القاهرة (زمان التركية) – أحيت تركيا الذكرى الثامنة للانقلاب الفاشل يوم 15 يوليو 2024، حيث قام رئيسها “رجب طيب أردوغان” بزيارة ضريح الشهداء، وأكد على أنه “لن ننسى أولئك الذين يقولون إن الانقلاب كان مسرحية حتى يوم القيامة”، وذلك لاستمرار التشكيك في الاتهامات التي وجهت لبعض عناصر المؤسسة العسكرية وحركة “كولن” بتدبير الانقلاب الفاشل عام 2016 وعدم وجود أدلة قانونية على ذلك.
وقد استغل “أردوغان” الانقلاب الفاشل منذ 8 سنوات في حشد المواطنين من كافة الانتماءات السياسية له كما عمد إلى اضطهاد وقمع خصومه بالداخل وتوسيع صلاحياته من خلال تحويل النظام الحاكم من البرلماني للرئاسي ثم نجح في كافة الاستحقاقات الانتخابية منذ ذلك الوقت، بيد أن العام الحالي كان مختلفًا عن ذلك، فقد لحقت “بأردوغان” أول هزيمة فعلية له بالانتخابات البلدية التي أجريت في مارس الماضي تزامن معها تراجع غير مسبوق في شعبيته بفعل الأزمة الاقتصادية، مما دفعه لتجديد الاتهامات لحركة “كولن” في مايو الماضي بتدبير “انقلاب جديد” دون أي أدلة ملموسة أيضًا وأسفر ذلك عن اعتقال أكثر من 700 شخص بشهرين، وكان هذا أحد أدوات “أردوغان” للسعي لرفع شعبيته وحشد المواطنين حوله مرة أخرى بعد خسارته الانتخابية كما أنه اعتمد على عدة أدوات أخرى منها التقارب مع المعارضة العلمانية التي طالما ناصبها الخصومة السياسية واضطهاد الأكراد، وهذا لتحقيق هدفه والتمهيد لإجراء تعديلات دستورية ربما تتيح له الترشح لولاية رئاسية جديدة عام 2028، بيد أن هذا سيعزز الاحتقان المجتمعي وسيكون له العديد من التداعيات السلبية على المشهد السياسي التركي الداخلي والسياسة الخارجية للبلاد.
أولًا: أدوات “أردوغان” لرفع شعبيته:
كانت نتائج الانتخابات البلدية التركية التي أجريت في 31 مارس 2024 كاشفة عن تصاعد حجم الرفض لسياسات “أردوغان” وحزبه “العدالة والتنمية” الذي حل بالمرتبة الثانية بعد حزب “الشعب الجمهوري” العلماني المعارض، وذلك بفعل الأزمة الاقتصادية وارتفاع التضخم لأكثر من 60% لأول مرة بالبلاد فضلًا عن التراجع في تقديم الخدمات العامة ورفض الحكومة للتغير واستمرار التضييق على الحريات، وهو ما ظهر جليًّا في استطلاعات الرأي التي كشفت عن تراجع شعبية “أردوغان”.
وكان منها استطلاع رأي أجرته مؤسسة (ASAL) التركية، في الفترة بين (24 – 28 ) مايو الماضي في 26 مدينة تركية كشف عن أكثر 6 سياسيين شعبية في تركيا وهم:
- “أردوغان” (20.5 %).
- ثم عمدة أنقرة عن حزب الشعب الجمهوري “منصور يافاش” (16.2 %).
- عمدة إسطنبول عن حزب الشعب الجمهوري “أكرم إمام أوغلو” (13.3 %).
- رئيس حزب الشعب الجمهوري “أوزجور أوزال” (6 %).
- الزعيم الكردي الرئيس السابق لحزب “الشعوب الديمقراطي” المعتقل “صلاح الدين دميرتاش” (4.8 %).
- رئيس حزب الحركة القومية “دولت بهجلي” (3.9 %).
ورغم تصدر “أردوغان” القائمة إلا أن نسبة تأيييده الشعبي تراجعت بعد أن كانت 35%، وكذلك حزبه الذي كشف استطلاع رأي أجرته مؤسسة (ORC) بمايو الماضي شارك به 11 ألف و600 شخص، عن تراجع شعبيته وتفوق حزب “الشعب الجمهوري” المعارض عليه لأول مرة حيث حصل على (32.9 %) مقابل (31.5%) “للعدالة والتنمية”، ثم جاء حليفه “الحركة القومية” على (11.5%)، وحزب “الديمقراطية والمساواة للشعوب” الموالى للأكراد (9.2%)، هذه المؤشرات على تراجع شعبية “أردوغان” دفعته لمراجعة سياساته والاعتماد على عدد من الأدوات لرفع شعبيته وحشد المواطنين له مرة آخرى من خلال:
– الترويج لانقلاب جديد تقوده حركة “كولن”: أعلنت أنقرة في 14 مايو 2024 اعتقال (544) شخص في 62 ولاية بتهمة الانتماء لحركة “كولن” أو “الخدمة”، في عمليات أمنية حملت اسم “المشبك 15″، وقال وزير الداخلية “على يرلي كايا” “لن نتسامح مع أعضاء منظمة كولن، عملياتنا ستستمر بتصميم، مع الجهود المتفوقة لقواتنا الأمنية، من أجل السلام والوحدة والتضامن في أمتنا الحبيبة”، وتم اعتقال 3 مدراء شرطة اتهموا بالانتماء لحركة “كولن” والإعداد لانقلاب جديد بالبلاد، غداة ذلك عقد “أردوغان” اجتماع مع رئيس جهاز الاستخبارات “إبراهيم كالن” ووزير العدل “يلماز تونش” لبحث الوضع الأمني بالبلاد، واستمرت الملاحقات الأمنية العشوائية ضد المواطنين حيث أعلن “كايا” يوم 6 يونيو 2024 عن اعتقال 72 مشتبهًا بانتمائهم إلى حركة “الخدمة”، في إطار عمليات أمنية أطلق عليها اسم (KISKAÇ 19) ضد الحركة خلال أربع أيام، في 17 ولاية هي (أنقرة، بينغول، بيتليس، أدرنة، إيلازيغ، أرضروم، غازي عنتاب، إسطنبول، إزمير، قارص، قيصري، كيرشهير، قونية، ملاطية، موغلا، ساكاريا وأوشاك)، وتعهد “كايا” “بعدم التسامح مع أعضاء الحركة” وزعم أن “المعتقلين يعملون ضمن ما يسمى الهيكل السري للشرطة، والهيكل السري العسكري للمنظمة، ويتواصلون عبر الهواتف العمومية مع الأفراد المسؤولين داخل الحركة”، وعلى مدار سبع سنوات لم تتوقف الملاحقات الأمنية لأعضاء حركة الخدمة في تركيا بذريعة تورطها في محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، وفي منتصف يوليو الحالي أعلن “كايا” اعتقال 74 شخصًا بتهمة الانتماء للحركة في 27 ولاية.
جدير بالذكر أن حركة “الخدمة” أو حركة “كولن” هي حركة مدنية أهلية نشأت في السبعينات من القرن العشرين بتركيا تستلهم أفكارها من المفكر التركي الإسلامي “فتح الله كولن” (84 عام) المقيم بولاية بنسلفانيا الأمريكية منذ عام 1999 نشطت الحركة في إنشاء المؤسسات والمراكز التعليمية المجانية وكان لها مؤسسات اقتصادية وإعلامية وكان لها أثر بالغ في الحياة الاجتماعية التركية واستمر “أردوغان” في دعم عمل الحركة خلال الفترة (2002-2012) للاستفادة من أنشطتها وشعبيتها، بيد أنه في عام 2013 حدث خلاف بين الطرفين نتيجة الكشف عن قضية “الفساد الحكومي” التي تورط فيها بعض وزراء حكومة “أردوغان” ونجله، واتهم آنذاك عناصر شرطة متعاطفين مع حركة “الخدمة” بالكشف عن القضية وبدأ العداء من قبل “أردوغان” للحركة حتى منتصف عام 2016 عندما اتهمها بتدبير الانقلاب الفاشل بالتعاون مع عناصر بالجيش، دون دلائل قانونية فكيف لشخص مثل “كولن” أن يدبر انقلابًا وهو مقيم بدولة أخرى منذ عقود، ومنذ ذلك التاريخ صادرت الحكومة التركية كافة ممتلكات الحركة التي قدرت بنحو (100) مليار ليرة وكذلك اعتقلت الكتاب والإعلاميين ورجال الأعمال الذين تعاملوا مع الحركة ومنهم رجل الأعمال التركي الألماني”عثمان كافالا” التي ترفض أنقرة الإفراج عنه رغم تبرئته، كما اعتقلت الالآف من الأشخاص بتهمة الانتماء لحركة “الخدمة” وتم فصل نصف مليون مواطن من وظائفهم دون تقديم أدلة واضحة على تورطهم أو تورط الحركة في محاولة الانقلاب، وهو ما يشير إلى أن “أردوغان” يروج لحدوث محاولة انقلاب جديدة لحشد المواطنين حوله ورفع شعبيته.
– التقارب مع حزب “الشعب الجمهوري” المعارض: عقد “أردوغان” مع رئيس حزب “الشعب الجمهوري” “أوزغور أوزيل” اجتماعين في 2 مايو و11 يونيو من العام الحالي ومن المقرر عقد لقاء ثالث بينهما بشمال قبرص، ووصفت وسائل الإعلام التركية هذه الاجتماعات بأنها عملية “تطبيع سياسي”، وقد انتقد بعض قادة وأعضاء “الشعب الجمهوري” لقاءات “أوزيل” مع “أردوغان” ووصفوه بأنه يتنازل عن مبادئ الحزب وكان أبرزهم رئيس الحزب السابق “كمال كليجدار أوغلو”، مما دفع “أوزيل” في 22 يونيو 2024 الى إصدار تصريحات معارضة لتعديل الدستور التركي الذي يروج له “أردوغان” حيث أكد “أوزيل” “لا يمكن الحديث عن دستور جديد في ظل عدم الالتزام بالدستور الحالي، وأكد أنه لا جدوى من عملية التطبيع السياسي مع من ينتهكون الدستور”، وأوضح أن هدف اللقاء مع “أردوغان” هو حل مشكلات المواطنين، ومعالجة الوضع الاقتصادي المتردي، وليس دعم من ينحرف عن القانون والأخلاق” في إِشارة لحزب “العدالة والتنمية”، وحدد طلباته من “أردوغان”، وهي (زيادة الحد الأدنى للأجور، تحسين أوضاع المتقاعدين، تعيين مليون معلم، الامتثال لقرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بشأن قضية “جيزي بارك” والإفراج عن المعتقلين فيها).
كما أصدر “أردوغان” في 17 مايو 2024 عفوًا “لأسباب صحية” عن 6 من المسؤولين العسكريين السابقين وهم (شتين دوغان، وشفيق بير، وجودت تمال أوزكيناك، وفوزي توركري، ويلدريم توركر، وإيرول أوزكاساناك)، والذين شاركوا بانقلاب 28 فبراير 1997، وأدى آنذاك لاستقالة حكومة حزب “الرفاه” بقيادة رئيس الوزراء الإسلامي الراحل “نجم الدين أربكان”، ويمكن تفسير العفو بأنه خطوة من “أردوغان” للتقارب مع التيارات العلمانية والعسكرية بالبلاد لكسب تاييدهم له، حيث جاء القرار بعد مرور أسبوعين من أول لقاء عقد بين “أردوغان” “أوزيل”.
ويمكن تفسير سعي “أردوغان” لعقد عدة لقاءات مع “أوزيل” والتقارب معه لأنه يسعى لكسب دعم المعارضة للتعديلات الدستورية التي ستؤسس للمرحلة المقبلة لتركيا ومرحلة “ما بعد أردوغان” حال قرر عدم الترشح للانتخابات الرئاسية بعد عام 2028 أو تعديل الدستور ليضمن إمكانية ترشحه مرة ثالثة بعد انتهاء الفترتين، وكذلك يسعى لإحداث “فتنة” في حزب “الشعب الجمهوري” وكذلك لإشعال التنافس بين “أوزيل” وعمدة إسطنبول صديقه السابق “أكرم إمام أوغلو” الذي يعد خصما للرئيس التركي، لا سيما بعد تردد أنباء عن عزم “أوزيل” خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة ليتنافس مع “أمام أوغلو” على كسب ترشح الحزب للرئاسة، بيد أن ذلك انعكس سلبًا على “أردوغان” فغداة لقائه مع “أوزيل” أصدر “بهجلي” حليف “أردوغان” منذ 2016 بيانًا يهدد فيه بالخروج من تحالف “الشعب الحاكم” الذي يضم حزبي (العدالة والتنمية، الحركة القومية)، مما دفع “أردوغان” للذهاب لمنزله وزيارته وعقد عدة اجتماعات معه للتأكيد على استمرار التحالف وعدم وجود خلافات بينهم.
ورغم إشادة “أردوغان” بالانفراجة التي تحققت بالحوار بين الحكومة والمعارضة إلا أن ذلك لم يدم طويلًا ووجه انتقادات حادة “لأوزيل”، بقوله “أن حزب الشعب الجمهوري لم يتمكّن من استيعاب الزيارة التي قمت بها له، نحن تحالف الشعب سنواصل موقفنا نفسه وتضامننا. تحالف الشعب ليس طاولة الستة”، واتهم “أوزيل” “بجرّ تركيا إلى التوتر السياسي على الرغم من لقاءات التطبيع”، ورغم هذا لم يعلن عن إلغاء اللقاء الثالث بينهم المقرر في يوليو الحالي، وذلك لرغبة “أردوغان” في الإبقاء على التواصل مع المعارضة والحصول على دعمهم لتعديل الدستور.
– اضطهاد الأكراد: اتبع “أردوغان” منذ عام 2016 سياسة اضطهاد الأكراد (يمثلون 15% من عدد السكان البالغ 80 مليون نسمة) بغية حشد التيارات السياسية القومية المعادية للأكراد لصالحه، حيث تم التضييق على ممارسة أعمالهم وحريتهم بالمدن الكبرى وفرض حظر تجول على أكبر محافظاتهم (ديار بكر، ماردين)، ثم تم اعتقال الرئيس المشارك السابق لحزب الشعب الجمهوري “صلاح الدين دميرطاش” بتهمة التورط بمحاولة الانقلاب الفاشل واستمر رهن الاعتقال حتى حكم عليه في مايو 2024 بالسجن (42 عاما) بعد إدانته بتهمة المساس بوحدة البلاد بالقضية المعروفة باسم “أحداث كوباني”، وبلغ مجموع الأحكام الصادرة في القضية (407 سنوات و7 أشهر) بحق 24 متهماً كردي بينهم القيادي المخضرم “أحمد تورك” والرئيسة المشاركة السابقة للحزب “فيجان داغ”، وقد اتهم “تورك” عمدة بلدية ماردين الكبرى من حزب “الديمقراطية والمساواة” للشعوب حكومة حزب “العدالة والتنمية” بأنها “تتبع أساليب غير قانونية للبقاء في السلطة”، وذلك بعد الحُكم عليه بالسجن لمدة 10 سنوات ضمن قضية “كوباني”، وأكد أن ما يحدث “سيسبب ضررًا كبيرًا لشعب تركيا، ويمنع تطور الهدوء السلمي، وربما يستمر هذا طويلًا”.
وقد عبَّر “أردوغان” عن ارتياحه للأحكام بالقضية، وتعود وقائع القضية لعام 2014 حيث اتهم 108 من السياسيين الأكراد بالترويج للإرهاب عبر الدعوة للتظاهر لمنع القوات التركية من دخول مدينة (عين العرب -كوباني) السورية ذات الأغلبية الكردية بدعوى محاربة تنظيم “داعش” الإرهابي، ثم أثيرت القضية مرة آخرى عام 2021، ووجهت اتهامات “لدميرطاش” بـ (تهديد وحدة البلاد، القتل العمد بحق 37 شخصاً، إهانة العلم التركي)، بسبب بيانات حملت توقيعه وتدويناته على مواقع التواصل الاجتماعي الالكتروني.
-عزل رؤساء البلديات الأكراد: استمرارًا لسياسات “أردوغان” في اضطهاد الأكراد لجأ منذ عام 2019 لعزل رؤساء البلديات الأكراد بعد الانتخابات البلدية آنذاك وهو ما تكرر بعد مارس الماضي، فقد حكم في يونيو الماضي على عمدة ولاية هكاري (ذات الأغلبية الكردية جنوب شرق تركيا) الكردي المعزول “محمد صديق أكيش” (53 عاما) بالسجن 19 عامًا و6 أشهر، بتهم “إدارة والانتماء والترويج لتنظيم إرهابي مسلح” في إشارة لحزب “العمال الكردستاني” المصنف تنظيم إرهابي في تركيا، وأكد “أكيش” أن القضية والحكم فيها “مسيس”، مما آثار مخاوف من اعتقال وعزل المزيد من رؤساء البلديات الأكراد التابعين لحزب “الديمقراطية والمساواة للشعوب” المؤيد للأكراد، وتعيين أوصياء من قبل الحكومة التركية بدلا منهم رغم فوزهم في الانتخابات البلدية الأخيرة التي أجريت في 31 مارس 2024، وقد عزز تلك المخاوف توعد “أردوغان” مطلع يونيو 2024 بمصادرة المزيد من البلديات الكردية، بعد قرار عزل “أكيش” وأكد “أن أي دولة ديمقراطية في العالم لن تسمح بتسلل الإرهابيين للبلديات” ما آثار انتقادات ضد “أردوغان”، حيث أعلنت البرلمانية المعارضة عن حزب “المساواة الشعبية والديمقراطية” الكردي “ميرال دانيش بيشتاش”، إن “تحالف الشعب الذي يتزعمه الرئيس التركي لا يريد التخلي عن السياسية الانقلابية، ولا ينبغي أن تستمر سياسة تعيين الوصاة، فهو أسلوب انقلابي في حد ذاته، إنها ممارسة انقلابية ترفض الإرادة والحق والقانون والانتخابات، وكل شيء”.
كما اعتقل يوم 8 يونيو 2024 عمدتين سابقين في ولاية ديار بكر ذات الأغلبية الكردية وثلاثة من نوابهما، وفرضت السلطات في تركيا حظر سفر على تسعة عمداء بلديات ينتمون لحزب “المساواة وديمقراطية الشعوب” الكردي، دون صدور قرار قضائي بذلك وبناء على طلب المديرية العامة للأمن العام، ومن المرجح استمرار “أردوغان” في سياسته لاضطهاد الأكراد لحشد التأييد القومي له، كما يمعن حليفه “بهجلي” في معاداتهم وطالب بإغلاق حزب “الشعوب الديمقراطية” المؤيد للأكراد، وامتداداته، في إشارة إلى حزب “الديمقراطية والمساواة للشعوب” الموالي للأكراد أيضا وربما يتم ذلك بالفعل.
-إعادة هيكلة الحكومة والحزب الحاكم: عقد “أردوغان” عدة اجتماعات مع قيادات حزبة “العدالة والتنمية” بعد خسارته الانتخابات البلدية لمعرفة أسباب الخسارة وليستعد للمؤتمر العام للحزب في نوفمبر المقبل الذي من المرجح أن يشهد عددًا من التغييرات الهامة، وقد أسفر اجتماع الهيئة التنفيذية لحزب العدالة والتنمية الحاكم برئاسة “رجب طيب أردوغان”، في 24 يونيو 2024 عن تغيير رؤساء الشعب في عدد من الولايات (غازي عنتاب، أديامان، عثمانية، قسطمونو، أفيون كاراحصار، زوجولداك، وأرزينجان)، كما لجأ “أردوغان” لإجراء تغييرات وزارية محدودة يوم 2 يوليو 2024، على حكومته حيث تم تغير وزير الصحة السابق لكثرة الانتقادات الموجه له، وتم تعيين “كمال مميش أوغلو” وزيراً للصحة، و”مراد كوروم” وزيراً للبيئة والتخطيط العمراني والتغير المناخي، وذلك للتقليل من الانتقادات الشعبية ضد حكومته.
وقد تزامن هذا مع تصاعد الجدل حول توسيع صلاحيات “أردوغان” حيث نقل لنفسه وفق مرسوم رئاسي صلاحية إعلان الحرب وحالة الطوارئ للرئيس فقط وهو ما يخالف ما كان متبعا من قبل، كما ألغت المحكمة الدستورية التركية بعض مواد المرسوم الرئاسي رقم (70) لعام 2021 بناء على دعوى رفعها حزب “الشعب الجمهوري”، وتضمنت المراسيم التي تخول الرئيس التركي عزل رئيس البنك المركزي قبل نهاية ولايته أو تعيين رؤساء الجامعات، كما ألغت المحكمة الدستورية اللائحة التي تمنح الرئيس التركي سلطة تعيين نائب المحافظ وحاكم المقاطعة ورؤساء الإدارة المدنية الحدودية، وعللت المحكمة ذلك بأنه لا يمكن أن يقرر الرئيس سوى تعيين كبار المسؤولين التنفيذيين وهذا لا يشمل نائب المحافظ وحاكم المقاطعة والمشرفين المدنيين على الحدود، بينما نفت الحكومة التركية ذلك، ودحض مركز تفنيد المعلومات المضللة التركي مزاعم تناقلتها مواقع تواصل اجتماعي بأن “المحكمة الدستورية جردت الرئيس رجب طيب أردوغان من صلاحية تعيين محافظ البنك المركزي ورؤساء الجامعات”. وأوضح المركز التابع لدائرة الاتصال برئاسة الجمهورية أن المحكمة الدستورية بتَّت بقرارها حول طلب إلغاء المرسوم رقم 703، مشيرا إلى أن المحكمة رفضت طلب إلغاء المرسوم المذكور برمته، وقررت إلغاء بعض الأحكام التي استصدرت من خلاله. وجاءت على أساس أن التنظيم يجب أن يكون بقانون وليس بمرسوم، وهو ما يعني أن الإلغاء ليس جوهريا”. وأشار إلى أن المحكمة قررت دخول القرارات حيز التنفيذ بعد 12 شهراً، وأنه بناءً على ذلك لا يوجد أي تغيير فيما يتعلق بالإجراءات الحالية، وهو ما أدى لوجود جدل حول صلاحيات “أردوغان” التي يرغب منها إحكام قبضته على الحكم ورفع شعبيته.
– تصاعد وتيرة انتقاد “أردوغان” لإسرائيل: لجأ “أردوغان” لتوظيف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة المستمرة منذ عشرة أشهر، لصالحه بغية رفع شعبيته حيث صعد من حدة الخطاب السياسي المنتقد لتل أبيب وقطع العلاقات التجارية معها، ووصف حركة “حماس” الفلسطينية بأنها “حركة تحرير” ولا فرق بينها وبين “القوات الوطنية التركية إبان حرب الاستقلال”، وجدد دعمه للحركة وقال “إنها تدافع عن الأناضول، كما قرر قطع العلاقات التجارية معها، وأوضح أن “روح الأمم المتحدة ماتت في غزة” في تعليقه على “الضربات الإسرائيلية التي استهدفت النازحين في مدينة رفح”، ووصف “إسرائيل بأنها ليست مجرّد تهديد لغزة بل للإنسانية جمعاء”، وقد كانت تلك القضية أبرز القضايا التي أخذت على “أردوغان” خلال الانتخابات البلدية، حيث عبر الكثيرون في الربع الأول من العام الحالي عن رفضهم لموقف “أردوغان” المهادن من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
ثانيًا: التداعيات على المشهد السياسي التركي:
لعل المشهد السياسي التركي قد شهد العديد من التفاعلات خلال الشهرين الماضيين كان أبرزها الحديث حول “محاولة انقلابية جديدة”، وهذه التفاعلات وموقف “أردوغان” منها له العديد من التداعيات الداخلية والخارجية أبرزها ما يلي:
– الجدل حول إجراء انتخابات مبكرة: قال زعيم حزب السعادة التركي ذو التوجّه الإسلامي “تمل كرم الله أوغلو” بنهاية يونيو 2024 إن “أردوغان” يطمح لولاية رئاسية جديدة، ويسعى لتعديل قاعدة (50% +1) المطلوبة للفوز بالانتخابات الرئاسية لتصبح (40% +1)، وزعم الكاتب التركي “مصطفى قره علي أوغلو”في 1 يوليو 2024، إن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، سيضطر للدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة قبل عام ونصف العام على الأكثر من موعد الانتخابات الرئاسية المقررة عام 2028، وقد ألمح رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض “أوزغور أوزيل” بنهاية يونيو 2024 إمكانية إجراء انتخابات رئاسية مبكرة في تركيا وأكد إنه “تم إنتخاب إردوغان لمدة 5 سنوات، ويمكن إجراء انتخابات مبكرة بعد عام ونصف من اليوم، وهذا مطلب آخذ في الازدياد نتيجة تصاعد الضغوط الاقتصادية بالبلاد”، وفسر لقاءه مع “أردوغان” بحث إصلاح المشاكل الاقتصادية وتخفيف العبء عن المواطنين. طالب “أوزيل” في 4 يوليو بالتوجّه إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكّرة في غضون شهرين بيد أن “أردوغان” لم يعلق على تلك الدعوات والملاحظ أنه لن يدير انتخابات مبكرة يعلم أنه سيخسرها ولذا لن يقدم الرئيس التركي على الدعوة لانتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة إلا إذا ارتفعت شعبيته وأكدت استطلاعات الرأي فوزه بها.
وجدير بالذكر، أن إجراء انتخابات مبكرة بتركيا يتطلب الحصول على موافقة 360 نائب بالبرلمان التركي، وهو ما لا يملكه حزب “الشعب الجمهوري” أو حتى التحالف الحاكم، حيث يملك الشعب الجمهوري له ( 127 نائبًا بالبرلمان) فقط وهو أقل من النسبة المطلوبة لتعديل الدستور او رفضه او الدعوة لانتخابات مبكرة، وربما كانت دعوة “أوزيل” لينفي عن نفسه اتهامات بعض القيادات بحزبه بتقربه من “أردوغان” والتنازل عن مبادئه الحزبية، كما يسعى “أوزيل” من تلك الدعوة لرفع رصيده بين القواعد الشعبية للحزب لاسيما بعد تردد تقارير تفيد برغبته في الترشح عن الحزب في الانتخابات الرئاسية التركية المقبلة وهذا بعدما نشر عن وجود فتور في علاقته القوية مع عمدة إسطنبول القيادي الحزبي “أكرم إمام أوغلو” الذي دعمه للوصول لرئاسة الحزب وأعلن عن رغبته في الترشح للانتخابات الرئاسية أكثر من مرة.
-صعوبة تمرير التعديلات الدستورية: يصر “أردوغان” على إجراء تعديلات دستورية ترقى لمرتبة صوغ “دستور جديد يناسب المئوية الجديدة للدولة التركية”، بيد أن سائر الأحزاب تختلف معه في ذلك ولا ترى ضرورةً لتعديل الدستور، وحال استمرت تلك المواقف فإنه أي “أردوغان” سيجد صعوبة في تمرير الدستور الجديد حال صياغته في البرلمان أو من خلال استفتاء شعبي عام.
– تصاعد الاحتقان المجتمعي: من المرجح أن تستمر سياسة “أردوغان” الرامية لاضطهاد الأكراد وعزل رؤساء البلديات الكردية وكذلك استمرار الاعتقالات العشوائية للمواطنين بذريعة علاقاتهم بحركة “الخدمة”، فضلا عن سياسات التضييق على وسائل الإعلام والصحافة، مما سيؤدي لتصاعد الاحتقان المجتمعي لاسيما مع استمرار الازمة الاقتصادية بالبلاد.
– تعثر استئناف مفاوضات الإنضمام للإتحاد الأوروبي: أعلنت مفوضية الاتحاد الأوروبي منذ عامين توقف المفاوضات مع تركيا لإنضمامها للإتحاد، ثم أعلنت العام الحالي إمكانية إستئناف تلك المفاوضات حال ألتزمت أنقرة بمعايير التفاوض الاقتصادية والسياسية لاسيما ما يخص حرية الرأي والتعبير واحترام حقوق الإنسان، بيد أن استمرار سياسات “أردوغان” الرامية لرفع شعبيته دون النظر لتداعيات ذلك ربما تؤدي لتعثر العودة لتلك المفاوضات.
خلاصة القول، إن “أردوغان” مستمر في سياساته التي يتبعها منذ محاولة الانقلاب الفاشلة قبل 8 سنوات، ويعمل على رفع شعبيته بشتى الطرق والوسائل بعد استيعابه لرسالة الانتخابات البلدية السابقة التي خسرها حزبه، ويستخدم في ذلك العداء للأكراد وحركة “كولن” ويصورهم كأعداء للوطن والساعين للانقلاب على الحكم رغم عدم وجود أدلة قانونية على تلك الاتهامات، وذلك بغية حشد المواطنين لصفه ضدهم ولضمان تمرير مشروع الدستور الجديد الذي ربما يتضمن بنودًا تسمح له بإعادة انتخابه مرة ثالثة كرئيس للبلاد.