أعطاب الفكر الديني: تسليم دون نقد وخضوع للإسلام الحركي
بقلم: إدريس الكنبوري
- العنف والإرهاب المتداول في السنوات الأخيرة والصادران عن جماعات الإسلام الحركي بشتى أنواعها وطوائفها لا يُرَدّان فقط إلى الرؤوس التنظيمية القادرة على غسل الأدمغة وتوسيع خلايا والقيام بعمليات، بل إلى منظومة إنتاج معرفية تقف وراء تغذية الإرهاب كسلوك، وهذه المنظومة المعرفية الخفية تكمن في التراث الإسلامي الذي لم يتعرض لمحاولات جريئة لنقده، بعد أن استحوذت عليه الجماعات الإسلامية، وهو ما يدعو إلى إعادة النظر جذريا في الثقافة والموروث الإسلاميين.
مما لا شك فيه أن ما يحصل في الواقع العربي الإسلامي اليوم من انزلاقات كبرى على صعيد الممارسة الدينية، والتي تتمثل في الوقت الراهن في انفجار حالة من القلق في الوجدان الإسلامي ينعكس سلبا على مستوى التوظيف العنيف للإسلام، يطرح علينا العديد من التساؤلات بخصوص المنظومة الفكرية التي تستند عليها تلك الممارسة الدينية الفجة، والتي تقوم مقام التسويغ لها.
إذ لا يمكن لأي عاقل أن يغفل ذلك الارتباط السببي بين المنظومة والممارسة، ولن تكون ممكنة مغالبة تلك الممارسة من دون مغالبة المنظومة التي أنجبتها، وإعادة النظر بشكل جذري في الثقافة الدينية الموروثة، بوضعها فوق مشرحة التحليل العلمي الذي لا يولي أي اعتبار للانحيازات السياسية وغير السياسية، بقدر ما يهتم بتشخيص المشكلات والعلل، كطريق نحو الحسم معها، آخذا بعين الاعتبار أن الثقافة الدينية شيء، والدين شيء ثان، وأن من يزعم الخلط بينهما يريد للتطرف أن يستمر بدعوى أن لا مساس بالثقافة الدينية.
لقد وردت على ذهني هذه الأفكار وأنا أقرأ مقال المفكر الإسلامي التركي فتح الله كولن، زعيم حركة “الخدمة” المعروفة والذي يعيش في الولايات المتحدة الأميركية منذ منتصف التسعينات. نشر المقال في يومية “لوموند” الفرنسية، وتضمن جملة أفكار تستدعي الوقوف عندها، خصوصا وأن صاحب المقال مفكر له تأثير كبير على الملايين من أتباعه سواء داخل تركيا أو خارجها، ولديه العشرات من الكتب والمئات من المقالات التي تدور كلها حول محور واحد مركزي لم يتغير، وهو تحويل الإسلام إلى خدمة للإنسانية جمعاء، بعيدا عن الانقسامات التي يسعى المتطرفون من كل دين أو جنس إلى ترويجها من أجل وضع الماء في طاحونة الصراع الحضاري.
ولعل كولن وهو يختار تلك التسمية، أو يختارها أتباعه، كان يستحضر المقولة العربية الشهيرة “خادم القوم سيدهم”، والمعنى أن المسلمين اليوم لا يمكن أن يصبحوا “أسياد” العالم، كما يتغنون عن أجدادهم في الماضي، من دون أن يكونوا قادرين على تقديم شيء محترم للإنسانية، بدل صور الدماء والأشلاء والخطابة العنترية التي تملأ الفضائيات والكتب والمنابر.
ربما أرادت الجريدة الفرنسية بنشر مقال كولن أن توجه رسالة إلى المسلمين في أرجاء العالم، مع الإعلان عن إنشاء التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب، وإلى مسلمي فرنسا بشكل خاص، الذين يعيشون مرحلة حرجة بعد التفجيرات الإرهابية التي ضربت العاصمة باريس، مفادها أن العالم الإسلامي اليوم لا ينتج فقط الإرهابيين والمتطرفين، الذين لا يمثلون إلا أنفسهم ويعيشون تحت الظلام لأنهم غير قادرين على مخاطبة الناس وجها لوجه، وإنما ينتج بالأساس مفكرين متنورين يمكنهم أن يلعبوا دور الوسطاء بين الحضارات اليوم، وأن ينزعوا فتيل المواجهة التي ترتسم في الأفق بين حضارتين كان بينهما وصال كما كان بينهما صراع مرير، لكن أزمنة الوصال كانت أكثر من أزمنة التوتر.
أكثر ما يسترعي الانتباه في مقال كولن تأكيده على ضرورة ممارسة النقد الذاتي بالنسبة إلى المسلمين، في اتجاهين: اتجاه الفكر الديني، واتجاه الممارسة الدينية. وهذا كلام جديد وغير مسبوق في أوساط زعماء الجماعات أو الحركات أو الزوايا، لأن الغالب على هؤلاء ميلهم إلى الجمود والمحافظة على الموجود حتى لا يشيعوا أجواء الرفض داخل صفوف أتباعهم، وهو ما أدى إلى إعادة إنتاج مستمرة للأعطاب والاختلالات في الفكر والممارسة الدينيين، بحيث أن اللاحق يبني على السابق من دون مراجعة مخلفاته، ومن دون التحلي بالجرأة في ممارسة النقد الواعي، الأمر الذي يحول التراث إلى مقدسات يتم قياس الزمن الحاضر عليها، بدل قياسها هي على الحاضر.
ودعا كولن في مقاله إلى إنشاء تحالف واسع يجمع الحكومات والنخبة الدينية والفكرية والمجتمع المدني، فالواضح أن التصدي لجماعات العنف والتكفير لم يعد يكفي فيه اللجوء إلى استخدام القوة بمفردها، لأن القوة مهما كانت صولتها لا تقضي سوى على الرؤوس المنتجة للفكر المتطرف والسواعد المنفذة له، لكنها لا تقضي على آليات الإنتاج ذاتها. ويترتب على هذا إدخال تعديلات على مناهج تدريس الفكر الديني والفقه الإسلامي وتاريخ الإسلام في المقررات التعليمية، ونشر قيم الحرية والجدل والمناقشة العلمية للمفاهيم، بدل قيم التسليم والولاء والطاعة، هذا الثلاثي الذي بث في تاريخ المسلمين الحديث أنماط السلطة الرمزية التي دمرت الحق في الاختلاف والرأي، الذي كان شائعا في تاريخ الإسلام الطويل، ابتداء من نمط الزاوية الصوفية التي يقف على رأسها شيخ يأمر فيطاع، إلى الجماعات الإسلامية التي أسست مشروعيتها السياسية على الطاعة والولاء “في المنشط والمكره”، حتى تحول الإسلام إلى هياكل مؤسسية يختنق بداخلها المسلم المعاصر، بدل أن يبقى كما كان دينا للجماعة وفضاء مفتوحا يلتقي فيه الجميع بنوع من الاتفاق على الاختلاف والتعايش.
هناك فكرة وردت في مقال كولن، وهي أننا نحن المسلمين من واجبنا أن نساهم في محاربة التطرف اليوم، جنبا إلى جنب مع المجتمع الدولي “رغم أن الظروف العالمية ليست في صالحنا”.
ولعل هذه الفكرة لن تكون ملموسة أكثر وبشكل واقعي إلا في أوساط المسلمين الموجودين في الغرب، الذين يقدرون حجم التأثير السلبي الذي طالهم كأتباع للديانة الإسلامية في أعين الغربيين. فهم بالنسبة إلى التيارات المتطرفة والتكفيرية مرتدون لأنهم ارتضوا العيش في مجتمعات “كافرة”، وبالنسبة إلى الأوروبيين والغربيين مسلمون مشكوك في نواياهم وفي ولائهم للمجتمعات التي يعيشون فيها.
من موقع صحيفة العرب