أ. أمين مانيسالي
سمحوا لي بالبقاء إلى جانب ولدي لكوني طبيبة لا لكوني أمًّا. كان الأطفال وبينهم ولدي تحت العناية الخاصة في جناح مخصص لهم. كنت أسمع بكاءهم وأنينهم من المكان الذي أقف فيه. أذكر أن ولدي استغرق في النوم عندما كان الطبيب يفحصه بعد أن نظر إليّ نظرة المستغيث ناطقا عبارة “أماه” بصوت يشبه الأنين.
قال الطبيب متأسفا “إنه الشلل، لكنه لم ينتشر في كل الجسم بعد”. انعقد لساني وعجزت عن الكلام. لا أكاد أصدق، مصاب بالشلل… لا، هذا مستحيل. تجمدت جميع خلايا بدني وما عدت أستطيع التفكير. نسيت أني طبيبة، انقبض صدري وأظلمت الدنيا في عيني، قلت وقد ألـمّ بي الخوف والقلق “أنت متأكد؟ لم ينتشر بعد، أليس كذلك؟” “ليس بعد، وأرجو ألا ينتشر”.
نظر إليّ بإشفاق “أقترح عليك أن تذهبي إلى البيت لتأخذي قسطا من الراحة يا دكتورة”. كانت الساعة تشير إلى ما بعد منتصف الليل. قررت أن أسمع كلام الدكتور وأذهب إلى البيت لأستريح قليلا. كان الوقوف على رجليّ منذ الساعة الخامسة فجرا قد أرهقني كثيرا. كنت قد أمضيت طيلة يومي في المستشفى. أعرف أنه ليس بوسعي سوى الصبر والانتظار. نظرت بحنان إلى وجه ولدي. أردت أن أضمه إلى صدري وأقبّله، ولكن حالته ما سمحت لي بذلك. فخرجت من الغرفة مسرعة.
شعرت بوحدة قاسية عندما فتحت الباب ودلفت إلى البيت. كان الحزن والصمت يخيمان على كل أطراف الغرف. لم أشأ أن أخبر زوجي بمرض ولدنا لكي لا أقلقه فيضطر إلى ترك عمله والمكوث إلى جانبنا. وكيف أخبره ولم تتأكد النتيجة بعد. لم أفقد الأمل أبدا. أعرف أنه سيُشفى.. نعم، أرجو أن يُشفى. غدا يتضح كل شيء، وليس لدي سوى الاعتصام بالصبر.
تناولت دواء منوّمًا ونمت. وبعد أن أمضيت بضع ساعات أتقلب في الفراش مراوحة بين النوم واليقظة انتفضت على رنين الهاتف. “هل حدث شيء لولدي يا ترى!؟”. كانت الساعة تشير إلى الرابعة فجرا. رفعت السماعة بسرعة، وإذا بصوت امرأة مرتبكة وقد تعثرت الكلمات في فمها “دكتور! أريد الدكتور، أرجوكم ساعدوني!”
تنفست الصعداء.. ولدِي بخير إذن. عندما فهمت المرأةُ أني الطبيبة سكنت، وبدأت تشرح لي حالة طفلها، فأدركت للتو أنه شبح الشلل. سجلت عنوانها وطمأنتها بقدومي حالا. وقبل الخروج من البيت اتصلت بالمستشفى لأطمئن على ولدي. فقيل لي إنه لم يتغير فيه شيء.
كانت الأزقة خالية من البشر، والهدوء قد ضرب أطنابه في كل مكان. وصلت إلى ضواحي المدينة حيث المنازل البسيطة المتناثرة دون انتظام. وبعد قليل أوقفت سيارتي، فإذا بامرأة تحمل في يدها مصباحا تهرول نحو السيارة. استغاثت من أعماق قلبها بصوت ملؤه الحزن والأسى “أسرعي يا دكتورة، أرجوك أسرعي!”.
نظرت إلى وجهها المبلل بالدموع. فلم أستطع التمييز بين ما إذا كانت شابة أم مسنة. صُدمتُ عندما دخلت بيتها المؤلف من غرفة واحدة فقط. يا إلهي، ما رأيت بيتا بئيسا مثل هذا البيت. لا أكاد أصدق ما رأيته، ثلاثة أطفال يشبهون الهياكل العظمية من شدة الهزال وقد التفوا حول طاولة خالية. كانت الغرفة مظلمة عدا جزء يسير قرب المصباح. وبينما كنت أنظر إلى الأطفال بإشفاق، طرق سمعي أنين عميق من إحدى زوايا الغرفة المظلمة. وما أن أمعنت النظر في تلك الناحية حتى رأيت طفلا قد قارب الخامسة من العمر يتألم ويئن تحت لحاف رث قديم.
وعندما قمت بفحصه أدركت أنه واقع في شرك شلل الأطفال. طلبت من الأم أن تنتظرني لحظات، وخرجت من البيت مسرعة أبحث عن مكان أُجري منه اتصالا هاتفيا. اتصلت بالمستشفى وطلبت سيارة إسعاف على الفور.
بعد ربع ساعة عدت إلى الأطفال مرة أخرى وفحصتهم واحدا تلو الآخر. فانبسطت أساريري وكدت أطير من الفرح عندما وجدتهم غير مصابين بعد. وفجأة راح الطفل المريض يبكي وسط آلام وأنين يمزق القلب. أمسكت الأم بيدي متسائلة، فما استطعت إخفاء الحقيقة عنها، “طفلك مريض جدا، ولكن سنبذل كل ما في وسعنا حتى يشفى، لا تقلقي”.
اندهشتُ حينما رأيتها تبتسم بوقار وتلاطف شعر طفلها المسكين بحنان وتلتفت إليّ قائلة “فلنتضرع إلى الله إذن، هل تتضرعين معنا يا دكتورة”. لم يحدث أن طرح عليّ أحد من زبائني مثل هذا الاقتراح. شعرت أن هذه السيدة تعرف ما لا أعرفه. فاستجبت لطلبها فورا… الأطفال والأم وأنا… جثونا جميعا على الأرض وشرعنا نبتهل إلى الرحمة اللانهائية. كانت الأم تدعو بصوت ملؤه الاستسلام والعبودية الكاملة. أحسست بمشاعر سامية تملأ قلبي وتهز وجداني، شعرت بأن الكون كله يشاركنا في دعائنا.
لاحت في ذهني بغتة ممرات المستشفى الباردة وصورة ولدي الحبيب. أحسست كأنني تجاوزت الزمان والمسافات، وشعرت أني إلى جانب ولدي المسكين حقا. كان ولدي يبتسم إليّ في ذلك العالم العجيب الذي دخلت فيه.
صحوت من تأملاتي على صوت الأم المستسلمة للشافي المتعالي… يا إلهي، ما هذا الخشوع… ما هذا الطهر والنقاء… ما هذا السمو الأبدي… فقلت لحظتها من كل قلبي “استجب دعاءنا يا رب”.
عندما أنهت الأم دعاءها كان طفلها المريض قد استغرق في نوم عميق وغشيته سكينة عجيبة. قالت وقد تلألأت عيناها بالأمل والإيمان “أرأيت يا دكتورة، لقد استجاب الله دعاءنا”.
لم أجد كلمة أقولها. ظل الطفل نائما أثناء نقله إلى سيارة الإسعاف. ولما خرجتُ من ذلك المنـزل المتواضع تركتُ حقيبة نقودي كلها لتلك الأم العابدة التي منحتني ثروة لا تقدر بثمن، وقلت لها “سوف أعود ليلة الغد مرة ثانية”.
اتجهتُ نحو السيارة وقد لفّتني سكينة إلهية… رفعتُ بصري إلى السماء وقد فاض قلبي حمدا لله… وبعد قليل بدت في الأفق الشرقي طلائع اليوم الجديد، فاتجهت صوب المستشفى. فما عدت أشعر بأي قلق أو خوف تجاه ولدي، إذ كأن عبئا ثقيلا قد زال عن قلبي الليلة، وكأن صوتا لَدُنّـيّا يهمس في أذني بأن ولدي سيبتسم إليّ من جديد.
_____________________
(*) الترجمة عن التركية: نور الدين صواش.
من موقع مجلة حراء