إسطنبول (زمان عربي) – نشر موقع “herkul.org” الإلكتروني درس ألقاه الأستاذ محمد فتح الله كولن والذي لفت فيه إلى المخاطر المحدقة بإنسان هذا العصر والعوائق التي تقف أمامه وتمنعه من التجرّد من أثقال هذه الدنيا الفانية وحطامها وتوجيه نظره إلى الألطاف والنعم الإلهية الباقية وعلى رأسها حبّ الدنيا وما فيها من الفانيات والزائلات. وشبّه كولن شتى أنواع الظلم التي يتعرّض لها محبّو حركة الخدمة في تركيا بـ”الرياح اللواقح”، مبشّراً بأن البذور التي نثروها في كل أصقاع العالم ستصبح حَبّاً في سنابل المستقبل في أراض عالية الخصوبة وستستفيد منها الإنسانية جمعاء.
وفيما يلي قبسات من هذا الدرس:
إن عصرنا هو عصرُ الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة. إنها (الدنيا) الشغل الشاغل حتى لمن كان في الجامع. فهي الهمّ الوحيد حتى للذين يؤمّون الجوامع ويقصدون الكعبة المشرفة، ويرفعون الأيدي شطر السماء مناجين رب العالمين في عرفات. إن أرهفْنا السمع إلى الأصوات الداعية نسمعْ أصداء “اللهمّ هب لي في الدنيا هذا أوذاك أو ذلك”.. فهل هناك مَنْ يتقرّب إلى ربه ويتبتّل إليه بفؤاد محترق؟
إن المطلوب أصلاً هو أن تَبلغ مشاعرُ العشق والحماس والمعرفة أعماقَ القلب مثل ريشة العازف التي تصدر الأصوات، فتنطلقَ الألسنة والشفاه لتعبّر عن أنات وتأوّهات القلب، وأن تندفع الدموع– التي هي الإكسير الوحيد القدير على إطفاء نار جهنّم- اندفاعاً في أجواء تفطّر القلوب، وأن يقال “اللهم أنت.. وأنت.. وأنت.. ولا سِواك”.
“أولادي.. وابنائي.. وأحفادي.. وغدي.. ومستقبلي.. وقصوري.. ويخوتي.. ومنصبي.. وجاهي.. ورتبتي.. ويا ليت يصفَّق لي وأحظى بالقبول والاستحسان عند الناس.. وأن يُشار إليّ بالبنان”… فإذا ما شابت إسلامَنا وعباداتِنا أيةُ شائبة من الملاحظات المذكورة فعندها ينقلب الماءُ العذب الزلال الهائل بحجم الحياة الدنيا سموماً ويتلطّخ ويزول تأثيره.
ومما يؤلم له حقًّا أن هذا العصر هو عصر عبدة الحياة الدنيا.. عصرُ الذين يستحبون الحياة الدنيا عمداً على الحياة الآخرة.. من الجامع إلى الكعبة، ومن هناك إلى منى، ثم إلى المدينة المنورة، والمزدلفة وعرفات.
وضْعُ الحياة الدنيا في المقام الأول على نحو من شأنه أن يلطّخ كلّ العبودية، وجعلها الخيار الأول –حفظنا الله- هي آفات هذا العصر وأشد خطرًا من الوباء والطاعون والجذام والإيدز. فإذا ما استقرّ ذلك الفيروس في روح أي إنسان فإنه يطرحه أرضًا ويقتله.
يقول الرسول الأكرم –صلى الله عليه وسلم-: “ليبلغن هذا الأمر مابلغ الليل والنهار”. والحديث الشريف يشير إلى أن اسمه المبارك سيصل ذات يوم إلى كل مكان تشرق الشمس عليه وتغرب بفضل أناس فضلاء يستحقرون الحياة برمتها وكلَّ ما يمتّ إلى الحياة بصلة والدنيا وما فيها، بل ويقدم معلومات استناداً إلى عينه النبوية النافذة للغيب تؤكد أن هذا الأمر سيتحقّق مطلقاً.وفي الوقت ذاته يرسم هدفاً وغايةً للمؤمنين به: “أنا أقول وأخبركم بذلك. وما يقع عليكم هو أن تعتبروا تحقيق هذا الأمر هدفاً مرسوماً لكم من قِبَلي، وأن تنطلقوا للاضطلاع بهذه المهمة”.
إذا عقد الإنسان عزمه وانطلق في سبيل الدعوة وفي قلبه هذه النيّة فلاشك فييي أن المولى عزّ وجلّ سيكافئه في الحياة الآخرة وكأنه حقّق هدفه وبلغ مرامه حتّى وإن لم يصله. ذلك لأن الألطاف والنعم التي يهبها الله للنوايا الخالصة تملأ الثغرات الموجودة في الأعمال.
لا توجد وظيفة أسمى من التعبير عن الحقّ والحقيقة والإعلان عنهما.. إن هذه الرسالة أهمّ من تأسيس مائة إمبراطورية في الدنيا.
إن الذين كرّسوا حياتهم ليحظوْا برؤية الله عزّ وجلّ ورضاءه ورضوانه الذي لا تُعادل آلافُ السنين من حياة سعيدة في الجنة رؤية جماله ولو دقيقة واحدة، يتجنّبون السعي وراء أهداف أخرى، ويجب عليهم أن يتجنّبوا ذلك. أمثال هؤلاء لايرون الدنيا، بل يرونها ضبابية. حتى ولو ظهرت الدنيا أمامهم بكل صورتها الساطعة الفاتنة المبهرة فإنها تصبح ضبابية وتتساقط ألوانها، بل لا يرونها أصلاً.
يجب مواصلة الطريق دون التزلزل والانحناء والتساقط أمام الرياح المعارضة. إنكم – بمشيئة الله وإذنه – لم تتزلزلوا ولم تنحنوا ولم تتساقطوا في الطريق. إن الذين حاولوا إحناءكم وإخضاعكم والإطاحة بكم والقضاء عليكم عدّوكم مثل أنفسهم، فظنّوا أنكم ستفشلون وتفرّون إذا ما أخافوكم. والواقع أن بعضاً منكم توجّهوا يمنة أو يسرة، لكنهم كانوا ضعفاء مهزوزين يقفون إلى جانبكم على حرفٍ. ومع أنهم قد ضيّقوا الخناق عليكم في مكان واحد، إلا أنكم قد انتشرتم في أصقاع مختلفة من العالم مثل البذور المنثورة، فأصبحتم، بفضل الله، حَبّاً في سنابل المستقبل في مناطق عالية الخصوبة. فهذه البذور ستتحوّل في مستقبل قريب جداً إلى سنابل، وتلك الشتلات ستنقلب أشجار الدلب وأشجار السر وأصلها ثابت وفرعها في السماء وستكون لها أغصان وفروع وثمرات مختلفة.. بحيث سيحظى العالم أجمع بوجه بشوش بعد ما كان عبوساً قمطريراً، بفضل الله، وستجد الإنسانية ما تبحث عنه في الأفكار الطوباوية (اليوتوبيا) في ثمرات خدماتكم التي تقدّمونها لها في هذه الأيام، حتى ولو عجز هؤلاء الدنيويون، العابدون للدنيا، الساعون إلى تشويهكم بأسماء وأوصاف عن إدراك وفهم هذا الأمر… وأنى لهم أن يفهموا ذلك؟! وإن لم يدرك هؤلاء الذين غرقوا في الظلمات واداروا ظهرهم للشمس وقطعوا صلتهم بالله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم فهناك من يدرك ويعلم كل شيء، وهو بلا ريب سيكافؤكم بنعم وألطاف وإحسان فوق ما تتوقّعون.