بقلم: جمال أدهم
كثيراً ما يطرح علينا زملاؤنا من إخواننا العرب سؤالاً ملخصه: “لماذا تنتقدون الحكومة التركية والرئيس رجب طيب أردوغان دائماً؟”. ومن ثم يدعوننا إلى الإنصاف!
أما أنا فأجيب لهم بكلام مقتضب وأقول:
نحن نحاول التعبير عن الحقائق ونشرها، والتنويه بالأخطاء، انظلاقاً من وجهة نظرنا، عبر الوسائل القانونية والشرعية التي نملكها. ولا شكّ أن توجيه النقد البناء، وقبوله من الطرف الآخر برحابة صدر، ومن ثم العودة عن الخطأ إلى الصواب بعد ممارسة النقد الذاتي، من واجبات المسلمين قبل غيرهم.
فهل نحن ندعوه إلى الفسق والفجور والفساد أمْ ندعوه إلى العدول عن “التصرّفات الجائرة” إلى العدل والإصلاح والتعامل بضوابط الكتاب والسنة الشريفة أو المبادئِ الإنسانية العالمية المشتركة على الأقلّ مع كل المشاكل والقضايا التي يواجهها في أثناء إدارته للبلاد؟!
فلو تعرضتم لعمليات مطاردة الساحرات من نفيٍ وطردٍ وإقالةٍ طالت أكثر من 40 ألف شخص ما بين موظف حكومي وشرطي ومدع عام وقاضٍ، واعتقالٍ لمئات الناس بقرارات صادرة عن محاكم أسسها الرئيس أردوغان بالذات، بعد أن وُجّهت لكم أبشعُ الاتهامات من منظمة إرهابية وصهيونية وعمالة للدول الغربية، مع غياب أدنى دليل على ذلك.. حتى وصل الأمر لحد اقتحام رياض الأطفال والمدارس الابتدائية والثانوية بقوات مكافحة الإرهاب، ومعهم أسلحة رشاشة وسط الأطفال والطلاب فيها.. وبعد كل ذلك لو اغتصبتْ أموالُكم وصودرت مؤسساتكم، كما حدث لـ23 شركة من شركات مجموعة “كوزا- إيبك” القابضة مع مؤسساتها الإعلامية، وشركات مجموعة “كايناك” الرائدة في مجال الأدوات المكتبية والمدرسية والنشر الثقافي والتي تضم أكثر من 22 شركة، ويعمل لدى المجموعتين أكثر من 20 ألف شخص.. ولو حجبت قنواتكم من الأقمار الصناعية بدون أن يكون هناك قرار من المحكمة، كما حدث لأكبر مؤسسة إعلامية في تركيا قنوات “سامان يولو”، بما فيها القنوات الثقافية والدينية حتى قناة خاصة بالأطفال.. فهل كنتم تسكتون عليها أم كنتم تدافعون عن أنفسكم بالطرق الشرعية والقانونية..؟!
فهل اغتصاب أموال الناس عمل مشروع في الإسلام أم هو عادة جاهلية قضت عليها الشريعة الإسلامية؟ حتى ولو كان أصحابها مجرمين فهناك حقوق محفوظة لورثتهم! فبأي حق وبأي قانون إلهي أو بشري يصادر الرئيس أردوغان هذه الشركات؟ أليس ديننا هو الوحيد الذي سنّ قوانينَ ووضع قواعدَ حتى في حرب الكفار والأعداء! إذن على أساسِ أو بأيّ قانون يدير الرئيس أردوغان هذه الحملة الشعواء المسماة بـ”عملية مطاردة الساحرات” التي تستمر منذ أكثر من عامين والتي طالت حتى المستشفيات!
فضلاً عن أن الرئيس أردوغان استولى على عشرات الشركات ووهبها لأناس متهمين بالفساد.. ومتورطين بالتعاون مع “إيران” التي يصفها أردوغان بـ”بيتي الثاني”.. حيث كشفت الصحف عن صورةٍ يظهر فيها أحدُ الوصاة المعينين على مجموعة “كانياك” مع رجل الأعمال الإيراني “باباك زنجاني” الذي تطالب المحكمة في إيران بإعدامه لتورّطه في أعمال فساد كبيرة، والذي هو شريك رضا ضراب؛ رجل الأعمال التركي من أصل إيراني، المتهم الأول في تحقيقات الفساد والرشوة الكبرى في تركيا في 17-25 ديسمبر كانون الأول عام 2013.
إن الرئيس أردوغان أمسك بالسكين ووضعه على عنق حركة الخدمة وبدأ يذبحها وأنتم تقولون لماذا تصرخون؟! أتقولون: “اسكتوا واقبلوا الظلم الواقع عليكم..؟!” أهذا هو ما تطلبونه منا؟!”
إنهم يدعوننا إلى الإنصاف..! إن هذا لشيء عجاب!! أليس الرئيس أردوغان هو من صاحب السلطة ويستخدم كل إمكانياتها..؟! أليس هو صاحب القدرة الذي الذي يجول ويصول ويهاجم الخدمة ويهددها ويدمر مؤسساتها..؟! هل الخدمة تملك شيئاً سوى القلم والكلمة للدفاع عن نفسها ومبادئها التي تعيش من أجلها..؟! إنها لم تفكّر في استخدام العنف أبداً، رغم الاستفزازات الكبيرة المتواصلة، ورغم الظلم الكبير الذي تتعرض له على مدار أكثر من عامين.. بل لم يخطر ذلك على بالها بتاتاً.. وإذا كان المشهد كذلك، أفلا ينبغي دعوة صاحب السلطة والقدرة إلى الإنصاف بدلاً عن الضعفاء والمظلومين والمضطهدين؟!
حسناً، فما هي الحجة أو الذريعة التي يتمسّك بها أردوغان ويرتكب كل هذه الانتهاكات الشرعية والقانونية على حد سواء بحقّ أناس يزعم انتماؤهم إلى الكيان الموازي أو حركة الخدمة؟
أقول “يزعم انتماؤهم إلى الكيان الموازي”؛ لأن هذا المفهوم بات مطاطاً بحيث يجمع تحت سقفه جميع المتناقضات، فنرى أنه يتهم كاتباً صحفياً علمانياً بحتاً مثل جان دوندار المعتقل حالياً، رئيس تحرير جريدة “جمهوريت” العلمانية المتشددة، بالانتماء إلى هذا الكيان من جانب، ومن جانب آخر، يتهم بالجريمة ذاتها مفكراً إسلامياً تجاوز عمره سبعين عاماً صدر بحقه قرار اعتقال مثل الأستاذ سعاد يلدريم. وهو العالم الذي درّس في الجامعتين الإسلاميتين في كل من ماليزيا والمدينة المنورة – على ساكنها الصلاة والسلام – والذي قدّم عشرات المؤلفات القيمة للمكتبة الإسلامية التي أصبحت مصادر أساسية لا غنى عنها لطلبة الشريعة في تركيا منذ سنين.
إن حجة الرئيس أردوغان تتمثل في الآتي:
“حركة الخدمة دبّرت انقلاباً للإطاحة بحكومته عبر تحقيقات الفساد والرشوة المعروفة. أما النقود الهائلة التي عثر عليها خلال العمليات الأمنية التي نفّذت ضد مواقع ومنازل المتهمين، بمن فيهم أبناء الوزراء ورجل الأعمال الإيراني رضا ضراب، فكانت عبارة عن سيناريو، إذ أفراد الشرطة هم من وضعوها في هذه الأماكن ليتسنّى لهم اتهامهم، وبالتالي تشويه صورة الحكومة، وأخيراً الإطاحة بها!”
كل مزاعم أردوغان عبارة عن ذلك.. دون وجود أدنى دليل معتبر قانوناً وإسلاماً.. أما الاتهامات التي يوجهها لحركة الخدمة بشأن العمالة والموالاة لإسرائيل والغرب عموماً فسقط قناعها بعد أن لجأ هو إلى الحاضنة الغربية وأعلن التطبيع مع إسرائيل بعد إسقاط الطائرة الروسية، مع أنها لم تكن موضوعية ولم تكن متوافقة مع الواقع والأخلاق الإسلامية، ولم يكن أردوغان وجّهها إليها قبل تحقيقات الفساد.
في الحقيقة إن معادلة بسيطة تكشف عن حقيقة مزاعم أردوغان:
- إذا كان هناك انقلاب ضد حكومة أردوغان، يجب ألا يكون هناك فساد ووزراء متهمون به.
- إذا استقال الوزراء الأربعة بضغوط من أردوغان، ثبت أن هناك فساداً ووزراء متورطين فيه.
- إذا كانت العمليات المنفذة ضد الوزراء وأبنائهم تحقيقات فساد، فمعنى ذلك أن وصفها بالانقلاب محض كذب وافتراء.. فضلاً عن أنها ظلم في هذه الدنيا وظلمات يوم القيامة.
- إذا علمنا أن النيابة العامة قررت إعادة الأموال والذهب مع فوائدها عن الفترة التي احتجزت فيها إلى رضا ضراب إيراني الأصل بعد إغلاق ملفات الفساد، فإن المزاعم الواردة حول وضع تلك الأموال في أماكنها من قبل الشرطة ليتسنى لهم الانقلاب على حكومة أردوغان تنهار من أساسها.
مع ذلك، فإنه من الممكن أن يرِد إلى الأذهان سؤالٌ مفاده: طالما أن الحقيقة واضحة وضوح الشمس في كبد السماء كما وصفتَ، فلماذا يعتقد هذا الكمّ الهائل من الناس بصحة مزاعم الرئيس أردوغان؟
إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هناك آلةً إعلامية “عملاقة” (أكثر من 15 قناة تلفزيونية وصحيفة يومية) تخضع لإرادة أردوغان ولا تحترم أي مبدأ إسلامي أو إنساني في اختلاق أكاذيب وإسناد تهم إلى أناس أبرياء، بحيث تستطيع صحيفة “أكشام” – مثلاً – أن تزعم، في عنوانين مختلفين لها، امتلاك فتح الله كولن 50 مليار دولار وعملَه لصالح وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) من جانب، ووجودَ شراكة بين المخابرات الأمريكية والمخابرات التركية (MİT) للقضاء على حركة الخدمة من جانب آخر..! وكذلك إذا وضعنا نصب أعيننا أنه لم يبقَ هناك أية وسيلة إعلامية لم تركع أمام غنائم الحكومة أو غرائمها سوى واحدة أو اثنتين.. وإذا لاحظنا “سيكولوجيةَ الجماهير” التي يمكن أن نشبّهها بنفسية المشجعين الرياضيين الذين يستسلمون لعواطفهم ومشاعرهم بدلاً عن عقولهم وضمائرهم، فيجيزون لفريقهم كلّ أنواع التلاعب، بما فيها شراء الحكم، في سبيل الفوز وسحق الخصم.. أو بنفسيةِ مَن يشاهدون فيلماً من أفلام السرقة والذين يتقمّصون شخصية السارقين، فيدافعون عنهم وكأنهم يدافعون عن أنفسهم ويسوّغون كل أشكال الانتهاكات والعنف والظلم حتى نهاية الفيلم.. فإن موقف الشعب التركي من هذه المزاعم يتبلور بشكل واضح.
وهناك أبواق إعلامية ناطقة باللغة العربية تسعى لتسويق هذه الأكاذيب، لكن بأسلوب مختلف، في السوق العربي أيضاً، للحفاظ على السمعة التي كسبها زعيمهم من خلال الخطابات الرنانة والأقوال المزخرفة القائمة على “معارضة إسرائيل” في الشكل والظاهر. حيث تدعو هذه الأبواق العلماءَ والمثقفين العرب بعدما رفضوا تهمة “الإرهاب” المنسوبة للأستاذ فتح الله كولن إلى عدم التدخل في الشأن التركي (!) وترك المسألة إلى القضاء التركي “المستقلّ” ليحسم فيها (!).
أليس أردوغان هو من قلّب جهازي الأمن والقضاء رأساً على عقب، فألغى محاكم العقوبات العليا التي كانت تعمل في البلاد منذ عام 1973 ونفّذت حكومته إصلاحات عليها عام 2004، ليؤسّس بدلاً عنها محاكم الصلح والجزاء بعد بدء عمليات الفساد في نهاية عام 2013، باعتبارها “مشروعاً”، كما صرّح هو بذلك علناً. أليست هذه المحاكم هي التي تدير عمليات الكراهية التي توجه منذ عامين ضد حركة الخدمة؟ فعن أي قضاء مستقلّ يتحدث هؤلاء الصحفيون الموالون الذين يخاطبون العالم العربي؟! أليست هذه المحاكم الأردوغانية هي التي أغلقت ملفات الفساد واتهمت الشرطة بالسعي للانقلاب على الحكومة؟! فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ !! إنه أصدق قول ينطبق على أردوغان وهذه المحاكم بلا شكّ..
والواقع أن أردوغان كان بإمكانه أن يقيل وزراء الفساد الأربعة منذ البداية في إطار مكافحة الفساد دون أن يدعي بمحاولة انقلاب فيصبح بطلاً شعبياً “نزيها” مكافحاً للفساد. بل المنطق السليم يرى ذلك واجباً.. لكنه لم يفعل..لماذا؟ هل كان مضطراً لترك الطريق الأسهل وسلوك الطريق الأصعب..
يبدو هكذا..
ولعل ما قاله أحد أفراد الشرطة المعتقلين لأنهم شاركوا في تحقيقات الفساد يلخّص القصة على نحوٍ لا يدَعُ مجالاً للشكّ والريبة:
حكومة أردوغان أعطتني راتباً لكي ألاحق وأطارد كل المفسدين، بغضّ النظر عن قربهم أو بعدهم عنها، لكنها اعتبرت تحقيقات الفساد الأخيرة “انقلاباً” ضدها. لو غضضْتُ الطرف عن المفسدين لكنتُ خُنتُ الدستورَ والحكومة والشعب جميعاً!