بقلم: علي يورتاجول
شهدت تركيا في النصف الثاني من العام 2015 فترة فيها تجاهل الديمقراطية والضرب بها عرض الحائط.
وعلى الرغم من أن كلمة رئيس الوزراء أحمد داوداوغلو رئيس حزب العدالة والتنمية، التي أدلى بها من شرفة المقر العام للحزب في العاصمة أنقرة، عقب الفوز بانتخابات الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، كانت تبعث على الأمل، عبر خطابه الحميمي الذي كان يتحدث فيه عن السلام والمحبة واحتضان تركيا قاطبة، بعد خطابات الإستقطاب والكراهية التي تلقي بثقلها على تركيا في السنوات الأخيرة، والتي تنحدر في أعماق الأزمة السياسية والاقتصادية ،كانت مثل الماء في الصحراء.
صحيح أن تأكيد داود أوغلو بضرورة الالتزام بدولة القانون وسيادة القانون والديمقراطية والحقوق الأساسية كان موقفًا جيدًا تجاه الاستقطاب.لكن مما يؤسف له حقًّا أن هذه الكلمات ظلت حبيسة الشفاه ولم تتخط شرفة مقر الحزب ولم تتحول إلى برنامج سياسي.
وعلى سبيل المثال حرية الصحافة في تركيا أصبحت تدهسها الأقدام. وأبرز الكتّاب في البلاد إما مسجونين أو يُحاكمون في المحاكم مثل رئيس تحرير صحيفة “جمهوريت” جان دوندار، ورئيس التحرير السابق لصحيفة “زمان” أكرم دومانلي، ورئيس مجموعة “سامان يولو” الإعلامية هدايت كاراجا، والكاتب الأكاديمي المخضرم جنكيز تشاندار ورئيس التحرير السابق لصحيفة “توديز زمان” بولنت كينيش.
ولا غرو إن قلنا إن دولة القانون تُذكّرنا بالأنقاض التي أوشكت سقالاتها على الانهيار. واليوم لا توجد أية شركة أو مؤسسة إعلامية أو صحفي يشعر بالأمن والثقة تجاه أي مدع عام لديه مهام سياسية ومحاكم الصلح والجزاء التي وصفها أردوغان بالمشروع.
اليوم تتم مصادرة الشركات وإغلاق الصحف والقنوات التليفزيونية دون إصدار قرار من المحكمة. بل والأنكى أنه في الوقت الذي تموج فيه الدولة بالإرهاب تعرّض آلاف الأبرياء المعارضين للعنف واتهامهم ب”الإرهابيين” إلى عملية مطاردة الساحرات بسبب عدم مبايعتهم للحكومة والرئيس أردوغان.
اليوم يتم اعتقال الناس وطردهم من أعمالهم. لقد أصبحت لدينا دولة خرجت فيها أعمال الفساد من كونها جريمة يُحاسب عليها القانون. إن مسؤولي الحكومة يقولون “ليست هناك أعمال فساد”؛ وهذا بمثابة استهزاء بعقولنا.
نعرف جيدًا أن السيد داود أوغلو وعددا كبيرا من حزب العدالة والتنمية لا يدعمون هذه السياسة، وأنه لا صلة لهم بالفساد من قريب أو بعيد. لكننا نعرف في الوقت ذاته أنه لم يستطع أن يقدم مشروع قانون “الشفافية” للبرلمان.
أرى أن نظرة عابرة على مجلس الوزراء كافية لرؤية الجهات التي تصدر عنها القرارات. كما أن تعيين رجل سياسي مثل أفكان آلا – الذي قال بنفسه إنه لا يعترف بالدستور كما لا يحترم الديمقراطية البرلمانية ودولة القانون ولو مثقال ذرة – في منصب وزير الداخلية هي رسالة أخرى في هذا الشأن.
هل ترون أن قرار مكافأة سياسي (عبد الرحيم بوينو كالين) هاجم مقر صحيفة “حريت” بحشد من الجماهير وبيدهم العصي وكسروا نوافذها بمنصب “مساعد وزير” (وزير الشباب والرياضة) صادر عن السيد داود أوغلو؟ لا أعتقد ذلك. وهنا تكمن أبرز المعضلات التي يجد داود أوغلو نفسه فيها.
على الرغم من أن داود أوغلو هو رئيس حزب العدالة والتنمية ورئيس الوزراء إلا أنه ليس صانع القرار النهائي في كثير من الأمور. إن أزمة ومعضلة السيد داود أوغلو تكمن في وقوفه مكتوف الأيدي تجاه سياسة المبايعة المشكّلة والمعمول بها داخل قصر رئاسة الجمهورية. وشاهدنا عن كثب في الأشهر الماضية بلورة هذه السياسة بخط يد السيد أردوغان.
السيد أردوغان أرسى جميع سياساته عقب أحداث متنزه جيزي بإسطنبول على الاستقطاب العلماني الإسلامي الذي يعد خط الصدع الأقدم والأعمق في تركيا.
وتمت معاقبة صحيفة “زمان” وبالأخص حركة الخدمة بسبب وقوفها على مسافة من المواجهة المشكلة على خط الصدع هذا وعدم انخراطها وراء السيد أردوغان، وليس لأنها مارست أعمالا إرهابية كما يُزعم. وهل من الممكن أن يكون هناك شيئ مضحك مثل اتهام شركات مثل “كوزا-إيبك” القابضة أو بنك آسيا بالانتماء لتنظيم إرهابي؟
إذا فعلتم ذلك، فهذا يعني أن كل شخص في تركيا معرض للاتهام بالاشتباه فيه كإرهابي. لا داعي لذهاب السيد داود أوغلو إلى مكان بعيد، إذ يكفي أن يلقي نظرة عندما يستيقظ في الصباح على صحف وقنوات الإعلام الموالي للحكومة واللغة المسيطرة على هذه الوسائل الإعلامية؛ وعندها لن يطالع في تلك الصحف خطابات الكراهية فحسب، بل سيرى أيضًا استهدافا وتهديدا مباشرا لكل من صحف “جمهوريت” و”زمان” و”حرييت”.
إذا كان السيد داود أوغلو يرغب حقًّا في احتضان تركيا وإرساء مبدأ دولة القانون وإحلال السلام الداخلي بكل الثروات السياسية والعرقية والاجتماعية الموجودة في البلاد، فينبغي عليه أن ينهي سياسة الفساد والاستقطاب. هل في استطاعته أن يفعل ذلك؟ ربما. لكن تطورات الأحداث لا يبعث على الأمل.