عمر نور الدين
أطلقت مجموعة تسمي نفسها” جي – 9 ” تضم عددا من الصحفيين الأتراك حملة لدعم 32 من زملائهم المعتقلين في السجون باتهامات مختلفة، هي في الغالب تجريم لعملهم الصحفي الذي هو في الأساس مسؤوليتهم وواجبهم، تحت عنوان ” اكتب رسالة”.
لقد ذهب الشطط بعيدا بمن وضعوا هؤلاء الصحفيين في الزنازين وخلف القضبان ليتهموهم بتشكيل تنظيمات إرهابية لمجرد مقالات كتبوها أو مسلسلات من الخيال المحض عرضت في قنوات يشرفون عليها، أو لأنهم كشفوا مؤامرات على الحكومة نفسها التي أمرت باعتقالهم بعد أن تصالحت مع من حاولوا من قبل الإطاحة بها انطلاقا من قاعدة تغيير التحالفات من أجل المصالح:” ليس هناك عدو دائم أو حليف مستمر”.
ساء وضع الصحافة في تركيا إلى الحد الذي باتت تظهر فيه في ذيل قوائم الدول في تصنيفات حرية التعبير، كونها الدولة التي تغلق مواقع التواصل الاجتماعي وتعادي تويتر وفيسبوك ويتعهد رئيسها باقتلاع تويتر من جذوره لأنه لايطيق تغريدات لا تتجاوز 140 حرفا ممن يعبرون عن آرائهم ويمارسون حقهم في نقد السياسات وأداء الحكومة ومؤسسات الدولة ويعتبرها من قبيل الإهانات الشخصية.
كم عدد الصحفيين والكتاب الذين فتحت بحقهم دعاوى قضائية في تركيا بسبب تغريدات على تويتر اعتبرت ” إهانة لرئيس الجمهورية” رغم أنه لم يذكر فيها بالاسم؟ وكم هو عدد الدعاوى التي أقامها رئيس الجمهورية بنفسه عن طريق محامييه ضد الصحفيين؟ وكم عدد من شردوا من عملهم الصحفي والإعلامي بعد أن فرضت الوصاية على مؤسساتهم وصودرت الصحف والقنوات التي يعملون بها؟ وكم عدد من يخافون من كتابة جملة واحدة على مواقع التواصل خوفا من الزج بهم في السجون؟ وكم عدد من تحولوا إلى النفاق الرخيص وبيع ضمائرهم مقابل العيش في رغد في ظل السلطة الحاكمة؟
إن عدد الصحفيين في” سجن الحريات المفتوح” في تركيا يفوق بكثير عدد من غيبوا خلف القضبان بتحقيقات وهمية في الغالب، وقرارات من دوائر قضائية ابتدعت كنبت غريب في جسد القضاء المستقل فشوهت معالمه في تركيا وأصبحت أداة في يد السلطة.
لخص الأمين العام لمنظمة مراسلون بلا حدود التي تتخذ من العاصمة الفرنسية باريس مقرا لها، كريستوف ديلوار الوضع في تركيا بكلمات مركزة ومؤثرة، عندما قال في لقاء مع صحيفة” زمان” :” إن أكثر الأماكن التي يرتادها الصحفيون في تركيا حاليا هي المحاكم والقبور ومن الممكن إضافة السجون إلى هذه الأماكن”.
وفي أنقرة بالأمس تجمع الصحفيون تحت مظلة ” جي – 9 ” لإطلاق حملة ” اكتب رسالة” .. ومن بين من شاركوا في كتابة الرسائل أوزنور دوندار والدة جان دوندار رئيس تحرير صحيفة جمهوريت، والتي كتبت رسالة لابنها قالت فيها:” ولدي .. لقد انضممت إلى حملة ” اكتب رسالة” .. لقد علمت أنك تغسل ملابسك الآن في السجن بنفسك، أعانقك بكل الحب والحنين”.
واعتقل دوندار ومدير مكتب الصحيفة في أنقرة أردم جول بتهمة نشر مقاطع فيديو تكشف قيام حافلات تابعة للمخابرات التركية بنقل أسلحة إلى مجموعات متشددة في سوريا ، وأظهرت الفيديوهات مرافقة عناصر من داعش للأسلحة داخل الحافلات.
واعتبرت المحكمة أن دوندار وجول أفشيا سرا من أسرار الدولة، وعاقبتهما على أداء عملهما، الذي يكرم عليه الصحفيون في الدول الديمقراطية، لكن هذه هي إرادة من يتسلطون في حكم البلاد الآن.
وإن ما يثير العجب حقا في هذا الأمر، أن الدول الغربية التي تزعم الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، والمنظمات الحقوقية التي تصدع الرؤوس صباح مساء بالحديث عن الحريات والحقوق وحرية التعبير، وترفعها كمجرد شعارات لأهداف سياسية، تتعامل بنفاق قميء مع ما يجري في تركيا لمجرد أن الأنظمة الغربية تريد التخلص من عبء قضية اللاجئين عن طريق تركيا، ولذلك ارتضت أن تضحي ، بلا ضمير، بقضية الحقوق والحريات، من أجل تأمين نفسها من غزو” جراد” اللاجئين.. هل هناك أكثر من ذلك نفاق؟
وهل هناك نفاق أكبر من نفاق الاتحاد الأوروبي، الذي تغاضى عن مبادئه التي قامت على أساسها مفاوضاته مع الدول الراغبة في عضويته ومنها تركيا، من أجل مجاراة نظام لطالما وصفه بالفساد والانحدار إلى الديكتاتورية وقمع الحريات، من أجل مصالح وقتية، ليفتح فصلا جديدا للمفاوضات ويمنح تركيا وعدا بثلاثة مليارات يورو، ومنح حق الدخول بلا تأشيرة للأتراك بعد استيفاء 72 شرطا، مقابل تخليص دوله الأعضاء من صداع اللاجئين؟
ترى.. لو فكرنا في الانضمام إلى حملة ” اكتب رسالة” .. فماذا سنكتب لهؤلاء الذين يدافعون عن حرية بلادهم في السجون، ماذا سنكتب لكل من هدايت كاراجا، أكرم دومانلي، محمد بارانصو، جان دوندار، بولنت كينيش، أردم جول .. وغيرهم من القابعين في غياهب وظلمات السجون أو من ينتظرون دورهم في اللحاق بهم .. شخصيا .. سأكتب لهم رسالة اعتذار على تقصيرنا في حقوقهم وعجزنا عن الدفاع عنهم وامتنان لهم لتحملهم نيابة عن شعب بأكمله ثمن الحرية.. فماذا ستكتبون أنتم؟