كريم بالجي
لم يعد بالإمكان أن نحلل حادثة إسقاط القوات التركية للطائرة الروسية بصرف النظر عن العلاقات بين حلف الناتو وروسيا حتى لو حدث ذلك دون علم وموافقة الناتو والرئيس الأمريكي باراك أوباما، كما ادعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
فلا يمكن الاطلاع على الحقيقة الجلية بعد الآن من دون الإشارة إلى بدء الحرب الباردة الثانية في إطار السياسة الخارجية الجديدة لروسيا، والتي يمكن أن نطلق عليها مصطلح “صحوة القيصرية الروسية”. وليس الجيش التركي هو الذي بدأ بهذه الحرب. فقد بدأت التوترات أثناء أزمة كوسوفا، وتحولت إلى حرب باردة اتضحت معالمها باحتلال روسيا للقرم سنة 2014. وفي الحقيقة إن جبهة تركيا هي وحدها التي لم تدخل الحرب الباردة في وقت متأخر.
وطبعا ثمة فروق جوهرية بين الحربين الباردتين الأولى والثانية، ففي الأولى كان الهدف هو الحيلولة دون انتشار نفوذ الاتحاد السوفيتي في دول البلطيق والبلقان والجناح الجنوبي للناتو والعالم العربي والمياه الدولية. أما الآن فنرى أن روسيا تحاول منع انتشار نفوذ الناتو في نفس المناطق وقد نجحت على الأقل في أوكرانيا. ونحن نشهد اليوم مرحلة يرتبط فيها الاقتصاد الأوروبي بالغاز الروسي إلى درجةٍ لم تكن متوقعة قطُّ في العهد السوفيتي.
ومن الغريب أن كل الحملات المخططة التي تزيد من التوتر في هذه الحرب الباردة تبدأ بانتهاك عسكري روسي لحدود الدول المجاورة بريا أو جويا أو بحريا.
ففي أكتوبر 2014 حاولت السويد احتجاز غواصة دخلت في مياهها الإقليمية. ولكنها لم تُفلح في ذلك، ولم تُعرف لأية دولة تنتمي تلك الغواصة. ولكن الاحتمال الأقوى أنها كانت لروسيا، ما أدى إلى جعل السويد وفنلندا تفكران في الانضمام إلى الناتو بعد أن كانتا تنظران إلى الانضمام بفتور حتى ذلك الوقت.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2014 انتهكت روسيا الحدود البرية لجورجيا من أجل مساندة أبخازيا، وشاهدنا كيف دفعت هذه الحملة جورجيا إلى التقارب من الاتحاد الأوروبي وأمريكا. وفي السنة نفسها كانت النزعات الانفصالية التي قامت بها الأقليات العرقية المؤيدة لروسيا في أوكرانيا ثم في مولدوفا جعل هاتين الدولتين تقيمان علاقات واسعة مع الاتحاد الأوروبي وأمريكا.
وفي فبراير/شباط 2015 انتهكت طائرات (Tupolev) الروسية أجواء المملكة المتحدة. علما بأن العلاقات بين البلدين كانت متوترة منذ 2007 حين قُتل الجاسوس الروسي “ليتفينينكو”في بريطانيا من قبل جاسوس روسي آخر.
وما يعانيه رجال الأعمال الأتراك حاليا في روسيا هو نفس ما عاناه رجال الأعمال البريطانيون آنذاك. كما أن روسيا التي تقتحم المساكن الطلابية التي يسكنها طلاب أتراك، كانت قد أوقفت أنشطة المجلس الثقافي البريطاني في ذلك الوقت.
وكانت التوترات بين روسيا وحلفاء الناتو قد اكتسبت بعدا جديدا الشهر الماضي. حيث أعلنت روسيا أنها ستزود جبهتها النووية بأربعين صاروخا باليستيا جديدا. فردت بولونيا على ذلك بمناورات عسكرية شارك فيها 2000 عسكري من 9 دول، مختبرة بذلك رد فعل الناتو للمرة الأولى. وفوق ذلك أُعلن أن قوات الناتو المؤلفة من 4000 عسكري في أوروبا الشرقية ستتضاعف أعدادهم إلى 10 أضعاف.
وفي تلك الأثناء أعلن وزير الدفاع الأمريكي أن بلاده ستزود بلغاريا وأستونيا وليتوانيا وبولونيا ورومانيا بأسلحة ثقيلة كالدبابات والمدرعات وبطاريات المدفعية. فوصفت روسيا هذه التطورات بأنها أكثر التصرفات العدائية التي انتهجتها واشنطن منذ الحرب الباردة، مهددةً بالرد في الوقت المناسب.
وليس من المعروف ما إذا كان المستفيد من إسقاط الطائرة الروسية التي انتهكت الأجواء التركية عبر طائرات (F-16) التركية، هو روسيا أو الناتو. ولكن في كل الأحوال فقد انتقلت الحرب الباردة التي بدأت منذ مدة في أوروبا الشرقية إلى الجناح الجنوبي للناتو.
وليس من الصواب أن نُخرج العلاقات التركية الروسية من إطار هذه الحرب الباردة الثانية، وحصرها في تصريحات زعيمين فقدا العقل السليم بدافع غرور القوة.