمًا، وكان هذا التصرف في الوقت ذاته سبباً في تعوّد الناس على الإسلام؛ لأنه بالفعل قال عندما سُئل عن سبب صلاته على بن سلول:
“إن قميصي لن يغني عنه من الله شيئاً، وإني أؤمل من الله أن يدخل بهذا السبب في الإسلام خلق كثير”. ولكل هذه الأسباب عامل الرسول صلى الله عليه وسلم المنافقين بحيطة دومًا ولم يتخل عن اتخاذ التدابير. وضبط سلوكه وتصرفاته في تعامله مع قضية المنافقين، مع توخي الحذر دومًا تجاه المخططات التي تفسد وحدة المجتمع الإسلامي سلامته.