أديب إبراهيم الدباغ
من خلال التأمل الاستقرائي العميق لتاريخ النبوات على سطح هذه الأرض، يمكن أن نخلص إلى نتيجة في تعريف “النبوة” مفادها أنّ “النبوة” بمعناها الشامل المحيط، إنما هي عملية استنهاض إلهي للقوى الإدراكية والروحية الكامنة في “الجوهر الإنساني” لدى “النبي”، ومن ثم فهي عملية توسيع زاوية النظر عند “النبي” في اعتماد الشمولية الجامعة بين الإنسان من جهة، والعالمين المرئي وغير المرئي من جهة أخرى. و”النبي” وإن كان مبعوثًا لزمان ومكان معيّنين، غير أنه ينظر إلى “الزمان” من فوق الزمان ومن خارجه، وينظر إلى “المكان” من فوق المكان ومن خارجه كذلك، فيأتي نظره أنفذ وأصدق وأبعد وأشمل. وعندما يبلغ “النبي” هذه الرؤية الشمولية، فإن الزمن سيتوقف عنده، وينشأ زمن جديد يشرع بالتشكل من تعاليمه ومسيرته ومن التوجهات الإلهية الموحَى بها إليه.
النبي
و”النبي” لا يتوقف عند درجة واحدة من سلّم المعرفة، بل هو في ترقٍّ دائم مع كل نفَس من أنفاسه، حتى يرى العالم في أوج توهجه الجمالي، وإعجازية انتظامه ودقة صنعه، كما أنه يرى الإنسان هو المكان الأرفع الذي يحرص على جعله مرآةً عاكسة تعكس عالمه الداخلي والخارجي على حدٍّ سواء.
إن “النبي” يثير في قومه من الانفعالات ما يحفز الجموع لتخطي الركود العقلي والروحي اللذين اعتاد الإنسان العادي أن يعيش في دائرتهما، فتجعله أكثر جرأةً على كسر قيود نفسه والتخلّص من أغلال عقله وروحه. فهو بمثابة الحجر الكبير -ولا مناقشة في المثال- الذي يحرك أمواج المياه الراكدة في بحيرة الزمن الساكن… فالانفعال القوي، والتوتر الشديد، والقلق العميق الذي يحدثه “النبي” في الإنسان، كل هذه تعمل مجتمعة على إزاحة الأستار عن الجانب الروحي العميق في الكيان البشري لم يكن معروفًا لديه من قبل. وهو في كل الأحوال، سيلمس في داخله قوة عاملة تدفع به نحو هدفية، إنْ كانت مجهولة اليوم لديه، إلا أن “النبي” سيعينه على فهمها وإدراكها، ويرسم له طريق الوصول إليها. لذلك صار من أعظم مهام “النبي”، هو تدارك أولئك اليائسين الذين قد بلغ بهم اليأس إلى حدّ اعتقادهم أن وجودهم نفسه على سطح هذه الأرض، إنما هو خطأ كوني ما كان للكون أن يخطئ فيهم هذا الخطأ الشنيع؛ حيث ألقى بهم بدون مبالاة على قارعة هذه الأرض، ليعانوا فيها الغربة والحرمان ومختلف صنوف العذاب والإحباط. وذلك لكونهم يتعاملون مع حقائق الوجود كمجرد ظواهر أو أرقام أو حسابات، بينما هذه الحقائق لها ارتباط وثيق بالأنفس والأرواح وحتى السلوكيات.
محك الإيمان
وإن مُوصِل الإنسان إلى فهم الوجود ضمن هذه المعطيات النفسية والروحية، هو محك الإيمان الذي يسعى “النبي” إلى إرساء قواعده في النفوس البشرية التي يتعامل معها. إنه -أي النبي- يحمل على كاهله من الأعباء والإشكالات التي تنتظر الحلول، ما لم تستطع قوة أجيال كاملة أن تحملها وتجد الحلول اللازمة لها. فلا عجب إذن -والأمر كذلك- إذا رأينا “النبي” وهو يغير مجرى الزمن ويفتح تاريخًا جديدًا لأعماله المجيدة في الأقوام والشعوب والأمم.
نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
فتتابُع “النبوات” عبر الأزمنة، قد توقَّفَ -وإلى الأبد- عند “نبوة” محمد الكبرى، جامعةِ النبوات، والمحتوية على خلاصاتها. فليس من نبوة ولا نبي بعده، فهو عليه الصلاة والسلام اللبنة القمّة التي تُرِك محلّها فارغًا في صرح “النبوات”، ليكون هو تلك اللبنة التمام كما أخبر عليه الصلاة والسلام.
ولكونه الجامع الأعظم والمحتوى الأوسع لكل تجارب الأنبياء السابقين، فإن نبوته اكتسبت بهذه الجامعية صفة الخلود والسرمدية والامتداد عبرَ الزمن حتى نهاياته. فهو عليه الصلاة والسلام نبي هذا العصر ونبي كل عصر آتٍ إلى قيام الساعة. فلا جرم أن نرى تعاليمه والقرآن الموحى به إليه، قادرَين على إنشاء رجال أنبياء ولكن من غير وحي، ورسل ولكن من غير رسالات منزلات عليهم، وهذه إحدى خواص هذه الأمة التي تميزت بها عن غيرها من الأمم؛ فكان بعض رجالاتها من العلماء كأنبياء بني إسرائيل كما قال عليه الصلاة والسلام في الإشارة إلى ذلك: “علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل”. فمحمد -صلى الله عليه وسلم- ظاهر واضح الظهور، يتراءى للناس من خلال هؤلاء العلماء المتتلمذين على كتابه وعلى سُنّته. فهو يعيش ويحيا في أفكارهم وفي أعمالهم، يدور مع الزمن حيث دار، ويتخلل في علماء أمته جيلاً بعد جيل إلى نهاية العالم.
“النورسي”
و”النورسي” رحمه الله، من علماء هذه الأمة الأفذاذ، فقد خالط الوحيان -القرآن والسنة- سمعَه وبصره ومخّه وعظمه وعصبه ولحمه ودمه، فتنفس أنفاسهما، وتشرب رحيقهما، بهما عاش، ولهما كرَّس وجوده وحياته وقلمه ورسائله “رسائل النور”. إنه يرتقي قمة هذا العصر حاملاً بيديه الوحيين العظيمين، ويقف على هذه القمة مناديًا إنسان اليوم، ليعود إلى كنف النبوات من جديد بعد ما عاناه من جفافات روحية وتصحرات وجدانية كادت تأتي على البقية الباقية من خضرة الإيمان في قلبه.
فـ”النورسي” بشهادة الذين قرأوا له -وهم كثيرون- من أعمق وأوسع الذهنيات الإيمانية في هذا العصر، وكثيرًا ما يَستعصي على الفهم إلا إذا فُهِم على أنه مرآة عظيمة وصقيلة مهمّتها الأساس أنْ تعكس روح النبي الخاتم وروح قرآنه الموحى به إليه، فمسألة العودة إلى الدين وإنْ كانت مسألة مرتبطة بضمير الفرد، غير أنها -إلى جانب ذلك- قضية في غاية الأهمّية للحضارة القائمة. فما لم تعد هذه الحضارة إلى الدين وتجعله واحدًا من أعمدة ركائزها، فإنها مهددة بالانهيار والسقوط كما يتنبّأ بذلك جَمٌّ غفير من أساطين هذه الحضارة ومفكّريها. فالمسألة برمّتها تكمن في ابتكار مفاهيم جديدة غير تلقيدية ولا نمطية حول علاقة الإنسان بالحياة وبالموت، وعلاقة الحضارة كذلك بالحياة وبالموت.
الحياة والموت
وقد اكتشف “النورسي” هذا المفهوم من خلال تأمله الطويل والعميق في الحياة والموت. فالحياة عنده هي عملية انطلاق من قيود العدميات والنسبيات التي هي أساس كل الشرور التي يطفح بها العالم، وهي -أي الحياة- بعد ذلك وقبل ذلك، قدحة من قدحات المطلق الإلهي وتجلٍّ من تجليات اسمه تعالى “الحي” في الإنسان والكون والكائنات. هكذا يفهم “النورسي” المعنى العميق للحياة والمعنى العميق للموت، حيث يرى فيه وجهًا آخر من وجهي الحياة، لأن “الموت” مخلوق؛ (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ).. أجل، مخلوق كالحياة. فالموت إذن ليس عدمًا، وحتى العدم نفسه فهو بَيْدرُ الموجودات؛ لأن الموجودات يتوالى مجيؤها منه بعد عملية الخلق والإيجاد كما يقول مولانا جلال الدين الرومي.
عالم الحداثة وما بعد الحداثة
والسؤال المتربّص بنا في هذا المقام وينتظر الإجابة عليه هو: هل العالم اليوم؛ عالم الحداثة -كما يسمّونه- وعالم ما بعد الحداثة -كما يقولون- الغائص في هذه المادية الغليظة والمرعبة، قادر على فهم “النبوات”، وقادر على استيعاب غيبياتها والإيمان بما ورائياتها؟ فعقل العالم اليوم مصاب بكلال ذهني وقصور إدراكي، وفقدان لذكائه الفطري المطمور تحت ركام من مغالطات المنطق، وسفسطات الفلسفة، وتنوع الثقافات، وفوضى الأفكار والأيدلوجيات، وغياب الهدفية والمآل والمصير عن اهتمامات الإنسان… كل هذا صحيح. وهذا الصحيح المظلم القاتم الظلام، في أشد حاجاته اليوم إلى “النبي” و”النبوات”؛ لأنه لا شيء يمكّنه أن يمنح الإنسان المعنى والمغزى لحياته، ويعرّفه بهدفية الحياة التي يحياها، ويفتح منافذ روحه وعقله على المآل والمصير وعلى الموت وما بعد الموت، غير “النبي” وغير “النبوات”. فالموت والحياة يبقيان لغْزين من ألغاز هذا الوجود اللذين يتحدّيان عقل الإنسان، وهما الحقيقتان الوجوديتان اللتان نشهد تكرارهما أمام أعيننا كل يوم، الأمر الذي جعل “النورسي” يقول: “إذا لم نكن قادرين على إيقاف قوافل الموتى التي تزور المقابر وتدخل القبور كل يوم، وإذا لم يستطع أحد إلغاء الموت من فوق هذه الأرض، فإن ذلك يستدعي التفكير الجدّي في معنى “الموت والحياة”، والتفكير الجدّي كذلك في مآل الإنسان ومصيره”.
المآل والمصير
والتفكير في “المآل والمصير” هو ما أكّدت عليه “النبوات” جميعًا، وحثَّتْ عليه الإنسانَ وطلبت منه أن يكون من أعظم اهتماماته وأكبرها… ولكن غالبية البشر -لقصر نظرهم- يقعون في مشاغل الحياة الدنيوية وتفاهاتها وحماقاتها، ولا يرغبون في تحمل مسؤولية هذا التفكير وما يترتّب عليه من التزامات، ولا يريدون أن يدفعوا ثمن ما يتطلبه سُموُّ هذا التفكير من جهد ذهني وجسدي وسلوكي، واستنهاض للقوى الروحية النائمة في أعماقهم وما يستدعيه ذلك من قوة إرادة وقوة عزيمة، وإصرار على المضي في هذه الطريق إلى نهاية الشوط.
الإيمان بالنبوة
فالمؤمن بالنبوة يشق طريقه وسط عصر الشك هذا، ووسط شك كل العصور، دون أن يتزعزع إيمانه للحظة واحدة مهما يُثارُ من حوله من شكوكيّات يُراد له أن ينزلق نحوها.
والمؤمن بـ”النبي” و”النبوة” يصبح من القوة والاقتدار بحيث يستطيع أن يشكل منعطفًا جديدًا في أساليب التفكير السائدة في عصره، وقد يستطيع أن يلفت انتباه حضارة بأسرها ويثير اهتمامها لتتبنّى أسلوب تفكيره الإيماني. فالنبويُّ التفكيرِ، يمثل بحد ذاته استدراكًا وتصحيحًا للمعطيات الفكرية للحضارة القائمة أو الحضارات اللاحقة.
وهذه الانعطافات في مسيرة الزمن ومسيرة الحضارات، هي ما حققه الأنبياء العظام من أصحاب الرسالات الكبرى، وحققه خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، فإن أربعة عشر قرنًا عاشت في ظلّ نبوته الخاتمة، وإنْ كان هذا الظل قد ينحسر بعضَ الشيء عن بعض القرون وقد يمتد ويكثف على بعض القرون الأخرى، إلا أنه يبقى موجودًا ومعروفًا ومُسْعى إليه في حالي انحساره ومَدّه.
والأستاذ “النورسي” يدرك أن العصر الذي كُتب له أن يعيش فيه، هو عصر الانحسارات الروحية في العالم كله، ولا سيما انحسار الظل المحمّدي عن الأمة المحمدية. لذلك فقد رأى أن واجبه الديني والأخلاقي والإنساني، يحتم عليه أن يسعى بكل ما يمتلك من قوى روحية وعقلية إلى أنْ يعيد لهذا الروح المحمدي هيمنته على هذه الأمة وتألّقه في سماء حياتها. ففي صوت “النورسي” وفي قلمه، شيء من الربانية وشيء أقرب إلى النفحات العلوية، لذا فهو مدفوع بكل خصبه الذهني والروحي إلى تكريس وجوده الأفضل لهذه المهمة المقدّسة، فيقول وهو في غمار هذا العمل المجيد: “لقد ضحّيتُ حتى بآخرتي في سبيل تحقيق سلامة إيمان المجتمع… فليس في قلبي رَغَبٌ في الجنّة، ولا رهَبٌ من جهنّم، فليكن سعيد (يعني نفسه) بل ألف سعيد قربانًا في سبيل إيمان المجتمع التركي البالغ مئات الملايين… ولئن ظلَّ قرآننا دون جماعة تحمل رايته على سطح الأرض فلا أرغب حتّى في الجنة، إذْ ستكون هي أيضًا سجنًا لي… وإنْ رأيتُ إيمان أمّتنا في خير وسلام فإنّني أرضى أنْ أُحرَق في لهيب جهنّم، إذْ بينما يُحرَقُ جسدي يرفل قلبي في سعادة وسرور”(1).
ولكي نكون أكثر قربًا وفهمًا لهذه الشخصية العظيمة الممتلئة بالشجاعة والصلابة وقوة الشكيمة، لنقرأ معًا ما يقوله عن نفسه التي قاربت أن تكون خارقة من خوارق العادات، فيقول: “لم أذُقْ طوال عمري البالغ نيفًا وثمانين سنة شيئًا من لذائذ الحياة… لقد قضيتُ حياتي في ميادين الحرب، وزنزانات الأسر، أو سجون الوطن، ومحاكم البلاد؛ لم يبق صنف من الآلام والمصاعب لم أتجرَّعه… عوملتُ معاملة المجرمين في المحاكم العسكرية العرفية، وغُرِّبْتُ في أرجاء البلاد كالمشرَّدين، وحُرِمْتُ من مخالطة الناس شهورًا في زنزانات البلاد، ودُسَّ لي السُّمُّ مرارًا، وتعرضتُ لإهانات متنوّعة، ومَرَّت عليّ أوقات رجَّحتُ فيها الموتَ على الحياة ألف ضعف، ولولا أن ديني يمنعني من قتل نفسي فربّما كان سعيد اليوم ترابًا تحت التراب”(2).
ثورة عقلية وروحية
لا يشك أحد في أن البشرية اليوم، أعلى إدراكًا وأعظم علمًا وأقوى تفهمًا مما كانت عليه فيما مضى من القرون، ولكن قوة الفهم عندها، في أمسّ الحاجة إلى نوع من التطهير والتعديل والتقويم -ولا سيما تلك المنطقة المعتمة من عقلها فيما يخص حقائق النبوات والدين- ولكي تحمل نفسها على فهم هذا الجانب المعتم من عقلها، في حاجة إلى شجاعة نفسية وعقلية تبلغ حَدَّ البطولة، لتأخذ بيدها وتجعلها تجتاز التخلف عن قِمَمِ الفهم والعلم الحقيقين اللذين لا زالت تقصر عن فهمها بالشكل المطلوب، وهذا هو ما يمكن أن تقوم به للبشرية النبواتُ العظيمةُ وبالأخص الخاتمة منها. فنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- جاوزت النبوات السابقة بكفاحها البطولي المستمر، وبقدرتها الفائقة على استيعاب المدركات المتجددة للعقل الإنساني مع الزمن. فنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- والقرآن الموحى به إليه، إنما هو ثورة عقلية وروحية تستوعب كُلَّ نتاجات العقل الإنساني، وقد تسبقها أحيانًا وتمهد لها أحيانًا أخرى كما يشير إلى ذلك “النورسي” في مبحثه الإبداعي عن معجزات الأنبياء . وهذا هو سِرُّ خلودها وسرمديتها، لأن الوحي نفسه يخاطب رسوله -صلى الله عليه وسلم-: )وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)(طه:114).
فلم يسجل تاريخ العلم خلال أربعة عشر قرنًا أيّ تعارض بين حقيقة علمية ثابتة مع أي حقيقة دينية ثابتة في الكتاب والسنة، وأكثر من ذلك يقول “النورسي”: “إذا تعارض العقل مع النقل، يُؤوّل النقل ليوافق العقل”، وهذه قاعدة أصولية معتمدة من رجال العلم والفقه في كل زمان ومكان. وتوكيدًا لرأيه السابق، نورد هنا نصًّا ورد في المقدمة الأولى من كتابه “صيقل الإسلام” حيث يقول: “من الأصول المقرّرة أنه إذا تعارض العقل والنقل، يُعَدُّ العقل أصلاً ويؤوّل النقل، ولكن ينبغي لذلك العقل أن يكون عقلاً حقًّا”(3).
السعة والعمق لدى “النورسي”
إننا قد نركض وراء “النورسي” لنلحق به، ونتعب من هذا الركض إلى حد اللهاث، ثم نرى في آخر الشوط أن أفكاره أعمق من أن نطالها أو ندركها. وهذا الأمر هو الذي يدفعني إلى القول بأن الأعمال الفكرية الفخمة والعظيمة من مثل “رسائل النور”، نادرًا ما تُسلِس قيادَها لمن يريد قياسها بالشبر والمسطر كما اعتاد الأكادميون أنْ يفعلوا، فمثل هذه الأعمال لا يُستطاع ضبطها ولا حصرها، لأنها تتفلَّتْ من كل ضبط أو حصر، ولكنها تبقى مع ذلك المُلهِمَ الأعظم لجيَشان أفكارنا وتغذية وجداننا. فأفكار الرجل -أعني النورسي- كشعاعات الطاقة الضوئية المتجددة تشع في الأذهان والقلوب والأرواح، ثم تثوي هناك وتغيب فيها فلا يُستطاع الإمساك بها كما لا يستطاع الإمساك بشعاع الضوء أو النور. ولكنها تُحدث في دواخلنا شيئًا لا ندري ما هو، ينقلنا من الحالة الذهنية العادية إلى حالة ذهنية غير قابلة للتفسير، لأنه أكثر رجال الإيمان درايةً بخصائص الروح وسرائر الضمير.
العقل الكبير والنبوة
فموضوع “النبي” و”النبوة”، موضوع كبير يحتاج لمعالجته إلى عقل كبير، وأن يكون هذا العقل محتفظًا على مَرِّ السنين بجدّته وحرارته. والنورسي ما كتب ما كتب بأقلام القصب، بل بأقلام مدادها نزيف الروح ودماء القلب، وأحسب أنه حين كان يكتب -ولا أزكّيه على الله بل تعالى هو المزكي- يغيب كل شيء من أمام بصره وبصيرته إلا الجلال الإلهي والجمال الأبدي. إنه من الله تعالى ومن قرآنه يأخذ ليكتب للهِ ولخلق الله… فالشوق إلى الحقيقة -عندما يكتب- هو الباعث الأعظم لحرارة الحياة في كتاباته… فهو لا يبحث “في الحياة” أو “عن الحياة”، بل يبحث عن لُبِّ الحياة، وعن سِرِّها، وعن قوامها، وعن محركاتها، وعن إدراك مراميها، وعن التعرُّف على توجهاتها، ونتائجها، وخلاصاتها، وبداياتها ونهاياتها… وعن حقيقة الإنسان، وعن قدراته وطاقاته، ولانهاياته، وتشبثه بالخلود، وعشقه للأبد، والنبوة وضرورتها لبني الإنسان، ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وعظمة هذه النبوة، وكونها الخاتمة، ودواعي خلودها وبقائها، وحاجة البشرية إليها، وصلاحها لمعالجة أخطاء كل الأزمنة والأمكنة.
الحقيقة الدينية
فالحقيقة الدينية، هي ما ينشده هذا المفكر العظيم من خلال بحوثه في النبوات عمومًا وفي نبوة محمد عليه الصلاة والسلام بالأخص. وهذه الحقيقة عادت على لسانه أنشودة جمالية وجلالية، ظلّ ينشدها لنفسه وينشدها للآخرين من خلق الله بشفافية عجيبة وبصوت حزين، كي لا تثقل على الأذهان أو تؤود الوجدان، فبقدر ما كان مهيبًا كان حزينًا، وبقدر ذلك كان مقبولاً من لدن طلابه ولدن كل مَنْ حظي برؤيته أو مجالسته. فقلبه الواسع الكبير، ظلَّ في حياته كلها معدن إشفاق وينبوع رحمة حتى لأعدائه الذين جرّعوه شتّى صنوف العذاب… فالبساطة مع التناسق، والتماثل مع التناسب والتألق مع الوضوح من مقومات فكره، ومن ميزات كتاباته… وللتدليل على ذلك، نورد بعض أفكاره في النبوة حيث يقول: “إن القدرة الإلهية التي لا تترك النمل من دون أمير والنحل من دون يعسوب، لا تترك حتمًا البشر من دون نبي ومن دون شريعة… نعم هكذا يقتضي سرُّ نظام العالم”(4).
أما كلامه في “المعراج”، فإنه ينمُّ عن عبقرية ذهنية استشرافية غير مسبوقة، وفهمٍ جديد إبداعي النظر حيث يقول: “كل سماءٍ مدارٌ عظيم لعرش الربوبية، ومركز جليل لتصرف الألوهية”، ثم يمضي فيقول: “حتى عرج به إلى مقام “قاب قوسين”، فشرّف بالأحدية بكلامه وبرؤيته، ليجعل ذلك العبد جامعًا لجميع الكمالات الإنسانية، نائلاً جميع التجليات الإلهية، شاهدًا على جميع طبقات الكائنات، داعيًا إلى سلطان الربوبية، مبلغًا للمرضيات الإلهية، كشَّافًا لطلسم الكائنات”(5). ويقول: “فمثلاً في أيّ سماء قابلَ سيدنا عيسى -عليه السلام- المتشرّف باسم “القدير”، سيدنا الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ فالله سبحانه وتعالى متجل في دائرة تلك السماء بالذات بعنوان “القدير، ومثلاً إن عنوان “المتكلم” الذي تشرّف به سيدنا موسى -عليه السلام-، هو المهيمن على دائرة السماء التي هي مقام سيدنا موسى -عليه السلام-.
وهكذا فالرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم-، لأنه قد حظي بالاسم الأعظم ولأنّ نبوته عامةٌ وشاملة وقد نال جميعَ تجليات الأسماء الحسنى، فإن له علاقة إذنْ مع جميع دوائر الربوبية… فلابد أنّ حقيقة معراجه تقتضي مقابلته الأنبياءَ وهم ذوو مقام في تلك الدوائر، ومرورَه من جميع الطبقات”(6).
المعرفية الإيمانية
فكم سيكون الأمر عظيمًا إذا استطاع عالمنا الإسلامي أن يُنجب اليوم رجالاً ذوي ذهنيات عظيمة وخصبة كما عند “النورسي”. فإني أحسب أن “المعرفة الإيمانية” لهذه الأمة، ستزداد وتتسع وتمتد حتى يصبح بمقدورها أن تستوعب معارف العصر من دون شعور بالقصور أو الدونية. فإننا نحن البشر، لا يبهرنا شيء كما يبهرنا ما تعانيه العقول الكبيرة من حنين إلى المعرفة، ومن رغبة في أنْ نرى الإرادات الجبَّارة لعظام المفكرين وهي تناضل من أجل إدراكات أكثر عمقًا، وأعظم اتّساعًا، وأقدر على التغيير والتجديد، وهذا هو ما تحتاجه الأمة في الوقت الحاضر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتب وأديب عراقي.
الهوامش
(1) سيرة ذاتية، سعيد النورسي، ص:457.
(2) سيرة ذاتية، سعيد النورسي، ص:457.
(3) صيقل الإسلام، سعيد النورسي، ص:29.
(4) اللوامع، سعيد النورسي، ص:843.
(5) اللوامع، سعيد النورسي، ص:852.
(6) اللوامع، سعيد النورسي، ص:674.
من موقع مجلة حراء