كريم بالجي
ثمة ارتباط (correlation) واضح بين عودة العلاقات التركية الإسرائيلية وبين تحولات الإدراك الذاتي.
والارتباط يختلف عن السببية (causality). فهو ليست علاقة بين الأسباب والنتائج، بل إنه علاقة تحول متزامنة. وقد يكون هذا الارتباط بسبب كون العلاقات التركية الإسرائيلية سهل التراجع، وصعب التصحيح. وقد تكون التحولات في كليهما مرتبطة بسبب ثالث. لا أعرف ذلك، ولكنني أرى أنه: عندما تتراجع أو تتحسن علاقات تركيا مع إسرائيل فإن الدور الذي تفرضه أنقرة على تركيا يتغير أيضا. وقد يتغير الإدراك الذاتي أولا، ومن ثم تتشكل العلاقات مع إسرائيل بناء عليها. وكانت الإدراك الذاتي للسياسة الخارجية التركية التي كان يقود دفتها آنذاك الأستاذ أحمد داوداوغلو فيما بين 2002-2009 (كان أستاذا في ذلك الوقت) مبنيا على لعب دور الوسيط الرئيسي في الصلح بين الخصوم. فكل الحركات المتوازنة في السياسية الخارجية، ومبدأ “صفر المشاكل مع دول الجوار”، وعقلية السياسة الخارجية المتكاملة والراقية كانت مبنية على ما تقتضيه هذه الاستراتيجية العامة. إذ كانت تركيا قد قدمت نفسها في بداية الأمر للعالم كله ولا سيما للشرق الأوسط، على أنها تلعب دورا رياديا في حل النزاعات، حيث كانت تقف بطبيعة الحال على مسافة واحدة من جميع أطراف النزاعات. ففي ظل هذه الاستراتيجية الناجحة عملت تركيا على المصالحة بين إسرائيل وسوريا، وبين فتح وحماس، وبين أفغانستان وباكستان، وبين مسلمي الفلبين وحكومتهم، وبين البوشناق والصرب، وحتى بين دول أفريقية لا نعرف أسماءها جنوب الصحراء الكبرى.
ولكن هذا الإدراك الذاتي القائم على الوساطة الرئيسية في الصلح قد انهار بعد الغارات الإسرائيلية على غزة، والتي أدت إلى انهيار المفاوضات السورية الإسرائيلية، وانهيار أحلام رئيس الوزراء آنذاك (أردوغان) بالحصول على جائزة نوبل للسلام.
كما أن الإدراك الذاتي لتركيا تغير ليجعل منها حكَما إقليميا بعد عمليات الفساد في 17 ديسمبر/كانون الأول 2013. وبعد ذلك لم تعد تركيا تقف على مسافة واحدة بين الأطراف المتنازعة، أو تدعو للمصالحة، بل أخذت تقرر من هو المحق ومن هو الباغي بين الأطراف المتناحرة، لا بل نصبت من نفسها حكَما يأخذ حق المظلوم من الظالم حسب قرارها.
وفي ظل هذه الأجواء برزت مقولة “One minute” التي قالها رئيس الوزراء حينها رجب طيب أردوغان لرئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز، وكذلك حادثة السفينة التركية مافي مرمرة التي أُطلقت عليها نيران إسرائيلية. وفوق ذلك وبناء على دور الحكم الذي كانت تلعبه تركيا فقد قامت بدعم الحركات الإسلامية في ليبيا ومصر، وحولت سياستها الفلسطينية من فتح في القدس إلى حماس في غزة، وضغطت على بشار الأسد في سوريا لإجراء أعمال إصلاحية، ودعمت الحركة السنية التي أسسها طارق الهاشمي في العراق.
تطور الإدراك الذاتي لأنقرة مرة أخرى وحل محل دور الحكم دور السلطان المنسق للتغيرات التي تحدث في المنطقة بل في العالم. وهذا بطبيعة الحال جاء معه بمشكلة المعارضة العالمية. كما تحول في هذه المرحلة حلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلى نفور منه.
ويمكننا أن نلاحظ دون أن نعقد ارتباطا بين الأسباب والنتائج أن تركيا تدخل مرة أخرى مرحلة جديدة إذ بدأت تتعاون مع حلف الناتو، وألغت صفقة نظام الصواريخ مع الصين، وأسقطت طائرة حربية لروسيا التي كانت تتناغم معها حتى الأمس القريب، وفتحت فجأة فصلا جديدا من فصول المباحثات من أجل عضوية الاتحاد الأوروبي وفي الوقت نفسه تقرر تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
إن الدور الذي تفرضه أنقرة على بلدنا في هذه المرحلة الجديدة، هو دور الجناح الجنوبي المخلص لحلف الناتو. وفي هذا الإطار يمكن لنا أن نتوقع زيادة تدخل الجيش في السياسة التركية خلال المرحلة المقبلة، وتعقُّد المشكلة الكردية أكثر فأكثر حتى يكون حلها مستحيلا، وإعادة تحريك قضية جمهورية شمال قبرص. وهل لنا أن نتوقع عودة تركيا إلى دور الوساطة بين الخصوم في المنطقة وإن لم يكن على المستوى العالمي، وعودتها إلى سياسة “صفر المشاكل مع دول الجوار و… فهل يمكن ذلك؟!