د. منى سليمان
محاضر وباحث أول في العلوم السياسية والشأن التركي
القاهرة (زمان التركية)ــ أعلنت حركة “الخدمة” صباح يوم 21 أكتوبر 2024 وفاة مؤسسها وملهمها المفكر الإسلامي التركي “فتح الله كولن” عن عمر ناهر (83) عام في أحد مستشفيات ولاية بنسلفانيا الأمريكية حيث مقر إقامته منذ 1999، وهو الخبر الذي أفجع محبيه ومتابعيه من كافة أنحاء العالم، لما كان له من أثر فكري ومؤسسي تجاوز العالم الإسلامي، حيث أنه ألف 70 كتاب ترجمت لـ 40 لغة وتمحورت كتبه حول الفكر الإسلامي والتقارب بين الأديان والحضارات، والفهم الصحيح المبسط للدين الإسلامي وكيفية التوفيق بين ذلك وبين الحياة في ظل دولة علمانية كتركيا خلال الفترة القرن الماضي، وكان الأستاذ “جولن” مجددا للفكر الإسلامي بشكل وسطي يتناسب مع القرن العشرين لأن الإسلام دين لكل العصور فقد ابتعد عن الفكر المتشدد وانتقد الجماعات الإرهابية وكل ما يصدر عنها، وقدم أفكاره للتوفيق بين الحياة العصرية والدين الإسلامي الحنيف بجوهره وليس بمظهره، ولذا فقد حصل على العديد من الجوائز الدولية منها جائزة “غاندي العالمية للسلام” عام 2015، كما صنفته مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية في استطلاع لها عام 2008 بأنه من من أهم الشخصيات العامة المؤثرة في العالم، وأسست الجامعات الأوروبية والأمريكية أقسام بأسمه تقديرا له، وفي تعليقه على وفاته تعهد الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بملاحقة حركة “الخدمة” وعناصرها متهما أياها بأنها “تهديد” للجمهورية التركية، في تعنت سياسي ومغالطة تاريخية مستمرة منذ 2016 عندما اتهم الأستاذ “جولن” بالتورط في محاولة الانقلاب الفاشلة آنذاك، مما يثير التساؤلات حول ماهية الحركة ومستقبلها بعد وفاة ملهمها ومؤسسها الأستاذ “جولن”، وهو ما سنوضحه فيما يلي:
أولا: من هو الأستاذ “جولن” وما هي أفكاره؟:
المفكر الإسلامي التركي “محمد فتح الله جولن” ولد في 27 أبريل 1941 في قرية صغيرة تابعة لقضاء “حسن قلعة” بمحافظة أرضروم شمال شرقي تركيا، ونشأ في عائلة متدينة كان والده (رامز أفندي) شخصًا مشهودًا لـه بالعلم والأدب والدين، وكانت والدته (رفيعة هانم) سيدة معروفة بتدينها وبإيمانها، وقامت بتعليم القرآن لابنها وهو لم يتجاوز الرابعة من عمره، حيث ختم القرآن في شهر واحد. وكان بيت والده مضيفًا لجميع العلماء والمتصوفين المعروفين في تلك المنطقة لذا تعود محمد فتح الله مجالسة الكبار والاستماع إلى أحاديثهم. وقام والده بتعليمه اللغة العربية والفارسية. ثم درس “جولن” في المدرسة الدينية في طفولته وصباه، وكان يتردد على (التكية) أيضًا، وتلقى العلوم الدينية من علماء معروفين أبرزهم “عثمان بكتاش” الذي كان من أبرز فقهاء عهده، حيث درس عليه النحو والبلاغة والفقه وأصول الفقه والعقائد. ولم يهمل دراسة العلوم الوضعية والفلسفة أيضاً. في أثناء أعوام دراسته تعرف على كتاب “رسائل النور” للعلامة “بديع الزمان سعيد النورسي” وتأثر بها وتعلمها.
وتقدم “جولن” في العمر وأزدادت مطالعاته وتنوعت ثقافته وتوسعت فأطلع على الثقافة الغربية وأفكارها وفلسفاتها وعلى الفلسفة الشرقية أيضاً وتابع قراءة العلوم الوضعية كالفيزياء والكيمياء وعلم الفلك وعلم الأحياء…إلخ. وعندما بلغ العشرين من عمره عيّن إماماً في جامع (أُوجْ شرفلي) في مدينة أدرنة حيث قضى فيها مدة سنتين ونصف سنة في جو من الزهد ورياضة النفس. وقرر المبيت في الجامع وعدم الخروج إلى الشارع إلا لضرورة، ثم بدأ عمله الدعوي في “أزمير” في جامع (كستانه بازاري) بمدرسة تحفيظ القرآن، ثم عمل واعظاً متجولاً، فطاف في جميع أنحاء ولايات غرب الأناضول.
وكان يجوب البلاد طولاً وعرضاً كواعظ متجول يلقي خطبه ومواعظه على الناس في المقاهي لأنه لاحظ إحجام الشباب على الذهاب للجوامع، فكان يذهب لهم هو في خطوة غير مسبوقة من واعظ إسلامي وفي ظل سطوة الدولة العلمانية بتركيا التي كانت تمنع تدريس أي علوم دينية، فقد رتب “جولن” مع أصحاب المقاهي في المدن التركية لإلقاء المحاضرات العلمية والدينية والاجتماعية والفلسفية والفكرية خلال جلوسهم فيها وفي الأيام الأولي لتلك التجربة الفريدة تعجب الكثيرين من هذا الأمام الواعظ المتواجد في المقهي ثم مع مرور الوقت زادت أعداد المستعمين له وكذلك زاد أعداد المتواجدين بالجامع وذاع صيته في كل مدينة يذهب إليها، حيث كان يعقد الندوات واللقاءات الخاصة التي يجيب فيها على الأسئلة الحائرة التي تجول في أذهان الناس والشباب خاصة لاسيما في ظل عهد تم التضييق فيه على كل ما له صلة بالاسلام بعد تطبيق القوانيين العلمانية الصارمة بتركيا منذ 1923.
وفي عام 1977، سافر “جولن” الى دول شمال أوروبا، لإلقاء المواعظ للجاليات التركية ولتوعيتهم حول القيم والتعليم وتشجيعهم علي اخلاقيات الخدمة و العمل الإيجابي. وشجعهم على الحفاظ على قيمهم الثقافية والدينية و في نفس الوقت الاندماج مع المجتمعات الذين يعيشون معها وهو الأمر الذي كان يرفضه غيره من الواعظين والعلماء، وعندما بلغ “جولن” (36) من العمر أصبح واحد من الدعاة الثلاثة المعترف بهم على نطاق واسع في تركيا. وتم دعوته عام 1977للمسجد الأزرق (مسجد السلطان أحمد) في أسطنبول لإلقاء خطبة “صلاة الجمعة” لأول مرة بحضور رئيس الوزراء التركي آنذاك.
وفي عام 1979، رأس جمعية المعلمين وأسس مجلة شهرية بإسم “سيزينتي” وأصبحت تلك المجلة الأعلى مبيعا في تركيا، وكانت مشروعا رائدا لكونها تقدم العلوم والإنسانية والدينية معا، وكان الهدف منها هو إظهار أن العلم والدين لا يتعارضان وكلاهما ضروري للنجاح في الحياة. وكان الأستاذ “جولن” يكتب لها افتتاحية شهرية يشرح فيها قسمًا من الجوانب الروحية والداخلية في الإسلام والتصوف ومعنى الإيمان في الحياة الحديثة.
وفي فبراير 1980، سجلت أول سلسلة محاضرات “لكولن” حول رفض العنف والفوضى والإرهاب على “أشرطة كاسيت”، وكان يحضر هذه المحاضرات الآلاف من الناس يلقيها عليهم في الجوامع، وذلك على الرغم من أجواء الترهيب في أعقاب الانقلاب العسكري الذي وقع عام 1980على يد الجنرال “كنعان أفرين”، وبين عامي (1989- 1991) ألقى “جولن” مواعظه في أكبر المساجد بإسطنبول وأزمير. وحضر خطبه حشود مكونة من عشرات الآلاف وأرقام قياسية لم يسبق لها مثيل في التاريخ التركي منذ 1923. وتم تصوير هذه الخطب وبثها تلفزيونيا أيضا.
وفي بداية عقد التسعينيات الماضي، كشفت الشرطة التركية عددا من المؤامرات لإغتيال الأستاذ “جولن” من قبل إسلاميين متشددين وجماعات هامشية أيديولوجية صغيرة، كما قاموا بالتحريض ضده وتخريب المناطق المحيطة بالمساجد الذي يخطب بها لإثارة الإضطراب عند تفرق الحشود بعد خطبه، وللمفارقة فقد كان الأستاذ “جولن” ينتقد من قبل الجماعات العلمانية لأنه ينشر الإسلام وكذلك ينتقد من قبل الجماعات الدينية المتشددة لأنه ينشر الإسلام الوسطي فعلي سبيل المثال كانت الحكومات التركية تمنع الفتيات المحجبات من دخول الجامعة وكان للأستاذ “جولن” رأيا في ذلك حيث أنه عد التعليم ضرورة ويمكن ذهابهن بلا حجاب ثم أردتائه مرة أخرى.
وفي عام ١٩٩٢ سافر الأستاذ “جولن” للمرة الأولى للولايات المتحدة الأمريكية، وألتقى بالأكاديميين الأتراك وقادة المجتمع وكذلك قادة الطوائف الدينية الأمريكية الأخرى. الذين أبدوا إعجابهم الشديد بشخصه وأفكاره لأنه يقدم رمزا للمفكر المسلم المعاصر المجدد الذي يجمع بين علوم الدين ويقدم معالجات جديدة للقضايا الدنيوية الخلافية، وأبتداءً من عام ١٩٩٤ عرف الأستاذ “جولن” كرائد في الحوار بين الأديان وأصبح الرئيس الفخري لمنظمة “الصحفيين والكتاب” بتركيا وعقد سلسلة من الاجتماعات التي تضم قادة من الأقليات الدينية في تركيا مثل (البطريرك الرومي الأرثوذكسي والأرمني الأرثوذكسي وممثل الفاتيكان و”الحاخام الأكبر”) للتقريب بين الأديان، وقد لاقت جهوده ترحيبا دوليا وتم دعوته للقاء بابا الفاتيكان عام 1998 كممثل عن الدين الإسلامي.
وفي 18 يونيو عام 1999 اتهمت الحكومة التركية الأستاذ “جولن” بالتعاطف مع إنقلاب عام 1997 ضد رئيس الوزراء الأسبق “نجم الدين أربكان” وأسفرت التحقيقات عن براءته من كافة التهم المنسوبة إليه، ثم غادر إلى الولايات المتحدة الأمريكية واستقر في المركز الإسلامي التركي بولاية بنسلفانيا وأقام هناك 25 عام حتى وفاته، وقضى وقته بغرفته المتواضعة بالمركز وخصص وقته للعلم فهو لم يتزوج ولم ينجب في حياته، وكان يعمل حتى في أشد أزماته الصحية من خلال تأليف الكتب ولقاء تلامذته من الباحثين والكتاب، وسجل عشرات اللقاء لخطبه وتفسيراته وأحاديثه، وقد ألف الأستاذ “جولن” خلال الأربعين عامًا الماضية أكثر من 70 كتاب أكثرها حول السيرة النبوية الشريفة، ومن بين كتبه (النور الخالد، البيان، التلال الزمردية، ونحن نقيم صرح الروح)، كما أشرف على إصدار مجلة شهرية معنية بالدراسات الإسلامية والإجتماعية باللغتين التركية والعربية هي مجلة “حراء” وكان آخر كتاب له صدر في مارس 2024 هو “معراج الصلاة” باللغة العربية والتركية، وآخر جوائزه هي جائزة “غاندي” للسلام عام 2015 من الولايات المتحدة الامريكية ويعد أول عالم مسلم من الشرق الأوسط يحصل عليها وتمنح الجائزة للعلماء الذين يدعون للسلام والمحبة بين شعوبهم ولهم تاثير ونجاحات بارزة في هذا المجال.
وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة بتركيا عام 2016 التي أدت إلى مقتل 251 شخصاً، اتهمت السلطات التركية “جولن” بالتورط في الانقلاب واعتقلت آلاف القضاة وضباط الجيش والجنود والصحفيين، وأغلقت مدارس حركة “الخدمة” وفصلت تعسفيا نحو 40 ألف معلم بها، وأغلقت 140 مدرسة وجامعة تابعة لها في تركيا، كما لاحقت مدارسه المنتشرة في 170 دولة في أنحاء العالم، ومازالت متستمرة في ملاحقة الحركة حتى اليوم.
ويمكن القول أن الأستاذ “جولن” (رحمة الله عليه) كان أحد مجددي الدين الإسلامي خلال القرن الماضي، وتمتع بصفات شخصية متفردة قلما تتكرر في أى عالم أو مفكر ديني، ومنها التواضع الشديد وحب العلم والزهد في الدنيا والتدين السمح الوسطي الذي لا يعرف الغلو والتشدد، ويعرفه المتخصيين بدراسة فكره بأنه “شخصية ربانية من طراز رفيع”، يتميز بشغفه الشديد للمعرفة سواء في العلوم الإسلامية أو الإنسانية، كما أنه في ذات الوقت أديب شاعر – كما يتميز بنظرته المتفردة إلى الدولة التي تخالف أبجديات رؤى سائر الحركات الإسلامية في العالم حيث سائر الحركات الإسلامية تبني أيديولوجيتها على عداء الدولة ووجوب تغير نظامها من العلمانية للإسلامية، وهذا لم يسع إليه الأستاذ “جولن” قولاً أو فعلاً بل أنه تكيف مع الدولة التركية بمؤسساتها ونظامها العلماني لتقديم ما تيسر له من العلوم الدينية، وقد تعرض الأستاذ “جولن” لحملات متلاحقة وتشويه ليس فقط بهدف النيل من شخصه الكريم، وإنما أيضًا بهدف النيل من فكرته، التي تعتمد على دعوته في اقتران “القول بالعمل”، وأن يجدّ ويجتهد أبناؤها في بناء صرح الروح وصرح الحضارة معًا وهو ما ألهم حركة “الخدمة”.
ثانيا: حركة الخدمة .. النشاة والأهمية:
ألهم الأستاذ “جولن” بفكره تأسيس حركة واسعة الانتشار لا تحمل اسمًا محددًا، وإنما توافق أغلب الباحثين والأكاديميين المعنيين بها على تسميتها باسم “حركة الخدمة” نظراً للخدمات الجليلة التي تقدمها للمجتمعات التي تتواجد فيها. هذه الحركة تستلهم أفكاره وتحولها إلى مشروعات ومؤسسات وبرامج متنوعة تصب -رغم تنوعها- بإتجاه تحقيق الخير للأنسان وللإنسانية، دون النظر لدينه أو عرقه أو موطنه. ولذا تتواجد تلك الحركة في 170 دولة بالعالم.
ولكن كيف بدأت الخدمة عملها؟ نشأت الحركة في أواخر الستينيات من القرن العشرين في تركيا كمبادرة تطوعية من افراد المجتمع لخلق فرص تعليمية عبر توفير سكن للطلاب ومدارس ومراكز للدروس الخصوصية. وعلى مدى أربعة عقود منذ ذلك الوقت نمت وتطورت الحركة لتصبح حركة تعليمية ثقافية تربوية اغاثية ويبلغ عدد المتطوعين بها حاليا ملايين الاشخاص في كل بقاع المعمورة، وتتآلف الحركة من مئات المؤسسات والشركات والجمعيات الخيرية.
بدأت الحركة بإجابة من الأستاذ “جولن” على أحد الأسئلة الواردة إليه في دروسه التي كان يلقيها على مسامع الناس؟ وكان السؤال ماذا نفعل بأموال الزكاة هل نبني مسجد؟ فكانت إجابة الاستاذ “أبنوا مدرسة فالجوامع كثيرة وفارغة ونحن بحاجة للمدارس” .. هذه كانت الإجابة وقد كانت الاستجابة سريعة وفي عام ١٩٨٢، أسست أول مدرسة ثانوية خاصة بجهود ذاتية من المتطوعين في محافظة أزمير باسم “يمانلار كولجي”. ثم بدأ المتطوعين من رجال الأعمال والمدرسين وأهل الخير في إنشاء المدارس في الأماكن النائية التي تحتاج لخدمات تعليمية مناسبة، وذلك كله بلا مقابل وبلا تكلفة على عاتق الدولة بل كلها جهود ذاتية. ثم في عام 1991 بعد تفكك الأتحاد السوفيتي سأل الأستاذ “جولن” مرة أخرى ماذا نفعل باموال الزكاة؟ فكانت الإجابة توجهوا لدول آسيا الوسطى .. حيث عانت تلك الدول من شتى أنواع الأزمات الإقتصادية والتعليمية، وقد كان حيث بنيت أول مدرسة تركية خارج الحدود في عام 1992 في آسيا الوسطى، وتولى البناء التطوعي الخيري حتى بلغ عدد المدارس الالاف في أكثر من 170 دولة، ثم تم إنشاء أكثر من جامعة في تركيا بجهود تطوعية أيضا، كانت الإجابة من الأستاذ كالنور الذي انتشر ليضىء ظلام الجهل والتشدد في كل دول العالم بمختلف تنوعاته في آسيا وأفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
تزامن مع بناء المؤسسات التعليمية والتربوية داخل تركيا وخارجها، إنتشار عدد من المؤسسات الخيرية التطوعية أيضا ومنها جمعية “هل من مغيث؟” الخيرية التي تقدم معونات إغاثية من مأكل ومشرب وأدوية لكافة المناطق المنكوبة في أى دولة بالعالم ومنه (العراق، غزة، اليمن، الصومال، كينيا، غينيا، سوريا، ميانمار،… ) . ولا يقتصر نشاطها على ذلك بل يمتد إلى إقامة مراكز ثقافية خاصة بها في عدد كبير من دول العالم، وإقامة مؤتمرات سنوية حول فكر الحركة ومؤسسها في بريطانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بالتعاون مع كبريات الجامعات العالمية من اجل دراسة الحركة وتأثيرها وجذورها الثقافية والاجتماعية.
ومبدأ الحركة الأساسي هو “الجميع يعطي” .. وهو مبدأ داخلها حيث يساهم الجميع بشئ من وقتهم ومواردهم المالية. فبالنسبة لرجال الأعمال، فيساهمون بـ 1% من ارباحهم وهذا قد يبلغ مقداره مليون دولار في السنة. كما يتم تشجيع رجال الأعمال للقيام بزيارات توعية لرجال الأعمال الآخرين وتعريفهم علي مشاريع الحركة، أما بالنسبة للعمال فان مساهمتهم قدرها خمسين دولارا في الشهر. وهذه التبرعات ليست إجبارية. وتحرر وتحفظ جميع التبرعات أو المساهمات في سجل المؤسسة التي تم التبرع اليها. بل أن بعض الأنشطة التي تقدمها الحركة هي تقديم “الاطباق الخيرية” التي تعدها السيدات في المنازل وتقدم للمحتاجين. والحركة ليس لها مقر رئيسي مركزي ولا رئيس بل تتم الاعمال كلها وفق التنسيق والتطوع بين المنتمين إليها، “فجولن” ليس له أى منصب رسمي أو شرفي ولا يتلق اى اموال مقابل مقالاته وكتبه ودروسه التي ألقاها طوال حياته.
واستمرت “الخدمة في العمل وتقديم الخدمات الإنسانية والفكرية والتعليمية المجانية وكان لها مؤسسات اقتصادية وإعلامية وكان لها أثر بالغ في الحياة الاجتماعية التركية، حيث دعم “أردوغان” عمل الحركة خلال الفترة (2002-2012) للإستفادة من أنشطتها وشعبيتها، بيد أنه في عام 2013 حدث خلاف بين الطرفين نتيجة الكشف عن قضية “الفساد الحكومي” التي تورط فيها بعض وزراء حكومة “أردوغان” ونجله، واتهم آنذاك عناصر شرطة متخرجين من مدارس “الخدمة” بالكشف عن القضية وبدأ العداء من قبل “أردوغان” للحركة حتى منتصف عام 2016 عندما اتهمها بتدبير الانقلاب الفاشل بالتعاون مع عناصر بالجيش، دون دلائل قانونية فكيف لشخص مثل “جولن” (رحمة الله عليه) أن يدبر إنقلاب عسكري وهو مقيم بدولة آخرى منذ عقود، ومنذ ذلك التاريخ صادرت الحكومات التركية كافة ممتلكات الحركة التي قدرت بنحو (100) مليار ليرة وكذلك اعتقلت الكتاب والإعلاميين ورجال الأعمال الذين تعاملوا مع الحركة، وقد وظف “أردوغان” الاتهامات السياسية “لجولن” لرفع شعبيته وحشد المواطنين معه ضد خطر إنقلاب جديد.
ويمكن القول أن حركة “الخدمة” قد قدما نموذجًا إنسانيًا فريدًا ومتفردًا في مجال حركات المجتمع المدني التطوعي، وهو نموذج ناجح بكل المقاييس وصالح للتطبيق في أى دولة وأى عصر، فالحركة التي يتجاوز المنتمين لها الملايين لا ترتبط بشخص “جولن” بل هي “أفكار” تجاوزت الحدود المكانية والزمنية ورسخت لحضارة إنسانية ترتقي بأي مجتمع علي كافة الأصعدة.
ثالثا: مستقبل حركة “الخدمة”:
رغم وفاة الأستاذ “جولن” الذي تبارت مؤسسات الدولة التركية على مدار العقد الماضي في كيل الاتهامات له، إلا أن مؤشرات استمرار أنقرة في استهداف حركة “الخدمة” قائمة، فقد صرح “أردوغان” بعد وفاة الأستاذ “جولن” بأنه سيستمر في ملاحقة حركة “الخدمة” وقال “أردوغان” نصا “إن من حولوا أطفال الأمة إلى عبيد غافلين تحت ستار الخدمة وأعمال الخير انتهى بهم الأمر إلى ميتة مشينة، على غرار شياطين آخرين على هيئة بشر على مدار التاريخ، سنواصل كدولة كفاحنا بعزم حتى يتم القضاء على حركة جولن تماماً”. (وشخصيا لا أعرف كيف يصفه بهكذا وصف وما هو الموت الشنيع في المرض لأنه قدر الله سبحانه وتعالي)، كما أكد وزير العدل التركي “”يلماز تونتش” أن وفاة “جولن” لن تعطل إصرار الحكومة على الاستمرار في معركتها ضد منظمته، “السلطة القضائية، لن تتخلى أبداً عن تطهير فلول هذه الشبكة الخائنة التي شنت الحرب ضد الإرادة الوطنية، وستستمر كل خطوة ضرورية لسلام وأمن أمتنا”، بينما أشار وزير الخارجية التركي “هاكان فيدان” إلى أن “وفاة جولن لن تؤدي للاسترخاء والإصرار سيستمر في مكافحة الإرهاب، لقد أصبحت هذه المنظمة مركز تهديد نادراً ما نراه في تاريخ أمتنا، خدعت الآلاف من الشباب في صفوفها باسم القيم المقدسة، وحولت هؤلاء الشباب إلى آلة تخون وطنهم وأمتهم وقيمهم المقدسة”.
مما ينذر باستمرار أنقرة في استهداف حركة “الخدمة” داخل وخارج تركيا للاستفادة من “شيطنة” الحركة وخلق “عدو وهمي” للدولة التركية يتم حشد المواطينن ضده تفعيلا لنظرية “الإلهاء” في العلوم الاجتماعية القائمة على التهرب من الواقع المؤلم للدولة عبر إلهاء المواطنين بأمور آخرى، وهذا كله يأتي بعدما كثفت الحكومة التركية خلال الأسابيع الماضية من استهدافها لعناصر حركة الخدمة داخل وخارج البلاد لاسيما بعد إدعاء أنقرة في مايو 2024 عن احباط محاولة انقلاب جديدة تعتزم الحركة بتنفيذها وهو ما لم يكن له أي صلة من الصحة، ولذا فهناك عدد من المؤشرات على استمرار ملاحقة الحركة رغم وفاة الأستاذ “جولن” ومنها:
-اختطاف 7 مواطنين أتراك يوم 19 أكتوبر 2024 كانوا موجودين في كينيا يعملون بمؤسسات حركة “الخدمة” هناك، وتم اختطافهم من قبل جهاز المخابرات التركي بإعتبارهم معارضين للرئيس “أردوغان” وتم وإحتجازهم في مكان مجهول في نيروبي ولم يتم الاستدلال عليهم حتى اليوم، كما حدثت العديد من الأحداث المشابه لذلك.
-كشف وزير العدل التركي “يلماز تونتش” في منتصف أكتوبر أن هناك (706) طفل بالسجون التركية مع ذويهم البالغ عدد (498) زوج وزوجة، وجميعهم مسجونين بتهم “الإرهاب”، وينتمون لحركة “الخدمة” أو حزب “العمال الكردستاني”.
-في نهاية سبتمبر الماضي تم اعتقال فتيات في المرحلة الثانوية ووجهت لهم اتهامات بالإرهاب دون أي دليل، لأنهم كانوا يدرسون ويصلون معا واتهمت الفتيات بأن لهم صلة بحركة “الخدمة”.
ومن كثرة الملاحقات والاضطهاد الذي تعرض له عناصر حركة “الخدمة” خلال السنوات السابقة أصبح يوصف وضعهم بأنه “موت مدني” حيث تعمل الحكومة التركية على نفيهم واضطهادهم وفصلهم من عملهم بشكل تعسفي، ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم ثم اعتقالهم وتعذيبهم والاعتداء عليهم داخل السجون التركية.
وأمام إصرار “أردوغان” على استهداف حركة “الخدمة” ليس أمام الخدمة سوى الاستمرار في تقديم رسالتها بما تبقي لها من إمكانيات محدودة بعد مصادرة كافة ممتلكاتها واعتقال عناصرها داخل تركيا واختطافهم خارجها، وهو ما أكده “تحالف القيم المشتركة” ومقره نيويورك، والتابع لحركة “الخدمة”، حيث أوضح أنه “سيتم الحفاظ على التوجيه الروحي لحركة الخدمة من قبل مجموعة من الأصدقاء المقربين الذين قدموا الحكمة والإلهام لسنوات عديدة، وعلى الرغم من أن السيد كولن لم يلعب دورًا نشطًا في السنوات الأخيرة، إلا أنه كان يشجع باستمرار التشاور واتخاذ القرارات المشتركة؛ ومن شأن هذه الممارسة أن تضمن استمرار عمل الحركة في مجالات التعليم والحوار والمساعدات الإنسانية”.
ولذا فإن “حركة الخدمة” ستكمل مسارها كما أوصى به الأستاذ “جولن” (رحمه الله عليه) رغم التضييق عليها داخل وخارج تركيا من قبل “أردوغان”، لأن الحركة هي منظمة أهلية مدنية من منظمات المجتمع المدني ومسجلة وفق القوانين والأعراف المتبعة في كافة الدول العاملة بها، وتعمل وفق قوانين تلك الدول ولم يتم اتهام الحركة أو عناصرها بأي تهم خلال العقود الماضية ولم يتم إثبات أي تهمة تم توجيهها للحركة من قبل الدولة التركية ولذا فإن الحركة تعمل في 130 دولة حول العالم حاليا عبر المدارس والمؤسسات التعليمية والإعلامية التابعة لها، كما أن حركة “الخدمة” استلهمت أفكار الأستاذ “جولن” بيد أنها لم تقع في فخ “الشخصنة” فأصبح لها شخصيتها المستقلة كحركة مدنية ولم تسمى على اسم الأستاذ “جولن” كما لم تنسب إليه أي مدرسة او مؤسسة تعليمية أو إعلامية أو اقتصادية ولم يمتلك الأستاذ أي مؤسسة طوال حياته، ولذا فإن هذه الحركة استلهمت أفكاره ولم تبني على “شخصنة” الفرد وتقديسه وهذا ما سيؤدي لاستمرار الحركة بعد وفاته كما سيستمر استهداف “أردوغان” لها، وهنا يجب على الحركة ومحبيها والدارسين لها توظيف زخم وفاة الأستاذ “جولن” هذا الخبر الذي نقلته كافة وسائل الاعلام الهامة بالعالم في التعريف بحقيقة الأستاذ وحركة “الخدمة” وإثبات كذب إدعاءات أنقرة ضدها لتتمكن من تقديم رسالتها لخدمة العلم والعلماء والإنسانية.