أورخان محمد علي
ألقى رئيس المحكمة الإيطالي كارو تورللي نظرة ثاقبة على المتهمين الثلاثة الماثلين أمامه، شيخ وكهل وشاب في مقتبل العمر، كانوا يمثلون أجيالا ثلاثة متعاقبة. والغريب أنهم كانوا من عائلة عثمانية واحدة… كان الشيخ هو الجد والكهل ابنه والشاب حفيده.
كانوا آتين من مكان بعيد بعيد… من وراء آلاف الكيلومترات… من الأناضول إلى بنغازي في ليبيا. ما الذي دفعهم ليقطعوا كل هذه المسافة ليصلوا خفية إلى ليبيا؟! لم يكن رئيس المحكمة يجهل سبب مجيئهم… إنه داعي الجهاد الذي لا يزال المسلمون متمسكين به… داعي الجهاد هذا هو الذي دفع هذا الشيخ وابنه وحفيده وهو في ميعة الصبا إلى ترك مدينتهم وبيتهم ويقطعوا كل هذه المسافة ليصلوا إلى ليبيا من أجل معاونة إخواهم الليبيين والجهاد معهم ضد إيطاليا التي احتلت ليبيا.
كان الشيخ هو الميرلواء (الجنرال) المتقاعد محمد باشا… وابنه الميرالاي أحمد علاء الدين محمد… والحفيد هو الشاب محمد… فما قصة هؤلاء المجاهدين من الجد والأب والحفيد؟
كانت طرابلس الغرب وبنغازي قد احتلتا من قبل إيطاليا، وكانت الدولة العثمانية في ضائقة مالية وعسكرية كبيرة، وهي تعاني من سيطرة حزب الاتحاد والترقي عليها بعد عزل السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1909. لم تكن الدولة العثمانية قادرة على مواجهة إيطاليا عندما قامت في 1911م بغزو ليبيا فجأة ودون سابق إنذار. كل ما كانت تستطيعه هو إرسال بعض المجاهدين لمساعدة إخوانهم الليبيين. لم يتردد هؤلاء المجاهدون الثلاثة… الجد والابن والحفيد… تقدموا وسجلوا أنفسهم في المجموعة الفدائية التي أطلق عليها اسم »الضباط الفدائيون«. وعلى الرغم من جميع الشروط والظروف القاسية، ومن قلة العدد، وقلة الأسلحة والمعدات، وقلة التمويل، وطول الطريق، فقد وصلوا سرا إلى ليبيا حيث التقوا رؤساء العشائر وأشراف البلد وبدأوا بتدريب البدو وأبناء العشائر على فن القتال. لم يكونوا يملكون أسلحة ثقيلة، لا مدافع ولا دبابات ولا رشاشات، بل مجرد بضع مئات من البنادق القديمة. كان عدد الضباط العثمانيين وكذلك المتطوعين من أفراد العشائر الليبية قليلين، وكان مطلوبا منهم القتال ضد جيش إيطالي مجهز بالأسلحة الثقيلة وبالطائرات، ويفوقهم بعشرات بل بمئات المرات في العدد والعدة. كانوا يعتمدون في الحصول على الأسلحة على الهجوم المباغت الذي يشنونه على العدو ويحصلون على أسلحة الفارين والمقتولين منهم.
في إحدى الهجمات التي كبدوا فيها العدو خسائر كثيرة طُوقوا وحوصروا من قبل مدد جديد للجيش الإيطالي وأسروا. وها هم اليوم يمثلون أمام محكمة عسكرية إيطالية.
كانت أيديهم موثقة بالحبال بقوة بحيث أدمتها، كانوا يلبسون اللباس الليبي المحلي، وعلى رأس كل منهم طربوش عثماني.كانت التهمة ثابتة عليهم في نظر المحكمة، فقد أسروا وهم يقتلون ورائحة وأثر البارود لا يزال على أيديهم.
ولكن الشيء الوحيد الذي كان يزعج رئيس المحكمة هو وجود صحفيين أحدهما بريطاني والآخر فرنسي حضرا لمتابعة المحكمة. سألهم رئيس المحكمة:
– من أنتم؟
وقبل أن يقوم مترجم المحكمة بترجمة إلى المتهمين تقدم الكهل خطوة إلى الأمام وقال بلغة إيطالية سليمة:
– اسمي الميرالاي (العقيد) أحمد علاء الدين الضابط العثماني في خدمة مولاي السلطان… وهذا (مشيرا إلى والده) والدي الميرلواء (جنرال برتبة لواء) المتقاعد محمد باشا… وهذا (مشيرا إلى ابنه) ابني محمد الجندي المتطوع في الجيش العثماني.
استولى الذهول على أعضاء المحكمة وعلى الحاضرين في المحكمة وتبادل الصحفيان نظرة حائرة. جنرال متقاعد يتطوع في الجيش وتحت إمرة ابنه ويقاتل العدو كأي جندي آخر!! ثم أيّ عائلة هذه التي يجتمع فيها الجد مع الابن مع الحفيد في معركة يائسة بعيدة عن وطنهم؟!
أحس رئيس المحكمة أن الوضع أصبح أكثر حساسية فقد ظهر أن الماثلين أمامه عسكريون… ضابطان وجندي عثماني.
قرر رئيس المحكمة إلقاء الشبهة على هذا الأمر فقال مستجوبا العقيد:
– هل لديك أوراق رسمية تثبت ما تقول؟
بعد معاناة وألم شديد استطاع العقيد أحمد إخراج ورقة من طيات ثوبه بيديه الموثقتين:
– هذا هو الأمر الرسمي لتعييني.
أخذ الحاجب الورقة الرسمية من يد العقيد وسلمها إلى رئيس المحكمة الذي بدأ يفحصها بدقة بينما تابع العقيد كلامه:
– إن قام مترجمكم بترجمة هذه الورقة الرسمية لكم فسترون أنها أمر رسمي بتعييني قائدا للواء الثاني من الفدائيين العرب في ولاية طرابلس وهو صادر من السَّرْعَسْكَر العثماني (وزير الحربية العثماني).
كان من المفروض أن يؤدي هذا التطور الجديد في سير المحكمة إلى تغيير مجراها من محكمة تحاكم لصوصا هاجموا الجيش الإيطالي إلى محكمة عسكرية تتقيد بالقوانين الدولية حول محاكمة الأسرى العسكريين. ولكن مثل التقيد بالقوانين الدولية لمحاكمات العسكريين ومراعاتها كان أمرا بعيدا عن هذه المحكمة التي كانت قد أصدرت قرارها مسبقا وقبل بدء المحاكمة. وتظاهر رئيس المحكمة بأنه لا يصدق ادعاءات المتهمين، لذا فلم يكن يعدهم أسرى حرب، وكان دليله أنهم لم يكونوا يلبسون البزة العسكرية عند إلقاء القبض عليهم، بل كانوا بزيّ محلي.
ذكر رئيس المحكمة هذا الأمر للمتهمين نافيا كونهم عسكريين عثمانيين. أجاب العقيد العثماني:
– نظرا لكوني قائدا لمقاتلين لا يلبسون البزة العسكرية فإنني فضلت أن ألبس مثلهم ولا ألبس البزة العسكرية لعقيد عثماني.
قرأ المدعي العسكري التهمة الموجهة إليهم وهي قيامهم في 26 من شهر تشرين الأول من تلك السنة بمهاجمة الجيش الإيطالي وضربه من الخلف ضربة خائنة.
أنكر العقيد أحمد علاء الدين هذه التهمة:
– لم أضربكم من الخلف، بل هجمنا عليكم، هذا كل ما في الأمر، علماً بأننا كنا قلة قليلة.
– لم تكونوا قلة، بل هجمتم بأعداد كبيرة.
– بل كنا قلة،كل ما كنا نملكه كان عبارة عن 400 بندقية.
– أين هذه البنادق الآن؟
– لا تزعجوا أنفسكم من هذه الناحية… ستجدون أن 350 بندقية ستصوب إليكم في القريب. أما البنادق الباقية وهي 50 بندقية فقد استشهد 15 مجاهدا من حامليها، وتم القبض على 35 مجاهدا مع بندقيته وأعدموا من قبل محكمتكم هذه.
كان رئيس المحكمة يصر على أن هؤلاء المتهمين تابعون للحكومة الإيطالية ولكنهم أعلنوا العصيان عليها، لذا فهم مجرد شقاة عصوا دولتهم. وما دام الأمر هكذا فالحكم واضح. أما العقيد العثماني فقد أصر على موقفه قائلا:
– لم نكن نحن تابعين لكم في يوم من الأيام… ولم يكن المجاهدون العرب تحت قيادتي تابعين لكم… نحن جميعا مواطنون عثمانيون، لذا لا نعترف بكم.
ظهر الانزعاج واضحا في وجه رئيس المحكمة العسكرية، لذا حول مجرى الأسئلة إلى أسئلة قصيرة تتطلب أجوبة سريعة وقصيرة:
– هل شاركتم في الهجوم يوم 26 من شهر تشرين الأول لهذه السنة (1911م)؟
– لقد قدت أنا ذلك الهجوم.
– وهل اشترك هذان (مشيرا إلى والده وابنه) أيضا في ذلك الهجوم؟
– أجل! إن ابني جندي، ووالدي جنرال عثماني متقاعد تطوع في وحدتي جنديا!!
أطرق رئيس المحكمة بنظره وتظاهر بأنه يدقق بعض الأوراق. ثم استأنف أسئلته:
– وهل قاتلتم جميعا دون بزة عسكرية؟
– أجل! وقد شرحت السبب.
– هل اشركت تحت قيادتك أي أفراد من سكان طرابلس المحليين؟ وهل دربتهم؟
– إن ولاية طرابلس ولاية عثمانية، وسكانها مواطنون عثمانيون، وقد ألحقتهم بوحدتي ودربتهم وقدتهم.
– يكفي هذا.
انتهت المحكمة وصدر القرار فورا… الإعدام رميا بالرصاص.
قام رئيس الكتاب في المحكمة وهو من مدينة نابولي الإيطالية واسمه أنطونيو أوانكلي بقراءة قرار المحكمة الذي كان قد كتب قبل انعقاد المحكمة قائلا في
الختام: “وصدر القرار الآنف وسجل في السجل ولا يوجد حق تمييز للمتهمين”.
يقول أحد الصحفيين اللذين كانا في المحكمة: لم تبهت الابتسامة التي كانت مرسومة على شفاه المتهمين لدى سماع القرار بل هتف العقيد العثماني بصوت واثق:
– يحيا السلطان!
أما والده الجنرال العثماني المتقاعد فقد هتف: الله أكبر!
أما الحفيد الشاب فقد بقي صامتا احتراما لوالده ولجده.
قاد الجنود المتهمين من قاعة المحكمة… وبعد فترة قصيرة سُمع أصوات طلقات أطلقها ثلة من الجنود، فقد نفذ الحكم فيهم بسرعة وبعد خروجهم من المحكمة مباشرة.
أما رئيس المحكمة فقد دمدم قائلا:
– أحضروا المتهمين الآخرين!
قال هذا وقد حول وجهه المحمر جانبا لكي لا يلتقي نظرات الصحفيين اللذين قاما تحية للمتهمين عندما مروا أمامهما إلى ساحة الإعدام وهما يحملان قبعتيهما في يديهما.
من موقع مجلة حراء