- د. منى سليمان – باحث أول ومحاضر في العلوم السياسية والشأن التركي
استقبل الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” نظيره الفلسطيني “محمود عباس أبو مازن” في إسطنبول منتصف أغسطس الحالي وحضر الكلمة التي ألقاها الأخير أمام البرلمان التركي الذي اجتمع بكامل أعضاءه، على غرار الكلمة التي ألقاها رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” أمام الكونجرس الأمريكي في يوليو الماضي، وجدد “أردوغان” دعوته لوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التي دخلت شهرها العاشر وأسفرت عن 40 ألف قتيل، كما توافقت كافة الأحزاب التركية الحاكمة والمعارضة بكافة تياراتها السياسية وأحزابها وانتمائاتهم الأيديولوجية دعمها للقضية الفلسطينية والمطالبة بضرورة وقف الحرب بقطاع غزة، ليعكس ذلك ذروة الدعم التركي للقضية الفلسطينية، والذي كان آخر حلقاته التعاطف الكبير مع إغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس “إسماعيل هنية” في فجر 31 يوليو 2024 بمقر إقامته بالعاصمة الإيرانية طهران، مما أدى لتوتر العلاقات بين أنقرة وتل أبيب بعد عامين من تحسنها والارتقاء بها، لاسيما بعد تلويح “أردوغان” بالتدخل العسكري في القطاع والتلاسن السياسي بينه وبين وزير الخارجية الإسرائيلي “يسرائيل كاتس”، وهو ما يثير التساؤلات حول أهداف “أردوغان” من هذا الدعم للقضية الفلسطينية وتأثيره على مستقبل العلاقات التركية الإسرائيلية في ظل سعى أنقرة لتعظيم دورها الإقليمي والدولي.
أولا: الموقف التركي من الحرب بقطاع غزة:
1-ملامح الموقف التركي منذ بدء الحرب:
اتخذ الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” وحكومته موقف متوازن عقب عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حركة “حماس” الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023 على المستوطنات الإسرائيلية وأسفرت عن 250 قتيل وطالبها “بضبط النفس”، ثم سرعان ما تحول موقفه للتصعيد ضد إسرائيل عقب بدء حربها ضد قطاع غزة المستمرة حتى اليوم، وفي 11 أكتوبر2023 وصف “أردوغان” ما يحدث بغزة بأنه “ليس حربا إنما جريمة إبادة جماعية” وذلك بعد تكثيف القصف الإسرائيلي على شمال القطاع، وبعد قصف مستشفى “المعمداني” بغزة في 17 أكتوبر 2023، تصاعدت نبرة الانتقادات التركية للحرب الاسرائيلية ووصفتها “بالجنون”، وبنهاية الشهر أعلن “إسرائيل مجرمة حرب”، كما عقد البرلمان التركي بعد أسبوع من بدء الحرب جلسة مغلقة لبحث التطورات المتعلقة بالاشتباكات الإسرائيلية الفلسطينية قدم خلالها وزير الخارجية “هاكان فيدان” تقرير شامل للنواب عن الوضع بغزة، وشدد رئيس البرلمان التركي “نعمان كورتولموش”، في كلمته على ضرورة “إقامة دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، ووقف الحرب على غزة لتمهيد الطريق أمام سلام عادل”، ليسجل البرلمان التركي بذلك موقفا واضحا للمرة الأولى من القضية الفلسطينية بإجماع نواب الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة.
مع بداية نوفمبر 2023، أنخرط “أردوغان” في الجهود الدبلوماسية العربية والإقليمية والدولية لحل الأزمة والدعوة لوقف إطلاق النار وكثف اتصالاته بنظرائه في مصر وروسيا والإمارات، كما شارك بفعاليات “القمة العربية الإسلامية” الاستثنائية بالعاصمة السعودية الرياض في 11 نوفمبر 2023، لبحث تطورات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ثم انضم وزير الخارجية التركي “هاكان فيدان” لمجموعة الاتصال التي شكلتها قمة الرياض العربية – الإسلامية عقب القمة، والتي بدورها قامت بزيارة بعض العواصم الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية وكندا، لطرح حقيقة الموقف في قطاع غزة، وحث المجتمع الدولي لممارسة الضغط على تل أبيب لوقف الحرب.
كما أعلن “أردوغان” عن إعفاء الطلاب الفلسطينيين من غزة من رسوم الجامعات الحكومية في تركيا، وقام بزيارة المرضى الفلسطينيين القادمين من غزة والمتواجدين بمستشفى “بيلكنت” بأنقرة، بعد نقلهم من قطاع غزة عبر مصر على متن الإسعاف الطائر، ثم طرح مبادرة لحل الأزمة عبر خلالها عن استعداد بلاده لتولي المسؤولية في الهيكل الأمني الجديد الذي سيتم إنشاؤه بعد انتهاء الحرب بغزة، وبنهاية الشهر رحّب بتبادل المحتجزين بين إسرائيل وحركة “حماس” وبالهدنة في غزة باعتبارها “وقفاً لإراقة الدماء” بصورة مؤقتة، معتبراً أن “نتنياهو” سيُذكر في التاريخ على أنه “جزار غزة”، كما استقبل “إردوغان” رئيس الوزراء اللبناني “نجيب ميقاتي” في إسطنبول، ودعا “لهدنة مستدامة في غزة، وأكد أن أكثر الدول تأثراً بحرب غزة هي لبنان”، ويهدف من ذلك لتعزيز دوره الإقليمي والقيام بدور في التسويات اللبنانية الخاصة بانتخاب رئيس جديد للبلاد، لاسيما بعد تصاعد النفوذ التركي بشمال لبنان لاسيما في مدينة طرابلس الشمالية ذات الأغلبية السنية.
وقد شهد ديسمبر 2023 تصعيدا متواصلا في الموقف التركي من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، حيث دعا “إردوغان” لمحاكمة “نتنياهو” ومسؤولي حكومته أمام المحكمة الجنائية الدولية على المجازر التي ارتكبوها في غزة، وكشف عن وجود نحو 3 آلاف محامٍ تركي رفعوا دعاوى قضائية أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد “نتنياهو” وغيره من السياسيين الإسرائيليين، واتهم “إردوغان” إسرائيل بأنها “تضيّع فرص السلام” ولا تركز على “حل الدولتين”، وجدد وصفه لحركة “حماس” بأنها “ليست منظمة إرهابية” ولا يمكن استبعادها من أي حل محتمل للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، كما أهتمت أنقرة بتفاقم الأحداث في الضفة الغربية وأصدرت وزارة الخارجية التركية بيانا في منتصف ديسمبر 2023 للتنديد “بالاستفزازات” التي قامت بها قوات إسرائيلية خلال مداهمات لمخيم للاجئين بمدينة جنين بالضفة الغربية، والمواجهات بين المستوطنين والضغط الكثيف والهجمات التي تشنها قوات الأمن الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، مما أدى لمقتل عشرات المواطنين نتيجة المواجهات مع القوات الإسرائيلية.
واختتم الشهر بتلاسن حاد مع “نتنياهو” ووصفه بأن ما يفعله “أفظع بكثير مما فعله هتلر”، بدوره رد “نتنياهو” عليه بمنشور على (منصة التواصل الاجتماعي X) وصف فيه “أردوغان” بأنه “صاحب الرقم القياسي العالمي في إرتكاب إبادة جماعية بحق الأكراد وسجن الصحفيين المعارضون وآخر شخص يمكن أن يعظ إسرائيل بالأخلاق”، ثم أصدرت الرئاسة التركية بيانا تؤكد فيه ان تلك الاتهامات “لصرف الانتباه عن جرائم الحرب التي يرتكبها في قطاع غزة”.
كما كان للمعارضة التركية مواقف مشابه “لأردوغان” على مختلف انتماءاتها السياسية، حيث أدانت بالإجماع الحرب الإسرائيلية على القطاع بل وزايدت أحيانا على مواقف “أردوغان” من الحرب، وهذا سيؤدي لتعزيز شعبية “أردوغان” قبل الانتخابات المحلية المقبلة المقررة في مارس 2024 لأنه سيوظف ذلك لحشد الأصوات له ورفع شعبيته في ظل تراجع شعبية المعارضة وتحالف “الأمة”(مكون من ست أحزاب معارضة هي الشعب الجمهوري، السعادة، الخير، الديمقراطية والتقدم، المستقبل، الديمقراطي).
وكان من أبرز مواقف الأحزاب المعارضة موقف رئيس حزب الشعب الجمهوري “أوزجور أوزال”، الذي أكد إن “القضية الفلسطينية لا تزال في بؤرة اهتمام حزب الشعب الجمهوري، كما كان الوضع قبل نحو 50 عامًا، وانتقد الهجمات الإسرائيلية في غزة لأنها غير مقبولة”، وبنهاية ديسمبر 2023 دعا “أردوغان” لمرافقته إلى غزة لدعم القضية الفلسطينية ولفت انتباه العالم إليها، بدورها أدانت رئيسة حزب “الخير” “ميرال أكشنار”، القصف الإسرائيلي الذي استهدف مستشفى “المعمداني” بأكتوبر الماضي في قطاع غزة وخلف 800 شهيد، ووصفت “نتنياهو” “بهتلر القرن الحادي والعشرين”، ليشهد ذلك الاتفاق للمرة الأولى بينها وبين الرئيس “أردوغان” حيث يعرف عنها أنها دائمة الانتقاد لسياساته في شتى المواقف الداخلية والخارجية، بينما أيد المرشح السابق للرئاسة التركية “محرم إنجه” مواقف “أردوغان” من المواجهات المندلعة بين الفلسطينيين والإسرائيليين وأثنى عليها، وانتقد رئيس الوزراء ووزير الخارجية الأسبق “أحمد داوود أوغلو” إرسال المواد الغذائية والنفط من تركيا لإسرائيل خلال استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فيما أصدر زعيم حزب “النصر التركي” “أوميت أوزداغ” المعروف بمناهضته للمهاجرين تصريحات ضد القضية الفلسطينية، بيان أكد فيه أن “القضية الفلسطينية ليست قضية إسلامية، وليست قضية الشعب التركي، ونحن في حزب النصر لا نقبل القدس عاصمة لإسرائيل.
وفي سياق متصل قدم “فاتح أربكان” رئيس حزب “الرفاه من جديد” طلب إلى البرلمان التركي بشأن تكليف القوات المسلحة التركية بالتواجد في قطاع غزة المحاصر، للعمل في الممر الأمني المزمع إنشاؤه لإيصال المساعدات الإنسانية، وذلك وفق المادة (92) من الدستور التركي ودعا لبقاء تلك القوات في القطاع لمدة عام، وذلك على غرار القوات التركية التي أرسلت لسوريا وليبيا من قبل، ورغم عدم مناقشة البرلمان التركي حتى الآن ذلك المقترح، إلا أنه يكتسب أهميته نظرا لكون حزب “الرفاه” عضو في الائتلاف الحاكم، وموافقة بعض الأحزاب عليه ومنهم حزب الحركة القومية بزعامة “دولت بهجلي”، وحزب المستقبل برئاسة “أحمد داود أوغلو”.
2-التعاطف مع “إغتيال هنية”:
أعلن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” يوم الجمعة 2 أغسطس 2024 يوم حداد وطني بعد إغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” “إسماعيل هنية”، الذي قتل في استهداف للمبنى الذي كان يقيم به في العاصمة الإيرانية طهران حيث كان يحضر مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد “مسعود بزشكيان”، ورغم عدم إعلان إسرائيل رسمياً المسؤولية عن مقتله إلا أنها المتهم الأول والأخير به، وقد أدانت تركيا حادثة الإغتيال وكتب “أردوغان” على موقع “أكس” “رحم الله أخي إسماعيل هنية، الذي استُشهد على أثر هذا الهجوم الشنيع لأنه همجية صهيونية، هذا العمل المُشين يهدف إلى تخريب القضية الفلسطينية ومقاومة غزة المجيدة وكفاح إخواننا الفلسطينيين العادل وترهيبهم”، وأجرى “أردوغان” اتصال هاتفي بزوجة “هنية” لتعزيتها، وقد نظمت مظاهرات في إسطنبول للتنديد بحادثة الإغتيال.
كما أرسلت أنقرة وفد رفيع المستوى إلى الدوحة، للمشاركة في تشييع جنازة “هنية” برئاسة رئيس البرلمان “نعمان كورتولموش”، وضم نائب رئيس الجمهورية “جودت يلماظ” ووزير الخارجية “حقان فيدان” ورئيس المخابرات “إبراهيم كالن”، كما شارك في تشييع الجنازة عدد من رؤساء الأحزاب التركية منهم رئيس الوزراء الأسبق رئيس حزب “المستقبل” “أحمد داود أوغلو”، ورئيس حزب “الرفاه من جديد” “فاتح أربكان”، ورئيس حزب “هدى بار” “زكريا يايجي”.
ولم يلق هذا التعاطف التركي الترحيب من كافة الأطراف الداخلية والخارجية،حيث انتقدت إسرائيل تنكيس علم تركيا على مقر سفارتها في إسرائيل، مما أدى لتصاعد التوتر بين أنقرة وتل أبيب، واستدعت وزارة الخارجية الإسرائيلية القائم بأعمال السفير التركي “لتوبيخه” على هذا القرار، كما انتقدت بعض أحزاب المعارضة التركية إعلان “أردوغان” حالة الحداد الوطني على “هنية” وكان رده عليهم أنه “لن ينتظر إذن المعارضة لإعلان الحداد على هنية”، كما حظرت تركيا تطبيق “إنستجرام” بعد حذفه منشورات النعي “لهنية”، هذا بينما نفت أنقرة إدعاءات وزير الخارجية الإسرائيلي “يسرائيل كاتس” في 17 أغسطس 2024 بوقوع خلافات بين “إردوغان” وبين أبناء “هنية” بسبب رفض الرئيس التركي تسليمهم مبلغ 3 مليار دولار مودعة بحسابات “هنية” في بنوك تركيا، وأكدت أن تلك الادعاءات لا أساس لها من الصحة، وأوضحت أن “أردوغان” ألتقى نجلي “هنية” (عبد السلام وهمام) وقدم لهما العزاء فقط.
3- إلقاء “أبومازن” كلمة بالبرلمان التركي:
استقبل الرئيس التركي “رجب طيب إردوغان” يوم 14 أغسطس 2024 نظيره الفلسطيني “محمود عباس – أبومازن”، وبحث معه تطورات الأوضاع في الأراضي الفلسطينية في ظل التصعيد الإسرائيلي المستمر في قطاع غزة ومخاطر ذلك على المنطقة ككل، وأكد “إردوغان” “أن تركيا ستقف ضد مساعي إسرائيل لإشعال النار في المنطقة برمتها، وأنها تركيا ستواصل موقفها البناء والنشط والمتزن في سياساتها الخارجية”، وشدد على أن إسرائيل ستحاسب على الإبادة الجماعية في غزة أمام القانون”، غداة ذلك ألقى “ابومازن” خطابه أمام البرلمان التركي في جلسة إستثنائية، حضرها “أردوغان” وارتدى جميع الحضور (الوفد الفلسطيني والرئيس التركي وأعضاء البرلمان ورئيسه) الكوفية الفلسطينية مزينة بالعلمين التركي والفلسطيني تعبيرا عن التضامن مع قطاع غزة، وذلك بناء على دعوة من رئيس البرلمان التركي “نعمان كورتولموش”، الذي دعا “أبو مازن” لالقاء كلمة أمام البرلمان تعبيرا من الدعم التركي عن دعمه القوي للشعب الفلسطيني وقضيته ولضمان إيصال صوت الشعب الفلسطيني المظلوم إلى العالم.
وقد طالب “أبو مازن” في كلمته أمام البرلمان التركي “المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل لوقف الإبادة الجماعية التي تقوم بها في غزة والضفة الغربية والقدس وإلزامها بوقف إطلاق النار والإنسحاب من غزة على الفور، وإيصال المساعدات الإنسانية من دون عوائق”، وأكد “عباس” رفضه لفصل القطاع عن الضفة الغريبة بقوله “لا دولة في غزة ولا دولة فلسطينية من دون غزة”، كما أعلن عن عزمه التوجه مع جميع أعضاء القيادة الفلسطينية إلى قطاع غزة، ودعا قادة الدول العربية والإسلامية والأمين العام للأمم المتحدة للإنضمام إليه من أجل تحقيق السلام والاستقرار، وثمن “عباس” اعتراف الدول الأوروبية بدأت تعترف بدولة فلسطين، ثم توجه “عباس” بالتحية إلى أنقرة لإنضمامها إلى الدعوى التي أقامتها جنوب أفريقيا ضد الإبادة الجماعية في قطاع غزة أمام المحكمة الدولية، وقرار وقف التجارة مع إسرائيل دعماً للشعب الفلسطيني، وذلك بقوله “نثمن عالياً دور تركيا حكومةً وشعباً بقيادة الرئيس رجب طيب إردوغان في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني”، كما أشاد بمواقف مصر والأردن الرافضة لخطط إسرائيل لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، وتقديمهما الدعم للقضية الفلسطينية في مختلف المحافل.
هذا بينما أعلن في 20 أغسطس الحالي رئيس حزب “الشعب الجمهوري” أكبر أحزاب المعارضة التركية ويمثل ثاني كتلة تصويتية بالبرلمان التركي بعد الحزب الحاكم، “أوزغور أوزيل”، أنه سيزور فلسطين في مطلع سبتمبر 2024 تلبية لدعوة من الرئيس “محمود عباس – أبو مازن”، وتعبيراً عن الدعم للشعب الفلسطيني في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، وأكد “لعباس” أن حزب “الشعب الجمهوري” يؤيد حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، ويدعم حل الدولتين، لم يحدد هل سيزور الضفة الغربية ام قطاع غزة ، وحذر أوزيل” من توسيع الحرب لتصبح حرب إقليمية لأن هذا يعني أزمة “لاجئين جديدة” لتركيا.
ثانيا: واقع ومستقبل العلاقات التركية الإسرائيلية:
كانت تركيا هي أول دولة ذات أغلبية إسلامية اعترفت بقيام إسرائيل في 28 مارس 1949، وأرسلت أول بعثة دبلوماسية لها في 7 يناير 1950، ثم تطور التعاون بينهم في شتى المجالات وكان أبرزها المجال العسكري لاسيما بعد انضمام أنقرة لحلف شمال الأطلسي “الناتو” حيث اعتبرت واشنطن أن تركيا وإسرائيل نموذجان للديمقراطية الغربية وحلفائها العسكريين بالشرق الأوسط، وقد ارتبطت الأزمات بين أنقرة وتل أبيب بالموقف الإسرائيلي من القضية الفلسطينية، والذي بلغ ذروته عام 2010، حيث تم قطع العلاقات بينهم بعد الاعتداء الإسرائيلي على سفينة “مافي مرمرة” التركية، ويمكن رصد أبرز محطات العلاقات التركية الإسرائيلية خلال العقدين الماضيين كما يلي..
1-محطات العلاقات التركية الإسرائيلية:
-حرص على العلاقات الاستراتيجية: بعد تولى حزب “العدالة والتنمية” الحكم في تركيا عام 2002 ورغم كونه ذو خلفية إسلامية محافظة، إلا أنه استمر في تطوير العلاقات التركية الإسرائيلية ولم يتخذ ضدها أي موقف عدائي آنذاك، وقد قام رئيس الوزراء “رجب طيب أردوغان” بزيارة هامة لتل أبيب عام 2005، ودعا لحل القضية الفلسطينية ونشر السلام بالشرق الأوسط، وفي عام 2010 قام وزير الدفاع الإسرائيلى “إيهود باراك” بزيارة لأنقرة شهدت التوقيع على 60 اتفاقية تعاون أمنى وعسكرى سارية بين الدولتين.
– قطع العلاقات بعد حادثة “مافي مرمرة”: شاركت السفينة التركية “مافي مرمرة” في أسطول الحرية في 31 مايو 2010، الذي توجه لقطاع غزة لكسر الحصار عليه بيد أن قوة بحرية إسرائيلية هاجمت السفينة وأسفر ذلك عن مقتل 9 نشطاء سلام أتراك، ثم قطعت أنقرة علاقاتها مع تل أبيب وسحبت سفيرها منها وكانت تلك أكبر أزمة في العلاقات بين الدولتين، ورهن “أردوغان” إعادة العلاقات بتقديم اعتذار إسرائيلي ومحاسبة المتورطين بالهجوم وتعويض الضحايا، وهو ما تم في مارس 2013 وبوساطة أمريكية خلال محادثة هاتفية من رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” “لأردوغان”.
-استمرار التوتر بالعلاقات: بدأت الاجتماعات بين أنقرة وتل أبيب لبحث إعادة العلاقات مرة آخرى عام 2016، وفي ديسمبر 2017 هدد “أردوغان” بقطع العلاقات مرة أخرى بسبب اعتراف الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” بالقدس عاصمة لإسرائيل، ثم تبادلت أنقرة وتل أبيب سحب السفراء عام 2018 بطلب تركي بعد احتجاج أنقرة على الاستخدام غير المتناسب للقوة من قبل إسرائيل في غزة،
– بدء تحسن العلاقات: خلال عامي (2019-2021) مرت تركيا بمرحلة من “العزلة الإقليمية” حيث توترت علاقاتها الخارجية مع كافة شركائها في الدول العربية والأوروبية منهم (مصر، السعودية، الامارات، اليونان، الاتحاد الأوروبي، اسرائيل)، وهذا دفع “أردوغان” لتعديل مسارات سياسته الخارجية عبر الإعلان عن رغبته في مصالحة تلك الدول لأنه لا توجد مشكلات جوهرية بينهم، وقد كان وبدأ المصالحات الإقليمية التركية من البوابة الإماراتية ثم السعودية والإسرائيلية ثم حدث التقارب المصري التركي، وكان دافع “أردوغان” في ذلك معالجة الاقتصاد التركي الذي عاني من أزمة تراجع الصادرات ومعدلات السياحة، وضرورة الانخراط في الترتيبات الإقليمية الأمنية والاقتصادية الخاصة بمنطقة شرق المتوسط بعد اكتشاف احتياطيات غاز ضخمة بها، ورفع شعبيته في الداخل التركي قبل الانتخابات الرئاسية عام 2023.
– تعزيز التعاون التركي الإسرائيلي: شهد عامي (2022 – 2023) تقارب تركي إسرائيلي على كافة المستويات، فقد قام الرئيس الإسرائيلي “إسحاق هرتسوغ” بزيارة أنقرة عام 2022 وبحث تعين سفراء جدد بأنقرة وتل أبيب، ثم زار وزير الخارجية التركي “مولود تشاووش أوغلو” ووزير الطاقة “فاتح دونماز لإسرائيل لبحث التعاون الاستراتيجي في مجال الطاقة وكانت هذه الزيارة الأولى من نوعها منذ 15 عام سادها الفتور بالعلاقات بين أنقرة وتل أبيب، ثم تم تبادل السفراء في أغسطس 2022، وفي فبراير 2023 قدمت إسرائيل مساعدات اغاثية لتركيا بعد زلزال كهرمان مرعي فبراير 2023 وارسلت وفد إغاثي من (140 شخصاً) للمساعدة، كما قام وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك “إيلي كوهين” بزيارة تركيا، وقد أدى ذلك للتقارب بين أنقرة وتل أبيب فيما عرف “بدبلوماسية الزلزال” أو “دبلوماسية الإغاثة”، وبعد إعلان نتائج الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التركية في 28 مايو 2023، اتصل كلٌّ من “هرتسوغ” و”نتنياهو” لتهنئة “أردوغان” والتأكيد على رغبتهم في تطوير العلاقات بين البلدين”.
وقد اختتم ذلك التقارب بعقد لقاء بين “أردوغان” و”نتنياهو” في مبنى “البيت التركي” بوسط مدينة نيويورك الامريكية في 20 سبتمبر 2023 على هامش اجتماعات الدورة الـ 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة، وأكد “أردوغان” حينها إنه “يتعين علينا جميعاً العمل معاً من أجل عالم يسود فيه السلام”، وأعلن نيته إجراء زيارة لإسرائيل لتوطيد العلاقات بينهم.
2-مؤشرات التوتر التركي الإسرائيلي:
المتابع لتطور العلاقات التركية الإسرائيلية خلال العقدين الماضيين سيجد أن القضية الفلسطينية أصبح أحد المتغيرات الحاكمة لها، حيث رهنت أنقرة أكثر من مرة تطور علاقاتها مع تل أبيب بناء على موقف الأخيرة من القضية الفلسطينية، ورغم الاقتناع بأن السياسة الخارجية التركية هي “براجماتية” ويرغب “أردوغان” من إظهار تعاطفه ودعمه للقضية الفلسطينية في حشد المزيد من الشعبية له داخليا وتعزز مكانته الإقليمية إلا أنه على المدى القصير والمتوسط ربما تتضرر العلاقات التركية الإسرائيلية حال استمر التوتر الحالي بينهم أو تصاعد بناء على التطورات الفلسطينية والإقليمية، لأنه حال أقدمت إسرائيل على شن حرب شاملة على لبنان سيكون الدعم التركي لها موجودا أيضا، ومن بين مؤشرات تصاعد التوتر التركي الإسرائيلي ما يلي:
-وقف التبادل التجاري مع إسرائيل: في يناير 2024، استبعدت تركيا إسرائيل من قائمة الدول التي يتم التصدير إليها، وتمثل الواردات التركية لتل أبيب 5.2٪ من إجمالي وارداتها كما توفر مجموعة “زورلو” التركية (7% ) من الكهرباء لإسرائيل، وفي 9 أبريل 2024 أعلنت وزارة التجارية التركية وقف تصدير 54 منتجاً إلى إسرائيل حتى إعلان وقف إطلاق النار بغزة، وتعهدت إسرائيل باتخاذ تدابير ضد تركيا متهمة إياها بانتهاك الاتفاقيات التجارية بين البلدين، وتشمل الصادرات منتجات الألومنيوم والصلب ومنتجات البناء ووقود الطائرات والأسمدة الكيماوية، جدير بالذكر أن الصادرات التركية إلى إسرائيل عام 2023 بلغت (5.4) مليارات دولار وعام 2022 وصل التبادل التجاري بينهم (8 ) مليارا دولار وسجل عدد السائحين الإسرائيليين لتركيا (800 ألف) سائح.
– تعليق التعاون العسكري “بالناتو”: أوضح “إردوغان” خلال مشاركته في القمة الـ 75 بواشنطن في يوليو الماضي، إنه “لا يمكن استمرار علاقة الشراكة بين الناتو والإدارة الإسرائيلية التي تنتهك القيم الأساسية لتحالفنا، لأن حكومة نتنياهو بسياساتها التوسعية والمتهورة لا تعرض فقط أمن مواطنيها للخطر بل تعرض أمن المنطقة بأسرها للخطر”، وفي مطلع أغسطس 2024 أعلنت مصادر تركية أن “الناتو” لا ينبغي أن يتعاون مع إسرائيل كشريك حتى تنتهي الحرب”، وتتمتع إسرائيل بوضع شريك للحلف وتحضر الاجتماعات والتدريبات المشتركة والمناورات العسكرية معه بصفة سنوية، وهو ما سيؤدي حال استمرت الحرب بقطاع غزة إلى تعليق التعاون العسكري التركي الإسرائيلي وتعليق التعاون بين الأخيرة وحلف “الناتو”.
جدير بالذكر، أنه في مارس 2024 نفت تركيا وجود أي تعاون عسكري مع إسرائيل سواء في مجال التسليح أو التدريب أو الصناعات الدفاعية في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وهذا رغم أن تقرير معهد الإحصاء التركي حول صادرات تركيا للعالم عام 2023 أثبت أن أنقرة صدرت لتل أبيب مواد عسكرية تتضمن (بارود ومواد متفجرة وقطع غيار أسلحة) ومواد كيماوية مختلفة بنحو 1.5 مليون دولار، وعلقت وزارة التجارة التركية على التقرير بأنه كان يتضمن “ألعاب نارية” ومعدات ومواد الصيد، وليس أسلحة، كما رصد موقع “مارين ترافيك” الخاص بحركة السفن في العالم توجه (253) سفينة شحن تركية إلى الموانئ الإسرائيلية منذ إندلاع الحرب في غزة في 7 أكتوبر 2023.
– تصاعد التلاسن بين “كاتس” و”أردوغان”: انتقد وزير الخارجية الإسرائيلي “يسرائيل كاتس” في 2 أغسطس 2024 الرئيس التركي “أردوغان” وموقفه من إغتيال “هنية”، وكتب على موقع “إكس” “أن أردوغان” يحول تركيا إلى ديكتاتورية فقط بسبب دعمه لـحماس، وهو ما يتعارض مع موقف العالم الحر بأكمله، إردوغان يحجب منصة (إنستغرام)، التي لديها 57 مليون مستخدم في تركيا، ويقطع البث الرياضي لأن رياضياً إسرائيلياً هزم رياضياً تركياً في أولمبياد باريس، ويهدد بغزو دولة ديمقراطية هي إسرائيل ليس لتركيا معها صراع عسكري، وقطع العلاقات التجارية، ما يضر بالمصدرين الأتراك بقيمة 6 مليارات دولار سنوياً إردوغان يأخذ دولة تركية تتمتع بقدرات علمية وثقافية وتكنولوجية واقتصادية ويدمرها، ما يؤدي إلى تآكل إرث أتاتورك، الذي بنى تركيا تقدمية ومزدهرة”، وهو ما انتقده وزير الخارجية التركي حقان فيدان” تصريحات نظيره الإسرائيلي بقوله “كاتس، بدل أن يمارس مهامه وزيراً للخارجية، يجعل بلدنا ورئيسنا باستمرار موضوعاً لأوهامه الخاصة هذا مرض”، وسبق “لأردوغان” أن وصف “نتنياهو” بأنه “سفاح” و”قاتل”، و”هتلر العصر المهووس بدماء الفلسطينيين”.
-الانضمام لدعوى محكمة العدل الدولية: أعلنت أنقرة في 7 أغسطس 2024 عن توجه وفد برلماني تركي برفقة السفير التركي في هولندا “لإعلان تدخل” بمقر محكمة العدل الدولية في لاهاي، وأكدت أنقرة أن القضية المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية مهمة للغاية لضمان عدم بقاء الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل دون عقاب، وهي الشكوى التي قدمتها جنوب أفريقيا في نهاية ديسمبر 2023 للمحكمة، حيث تقدّمت بشكوى تتّهم فيها إسرائيل بانتهاك اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية المبرمة عام 1948 في هجومها على غزة، وهو ما تنفيه إسرائيل، جدير بالذكر أن (كولومبيا، ليبيا، إسبانيا، المكسيك، نيكاراغوا) قد أنضموا للقضية، وكانت المحكمة قد أصدرت حكمها في 26 يناير 2024 الذي يدعو إسرائيل لبذل كل ما في وسعها لمنع أعمال الإبادة الجماعية أثناء عمليتها العسكرية في غزة.
-الدعوة لتولى المعارضة الحكم بتركيا: أشار “كاتس” في أحد تغريداته على موقع “أكس” إلى أن “رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو يمثل الأمل في أيام أفضل لبلاده”، مما يشير إلى رغبة إسرائيلية في إنهاء حكم “أردوغان” بتركيا وتولى المعارضة بدلا منه، وهو ما دفع ” “إمام أوغلو” للرد على “كاتس” عبر موقع “أكس” أيضا بتغريدة مماثلة كتب فيها “لماذا أدرجني وزير الخارجية الإسرائيلي في تصريح أدلى به؟ لم أستطع أن أفهم هذا، أنا هنا رئيساً لبلدية إسطنبول منذ 5 سنوات ونصف ولم يأتوا حتى لتهنئتي، لن نتعلم الديمقراطية والقانون من شخص تلطخت يداه بدماء عشرات الآلاف من الأطفال، كل شيء سيكون على ما يرام عندما تتحرر فلسطين”، وقد قوبل رد “إمام أوغلو” على “كاتس” بترحيب كبير داخل حزب الحزب الجمهروي المعارض المنتمي إليه لأنه جنب الحزب “حربا كلامية” مع الحزب الحاكم “العدالة والتنمية” حول القضية الفلسطينية.
– إلغاء التوأمة بين المدن: أعلنت كافة البلديات التركية التي كانت قد عقدت اتفاقات توأمة مع نظيرتها في إسرائيل عن إلغاء تلك الإتفاقيات ومنها بلديات (أضنة الكبرى، أنطاليا الكبرى، كاديكوي، أزمير الكبرى، أدرنة)، مما يعبر عن إرتفاع حدة الغضب الشعبي ضد إسرائيل في الشارع التركي بمختلف انتماءاته السياسية والفكرية والأيديولوجية، لاسيما في ظل تصاعد التيارات الإسلامية والمحافظة والقومية في تركيا، وسوف ينعكس ذلك على مجمل التفاعلات البينية حتى بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
– تلويح تركيا بالتدخل العسكري بغزة: عقد “إردوغان” اجتماع مع أعضاء حزبه “العدالة والتنمية” بمدينة ريزا على البحر الأسود، في 28 يوليو الماضي، أشار فيه للحرب الإسرائيلية على غزة بقوله “كما دخلنا قرهَ باخ بأذربيجان وكما دخلنَا ليبيا قد نفعلُ الشيءَ نفسَه معهم، لا يوجدُ شيءٌ لا نستطيعُ فعلَه”، في إشارة الى إمكانية تدخله عسكريا لدعم حركة “حماس” الفلسطينية في مواجهتها لإسرائيل بقطاع غزة، وهو ما دفع زعيمُ المعارضةِ بإسرائيلَ “يائير لابيد” للرد عليه بقوله “إن إسرائيلَ لن تقبلَ تهديداتٍ من ديكتاتورٍ، ويتعينُ على العالمِ، خاصةً أعضاءَ حلفِ الناتو أن يُدينوا بشدةٍ تهديداتهِ الشنيعةَ ضد إسرائيلَ، وإجبارَه على إنهاءِ دعمهِ لحماس، أردوغان يصرخُ ويَهذي مرةً أخرىَ، إنه خطرٌ على الشرقِ الأوسطِ”، كما حذر “كاتس” “أردوغان” من “تلقى مصير الرئيس العراقي الراحل صدام حسين” (تم الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 واعتقل صدام بنهايته العام وتمت محاكمته ثم إعدامه في ديسمبر 2006)، إلى جانب ردود فعل خارجية طالبت بإخراج تركيا من حلف شمال الأطلسي “الناتو”، واستمرت المواجهة الكلامية بين أنقرة وتل أبيب حيث طالب رئيس دائرة الاتصال بالرئاسة التركية “فخر الدين ألطون” إسرائيل “بوقف الإبادة الجماعية بقطاع غزة، والقبول بدولة فلسطينية” وأوضح أن “الذين يتجرأون على إطلاق التهديدات ضد الرئيس إردوغان، عليهم أن يتحملوا مسؤولية ما سيحلّ بهم”.
ورغم هذا نرى أنه من المستبعد إرسال تركيا قوات مسلحة لقطاع غزة كما حدث في ليبيا وأذربيجان، بيد أنها ترغب في المشاركة بعمليات إعادة إعمار القطاع بعد انتهاء الحرب، كما ترغب في القيام بدور أمني في الترتيبات الأمنية التي ستتم بالقطاع بعد وقف الحرب، مما يوسع دائرة التواجد العسكري التركي في الدول العربية التي تشمل (ليبيا، سوريا، العراق، قطر، الصومال) كما أنه سيؤدي لتداعيات على الأمن القومي العربي لاسيما الأمن القومي المصري وربما تتم توافقات أمنية مصرية تركية بهذا الشأن بعد وقف اطلاق النار، كما يمكن لتركيا تقديم مختلف أشكال الدعم اللوجيستي لعناصر حركة “حماس” الفلسطينية والذين يتواجد عشرات منهم في تركيا للعلاج أو الإقامة، وهو ما سيؤدي لاستمرار التوتر بين أنقرة وتل أبيب التي حذرت من قبل بإستهداف قادة وعناصر “حماس” وإغتيالهم في أي دولة يقيمون بها مما يعرض الأمن القومي التركي للإختراق من قبل الموساد الإسرائيلي، كما أنه سيؤدي لتصاعد التوتر بين الدولتين حال تم إغتيال عناصر “حماس” بتركيا، ولعل إغتيال رجل أعمال فلسطيني مؤخرا بإسطنبول هو “تمهيد” لذلك، كما يمكن لتل أبيب الرد على أنقرة إقليميا عبر توجيه دعم لعناصر حزب “العمال الكردستاني” الكردي المتواجد بالمثلث الحدودي التركي السوري العراقي، وتصنفه أنقرة كتنظيم إرهابي لتوجيه ضربات للعمق التركي، وهو أمر محتمل في ظل التعاون التاريخي بين الكردستاني وتل أبيب.
3- مستقبل التعاون بين أنقرة وتل أبيب:
أصبح واضحا حدوث أزمة متصاعدة في العلاقات التركية الإسرائيلية والتي سترتبط طرديا بمتغير هام وهو الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة فحال تم وقف اطلاق النار والتوصل لهدنة طويلة فثمة احتمالات لتهدئة تلك الأزمة والعكس صحيح، وهو ما ينسحب على الاشتباكات الحدودية بين “حزب الله” اللبناني وإسرائيل أيضا، حيث إنه من المنتظر أن تتخذ تركيا نفس الموقف الداعم للحزب ولبنان حال شنت تل أبيب حرب شاملة ضدها، ولعل الموقف الإسرائيلي من القضية الفلسطينية هو المتغير الحاكم حاليا لمستقبل العلاقات التركية الإسرائيلية، والتي سيتأثر بها عدد من الملفات ستشتهد تعاون أو تنافس بين أنقرة وتل أبيب أبرزها:
– تحول طبيعة العلاقات بين أنقرة وتل أبيب: صنفت شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية “أمان” عام 2020 تركيا لأول مرة في التاريخ ضمن قائمة الدول الخطرة المهددة لأمن إسرائيل واستبعد التقرير حدوث مواجهة عسكرية مباشرة مع تركيا، ورغم التقارب بين الدولتين وتبادل السفراء الذي تم بعد ذلك إلا أن هذا التصنيف لم يلغ أو يعلن التراجع عنه، وهو ما يشير الى تغير طبيعة العلاقة بين تركيا وإسرائيل التي كانت توصف في القرن الماضي بأنها “تحالف استراتيجي” الي “تعاون الضرورة” في بعض الملفات العسكرية بفعل الضغط الأمريكي الأطلسي، وللاستفادة من المصالح التجارية المتبادلة، وهو ما سينعكس حال تم الإقرار بتغير طبيعة العلاقة بينهم على مجمل الترتيبات السياسية والأمنية بالشرق الأوسط التي ستشهد واقعا جديدا بعد إنتهاء الحرب بقطاع غزة.
– جدل استمرار التعاون التجاري: حال استمرار الأزمة بين تركيا وإسرائيل فإن حجم التبادل التجاري بينهم سوف يتراجع لاسيما حال تمسكت أنقرة بتنفيذ قرارها بوقف تصدير السلع لتل أبيب، وهو ما سيؤثر سلبا على الاقتصاد التركي والإسرائيلي لاسيما وأن حجم التجارة بينهم بلغت عام 2023 نحو ( 6.8 مليار دولار)، وهذا ينطبق أيضا على أعداد السائحين الاسرائيلين لتركيا الذي شهد تراجع في الأشهر الأخيرة.
– التعاون العسكري وداخل “الناتو”: يعد التعاون العسكري التركي الإسرائيلي العمود الفقري للعلاقات بينهم، ففي فبراير 1996 في عهد حكومة “نجم الدين أربكان” ذات الطابع الإسلامي، تم التوقيع على اتفاقيات لتعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي بينهم أسفر عن اعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني “عبد الله أوجلان” عام 1999 في مطار نيروبي بكينيا والذي تصنفه أنقرة كإرهابي والعدو الأول لها ومازال معتقل حتى اليوم بجزيرة تركية نائية، وعام 2002 وقعت أنقرة وتل أبيب اتفاقية لتحديث 170 دبابة تركية بمليار دولار، وحال تمسكت أنقرة بوقف أي تعاون عسكري مع تل أبيب بشكل ثنائي فإنها ستعرض صناعتها الدفاعية لأزمة لإنها تعتمد على إجزاء إسرائيلية، حيث وثقت القوات الكردية بمحافظة السليمانية بإقليم كردستان، عملية إسقاط وحرق مسيرة تركية كانت تحتوى على أجزاء مصنوعة في إسرائيل، وهو ما يتفق مع تقارير سابقة عام 2021، تحدثت عن أن تركيا استعانت بتكنولوجيا إسرائيلية في صناعة مسيراتها، ومنها (أنظمة الاستهداف والتصوير، حاويات المقذوفات) وهذه الأجزاء تصنعها شركة (L3Harris) وهي شريك استراتيجي لشركة الصناعات الجوية الإسرائيلية.
كما أن أنقرة حال تمسكت برفض التعاون العسكري مع إسرائيل في إطار حلف “الناتو” فإنها ستفاقم الخلافات بينها وبين واشنطن التي ستضغط عليها لتعدل عن ذلك، كما ضغطت عليها لتوافق على انضمام السويد وفنلندا للحلف عام 2023 بعد اعلان رفضها لذلك، كما أن الحلف لن يسمح لتوتر العلاقات بين أحد أعضاءه وإسرائيل.
-تصاعد الخلاف حول ترسيم الحدود شرق المتوسط: تعد تركيا وإسرائيل أحد أقطاب بمنطقة شرق المتوسط الغنية بالغاز الطبيعي، ولم تقم أنقرة بترسيم الحدود مع دول المنطقة حتى اليوم، ولذا فإن خلافها مع تل أبيب سيؤدي لتشكيل محور (إسرائيلي، يوناني، قبرصي) ضد أنقرة، وسيؤثر على التواجد العسكري والاقتصادي التركي بتلك المنطقة، وهو ما سيعرقل خطط أنقرة بالتنقيب عن الغاز الطبيعي أمام سواحلها أو أمام سواحل قبرص الشمالية بشرق المتوسط.
-التنافس بمسارات السياسة الخارجية: برز خلال العقد الأخير تنافس بمسارات السياسة الخارجية بين أنقرة وتل أبيب، حلو عدد من الملفات التي تسعى كلا منهم لتعزيز نفوذها بها ومنها منطقة آسيا الوسطى والبلقان، وآذربيجان التي قدمت لها أنقرة وتل أبيب دعما عسكريا خلال حربها الأخيرة ضد آرمينيا أسفر عن إنتصارها وإستعادة إقليم كاراباخ المتنازع عليه، وكذلك تتواجد تركيا وإسرائيل عسكريا وسياسيا في شرق وغرب أفريقيا، كما تراقب تل أبيب عن كثب التحركات العسكرية التركية بشمال سوريا والعراق اللذان تعدهما امتداد لأمنها الإقليمي.
مما سبق نستخلص أن استمرار توتر العلاقات التركية الإسرائيلية متأثرة بالمتغير الفلسطيني، سيؤدي لتراجع التعاون الاقتصادي والعسكري بينهم على الصعيد الثنائي بالمدى القصير، وتصاعد التنافس بينهم في عدد من ملفات السياسة الخارجية المعنية لكلا منهم، كما يؤشر لإحتمالية توتر بالعلاقات بين أنقرة وواشنطن المنحازة باستمرار لإسرائيل، بينما لو تم تطبيق سيناريو التهدئة ووقف الحرب بغزة ومنع نشوب حرب إقليمية أوسع تضم “حزب الله” اللبناني، فان أنقرة وتل أبيب سيفضلان إحتواء التوتر الحالي بينهم لأنه لا يمس الأمن القومي لأيا منهم كما أن “أردوغان” حقق هدفه من توظيف دعمه للقضية الفلسطينية في رفع شعبيته بالداخل التركي، إلا إذا رأت أنقرة أو تل أبيب ضرورة مراجعة طبيعية العلاقات بينهم وإمكانية تحولها من التحالف الاستراتيجي إلى التعاون بفعل التغييرات الأيديولوجية الداخلية بكل دولة وصعود التيارات اليمينية القومية التي تناصب العداء للآخرى، فضلا عن التنافس لتعزيز النفوذ الإقليمي وفق الترتيبات الأمنية والجيوسياسية الجديدة بعد إنتهاء الحرب بقطاع غزة.