كامل عون
الشاحنات تخترق أمواج الرمال في الصحراء المحرقة مخلّفة وراءها غيوما غبارية صفراء… أرض المخيم في وسط هذه الصحراء ممتلئة بأجساد أناس كالأشباح حاصرهم الفقر والجوع والمرض من كل جانب، وقذفت بهم رياح اليأس إلى دهاليز مجهولة المستقبل… وإذا بشاحنة تقف بفرملة مزعجة على أرض المخيم، وتندفع منها امرأة شابة بيضاء البشرة وبين يديها طفل أسمر مغشي عليه، تلتفت يمنة ويسرة بذعر، وتطلق صيحات وتوسلات تتعالى وتطغى على أي صوت آخر: “النجدة!.. ساعدونا أرجوكم ساعدونا!..”
فلا أحد يبالي بها ولا أحد يبادر لمساعدتها، كأن الناس هنا اعتادوا على مثل هذه الحالات وعلى مثل هذه الصيحات… وعلى الأثر أُخرجت من الشاحنة أم الطفل في حالة أسوأ من ابنها بكثير يحملها رجلان إلى مستشفى الصحراء… مشهد مرعب.. المستشفى تعج بالمرضى وليس هناك سرير شاغر للمرأة وابنها، فألقيا على الأرض في إحدى الزوايا تحت حر الشمس الحارق لفترة من الزمن.. وبعد وقت قصير حضر الطبيب الوحيد في هذه الصحراء وراح يفحص الأم وابنها الممدودَين على الرمال اللاهبة… هز رأسه وقال دون اكتراث: “لا فائدة.. إنهما يموتان..” ثم همّ بالعودة إلى حيث أتى.. كان لهذه الكلمات القليلة وقع الصاعقة على المرأة البيضاء.. فجمدت في مكانها وشحب وجهها وارتعشت أناملها وقالت بصوت واهن مرتجف: “أتوسل إليك ساعدهما..” فردّ دون أن يلتفت إليها: “إنهما يموتان.. ليس بوسعنا أن نفعل شيئا، إنها مضيعة للوقت”… ساد السكون لحاظات.. ثم انفجرت بصرخة غاضبة في وجه الطبيب الذي راح يبتعد عنها شيئا فشيئا: “لستَ أنت الذي تقرر موتهم!..” وأجهشت بالبكاء… كلمات سمّرت قدميه في الأرض فتوقف برهة ثم أشار بيده إلى مساعده بأن ينقل المرأة وابنها إلى الخيمة. وبعد بضع ساعات أُخذت الأم إلى خيمة العمليات الجراحية…
صرخات استرحام تصمّ الآذان.. ما كادت تطمئن المرأة البيضاء في مكانها حتى دخلت إلى الخيمة في لهفة وقلق… يا لهول المشهد… المرأة الأم ممددة على طاولة من خشب والذباب ملتفّ عليها.. بطنها مشقوق، وقد تدلت حبال أمعائها يمينا وشمالا، وجسدها كله يهتز ورجلان يمسكانها بكل ما لديهم من قوة حتى لا تتحرك من شدة الألم… لم تعد المرأة البيضاء تسمع إلا أنفاسها اللاهثة، ولم تشعر إلا بصدرها الذي يعلو ويهبط رعبا.. قالت وعيناها تدوران في قلق ودهشة: “يا إلهي! ماذا فعلتم بالمرأة؟! إنكم تقتلونها؟!”
انتفض الطبيب حدّة واحتقن وجهه بالغضب.. ألقى نظرة إلى المرأة التي شُقّ بطنها دون مخدّر ثم ركز نظراته في وجه المرأة البيضاء وهتف: “أين ظننت نفسك يا امرأة! في مستشفى خمس نجوم!؟ نفد كل شيء، لا أدوية ولا مخدر.. الناس يموتون هنا من الجوع!”.
….
مشاهد مثيرة على شاشة التلفاز. أجل، كان إبراهيم يشاهد هذه اللقطات المثيرة من فيلم يعرض على التلفاز… إنه سمع عن إفريقيا الشيء الكثير ورأى عنها شتى الصور من الكتب والمجلات والجرائد.. غير أن هذه المشاهد التي رآها قبل قليل حزّت في نفسه ورسمت على جبهته سطور ألم ناطق… نكس رأسه وغاب في تفكير عميق.. وإذا بصوت زوجته: “هيا، الطعام جاهز”.. ظل إبراهيم واجما في مكانه مكروبا مهموما شاعرا بالذنب.. كيف يحلو له طعام أو يستسيغ له شراب بعد أن رأى ما رأى؟! أراد أن يروّح عن نفسه فتوجه مستأذنا زوجته إلى الشرفة.. جلس على كرسيه الهزاز.. تنهدات أخرجها من الأعماق ثم قال في نفسه؛ “يا إلهي ما هذا الذي يجري في هذه الدنيا!.. أيعقل أن يعيش الناس هنا حياة رخاء ونعمة، ويعيش أولئك المساكين هناك تحت قيود الفقر والجهل والمرض والجوع.. لا.. سأذهب إلى تلك البلاد..”. لحظات كأنها تحدد مصير حياته.. كان يحب مساعدة الفقراء أينما كانوا، ويمد يد العون إلى كل محتاج بلا تردد، حتى إنه كان يرسل كل عيد أضحى عشرات الأضاحي إلى مختلف أرجاء العالم، ويساهم بجمع الأخرى مع المنظمات الخيرية التي نذرت نفسها إلى خدمة الإنسانية.. ولكن هذه المرة قرر أن يذهب بنفسه..
قام من مكانه وتوجه نحو الغرفة حيث المكتبة.. تناول كتابا بعنوان “ونحن نقيم صرح الروح”.. فتح الكتاب وبدأ يقرأ: “الشعور بالمسؤولية هي أول وسيلة لتحقيق رؤانا وأحلامنا.. ينبغي ربط جهودنا بالمسؤولية.. طريقنا طريق الحق، وقضيتنا حمل الحق، وغايتنا تحري رضا الله في كل رفّة عين.. ينبغي أن نشعر بالمسؤولية لأنها صدَقةُ كينونةِ الإنسان وحكمة وجود الإرادة..”. وكأن هذه الكلمات تؤيد قرارَه وتشد عزمه وتدفعه إلى تحقيقه…
….
مكبرات الصوت تذكّر الركاب المسافرين بالتوجه إلى بوابة “كونغو”. ألقى بنظراته الأخيرة على زوجته وأولاده الذين لم يكن يتصور الحياة بدونهم.. ثم ضمهم إلى صدره واحدا واحدا وقبلهم مرات ومرات.. الكل يبكي.. التفت إلى زوجته التي كانت تمسح دموعها وقال في رقة: “أستودعكم الله، اعتنوا بصحتكم جيدا.. وادعوا لي بالتوفيق”.. “أبت لا تذهب.. لا تتركنا أرجوك!”..
ما إن سمع هذه الكلمات حتى لمعت في رأسه صورة أمّنا هاجر وولدها إسماعيل عليهما السلام عندما تركهما إبراهيم عليه السلام في صحراء مكة القاحلة وجبالها.. في صحراء لا زرع فيها ولا ماء، ولا أنيس ولا جليس.. دوّى في رأسه صراخ الطفل إسماعيل عليه السلام الذي كان يتردد صداه في أجواء هذه القفراء، ونداء الأم الذي كان يشق عنان السماء: “يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي؟..” وإبراهيم يغيب عن الأنظار رويدا رويدا دون أن يلتفت إلى الوراء.. فتنادي الأم مرة أخرى: “آلله أمرك بهذا؟!”. فيهتف:”نعم.” عندها ترتاح أمّنا هاجر وتقول في غير تردد وقلق: “إذن فلن يضيعنا”.. يا لها من ثقة بالله عظيمة.. ثم تساءل: “هل كانت الكعبة المباركة تقام ويأتي الناس إليها من كل فج عميق لولا ترك إبراهيم الخليل عليه السلام أمّنا هاجر في هذه الصحراء؟.. هل يسعى الناس بين الصفا والمروة، وهل يشربون من ماء الزمزم؟!. أجل، كل هذه الأشياء لهي لحكمة إلهية”..
ثم التفت إلى ابنته الصغيرة التي كانت تنادي من صميم قلبها.. نظر إلى عينيها المبللتين بالدموع ثم اقترب منها واحتضنها وراح يقبّلها بحرقة قلب ويكلّمها بلطف: “أبوكِ لن يغيب طويلا إن شاء الله، بضعة أشهر ستمر سريعا بإذنه يا حبيبتي..”. شعر أن الأرض تميد به وأنه لم يعد يقدر على مقاومة مشاعره الجياشة.. مسح دمعة أفلتت من بين أهدابه ونظر إلى زوجته نظرة المستغيث وكأن لسان حاله يقول: “أرجوكِ ساعديني..” فتناولت منه طفلته الصغيرة ولو بصعوبة.. حمل حقيبته وأخذ يمضي نحو البوابة بسرعة دون الالتفات إلى الوراء خشية أن يعدل عن رحلته ويرجع، وصغيرته تنادي “أبت.. أبت.. لا تذهب..”.
ألقى برأسه على حاجز المقعد في الطائرة وشرد بنظراته إلى بعيد.. رنّت في أذنه كلمات أستاذه التي قالها يوما: “كالشمعة.. عليكَ أن تشعل وتذوب لتنير الدروب للآخرين..”. وهل سيستطيع أن يكون شمعة تذوب من أجل إحياء الآخرين؟ توجه إلى مولاه سبحانه وتعالى ضارعا: وما توفيقي إلا بك، ولا اعتمادي إلا عليك.. يا رب يا الله! عليكَ توكلتُ وإليك أنبتُ، فيسّر لي أمري، وثبت أقدامي..”.
….
الوجوه متشابهة في ملامحها وسمرتها في “كونغو“.. النظرات مصوبة إليه وكأنها سهام ترشقه.. كان أبناء هذه المدينة يتوجسون خوفا من الرجل الأبيض، لأنه أذاقوهم هوانا ما بعده هوان وسامهم ظلما ما بعده ظلم… فالرجل الأبيض في نظرهم شيطان أمرد، ولابد أن هذا الرجل الأبيض الغريب واحد من إخوانه. حاولوا في المطار أن يُرجعوه من حيث أتى، حتى إن بعض المتعصبين منهم كان يكور قبضته ويزم شفتيه ويشير بإصبعه إلى عنقه ويقول: “الموت للبيض”.
مضت الأيام بسرعة.. هاهو عيد الأضحى على الأبواب.. شرع بتنظيم قائمة أسماء أصحاب الأضاحي وفي مقدمتهم اسم الرسول صلى الله عليه وسلم حسبما طلب منه أصحابه الأتراك الذين آزروه ماديا ومعنويا في مهمته هذه.. اشترى 63 كبشا وراح ينتظر يوم العيد بفارغ الصبر..
….
استلقى إبراهيم على فراشه ليأخذ قسطا من الراحة.. تناهى إلى سمعه التكبيرات والتهليلات من مكبرات المآذن التناثرة القليلة في المنطقة.. إنه صباح العيد.. الساحة تغص بالناس ذوي الوجوه السمراء والأبدان النحيفة. وإذا برجل يشع وجهه نورا يتقدم نحوه بخطوات رزينة… إنه أشرف خلق الله عليه الصلاة والسلام وبيده قائمة.. فهبّ إبراهيم مسرعا لاستقباله بفرح جم وسعادة غامرة ووقف إلى جانبه باحترام واستحياء… أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ الأسماء واحدا تلو الآخر: أويس، صادق، أحمد، عبد الرحمن… حتى أكمل العدد 63…
أفاق إبراهيم من نومه وجبينه ينضج بالعرق، فوجد الدموع تتخذ لها مسارا فوق خديه.. كان يبكي.. همست شفتاه بصوت خافت وقلبه يرفرف بين أضلاعه من الفرح: “إنه هو!..”. أحس كأن يد الرسول صلى الله عليه وسلم تمسح رأسه… قال في شوق: “يا رسول الله، يجهلك الناس في هذه البلاد النائية ولا يعرفك حق المعرفة!”..
….
لم يصدق أهل هذه المنطقة ما رأوه بأعينهم!.. كيف لرجل أبيض يحسن إلى أسود ويذبح الذبائح من أجله، هذا شيء عجاب!.. كل شيء من حوله يوحي بالسعادة والرضى، وكأن هؤلاء المساكين لم يعانوا أو يشقوا طوال حياتهم!.. وكان إبراهيم يتشرب هذه الفرحة في استمتاع ونشوة غامرة.. كلٌ يتناول كيس لحم يمضي به نحو بيته بوجه طلق مشرق… فلمح إبراهيم غلاما صغيرا منفردا، يقف بعيدا عن الناس وكأنه يتحرّج من الاقتراب.. دنا منه وراح يمسح على رأسه بحنان ثم حمله إلى حضنه، لاطف شعره المجعد وقبّله… تذكّر أولاده فغمغم في نفسه: “ما الفرق بين الأبيض والأسود، أليسوا كلهم أولادنا وفلذات أكبادنا.. أليسوا كلهم أملنا ومستقبلنا”. ثم أعطاه كيسا من اللحم.. فهرول الغلام الصغير إلى أمه بفرحة عارمة وراح يحدثها.. فظن إبراهيم أنه سعدَ بكيس اللحم.. ولكنه علم فيما بعد أن الغلام يقول لأمه: “مسح الرجل الأبيض رأسي وأحبّني يا أماه”… جاشت عواطفه وأطلق صراخات صامتة من أحشاء قلبه: “الحمد لله ملء السماوات والأرض أن كرّمني بخدمة هولاء المساكين..”. وبعد إنهاء مهمته هنا ولىّ وجهه شطر منطقة أخرى..
….
وصل هو ورفاقه إلى قبيلة تبعد عن المدينة بأربع ساعات بعد رحلة شاقة عبر النهر على قارب صغير. تعجّب رئيس القبيلة وأهلها من قدوم رجل أبيض إلى قبيلتهم، إذ لم يأتهم زائر أبيض من قبل أبدا.. فأراد رئيس القبيلة أن يلتقي بالضيف.. وما إن علم غايتَه حتى رحب به واستقبله بحفاوة بالغة.. فعمّ الفرح في جميع أطراف القبيلة… إذن، جاء إليهم رجل أبيض ليساعدهم لا ليستعبدهم.. رجل أبيض يرى الناس جميعهم سواسية كأسنان المشط لا فضل فيهم لأبيض أو أسود.. يا لها من أخلاق فاضلة!.. لعله هو الإنسان الذي يجب أن يقتدوا به ويسيروا على نهجه… فحاولوا أن ينهلوا كل ما عنده من الأخلاق والعلم والفضيلة في ساعات معدودات..
وعندما آن أوان الفراق قال رئيس القبيلة لإبراهيم وعواطفه تجيش بالحزن والأسى تارة، وبالفرح والسرور والرحمة تارة أخرى: “سر على بركة الله، فقد بعثت الروح في أجسادنا الميتة، وأيْقَظتنا على النور الخالد والرسالة السمحاء فأحييتَ بها قلوبنا.. علّمتنا معنى الحياة وعلمتنا الحب والإخلاص والعطاء…”.