د. منى سليمان*
القاهرة (زمان التركية) – تشن أجهزة الأمن التركية حملات مكثفة ضد عناصر تنظيم “داعش” الإرهابي منذ تفجير كنيسة “سانتا ماريا” بمدينة إسطنبول في 28 يناير الماضي، وفي 7 مايو الحالي أعلنت عن توقيف 8 أشخاص للاشتباه في انتمائهم للتنظيم، مما يعكس حالة الاستنفار الأمني التركي ضد التنظيم الذي استعاد نشاطه في سوريا والعراق وتركيا.
وبعد تنفيذ تفجير موسكو في مارس الماضي الذي أسفر عن مقتل 140 شخص، كشفت موسكو عن قيام اثنين من المنفذين بزيارة تركيا قبل التفجير، مما يؤكد وجود ارتباط عضوي بين فرع التنظيم في تركيا وهو “ولاية تركيا” وفرعه في أفغانستان وآسيا الوسطى “داعش خراسان”، نظرًا للصلات العائلية والترابط التاريخي والجغرافي بين المنطقتين، وهو ما دفع تركيا لتكثيف حملاتها الأمنية مؤخرًا ضده لإحباط أي عمليات جديدة يعتزم تنفيذها على أراضيها، هذا بالرغم من اتهام تقارير استخباراتية وقيادات كردية أنقرة بالتواطؤ مع “داعش” منذ ظهوره الأول عام 2014 وحتى اليوم، مما يثير التساؤلات عن طبيعة العلاقة الغامضة بين تركيا و”داعش” وأهدافها الحقيقية من تكثيف الملاحقات الأمنية له حاليًا.
أولًا: دوافع وملامح حملة تركيا ضد “داعش”:
كثفت تركيا حملاتها الأمنية ضد عناصر تنظيم “داعش” الإرهابي (سيطر “داعش” في يونيو 2014 على ثلث مساحة العراق وسوريا، وأعلن قيام دولته ثم هزم في مارس 2019) خلال الأشهر الماضية وكان لهذا عدد من الدوافع لعل أبرزها عودة نشاط التنظيم داخل البلاد حيث تبني تنفيذ تفجير كنيسة “سانتا ماريا” في إسطنبول في 28 يناير الماضي، وشملت تلك الدوافع ما يلي:
– تفجير إسطنبول: اقتحم عنصرين لتنظيم “داعش” هما “حمزة أميرجون خوليكوف وديفيد تاندوف” كنيسة “سانتا ماريا” للروم الكاثوليك بإسطنبول في 28 يناير 2024، ما أسفر عن مقتل مواطن تركي، ويعد هذا الحادث الإرهابي الأول الذي يتبناه التنظيم في تركيا منذ 7 سنوات، وأعلنت “ولاية تركيا” التابعة للتنظيم مسؤوليتها عن الحادث، بيد أن المصادر الأمنية تؤجح أن تنظيم “داعش خراسان” وهو فرع التنظيم في أفغانستان هو المسؤول عن الحادث بدليل تورط مواطن طاجيكي وروسي فيه لأن الأخير يجند عناصره من آسيا الوسطى، والتفجير جاء استجابة لدعوة التنظيم باستهداف “اليهود والنصارى وحلفائهم في شوارع وطرقات أمريكا وأوروبا والعالم”، جدير بالذكر أن آخر هجوم نفذه “داعش” بتركيا كان عام 2017 واستهدف فيه نادي “رينا” الليلي بإسطنبول ليلة رأس السنة مما أدى لمقتل 39 شخصًا وإصابة 79 آخرين.
– تفجير موسكو: تبني “داعش – خراسان” فرع تنظيم داعش الإرهابي في أفغانستان تفجيرات “كروكوس” بوسط موسكو التي تمت في مارس الماضي وأسفرت عن 140 قتيل ومئات الجرحى، وقد أدانت أنقرة التفجير وأعلنت تلقى اثنين من منفذي الهجوم تدريبات في تركيا خلال زيارتهم لها في مارس الماضي، مما يؤكد تواجد “خلايا نائمة” للتنظيم في تركيا.
– استعادة التنظيم نشاطه بسوريا: عودة نشاط “داعش” في تركيا يأتي في ظل استعادة التنظيم الإرهابي لنشاطه في سوريا والعراق وشنه عدد كبير من العمليات الإرهابية، حيث أعلن في مطلع مايو الحالي عن مقتل 15 عنصر أمن سوري بهجمات لتنظيم “داعش” على مواقع عسكرية بوسط سوريا، وفي 19 أبريل 2024 شن التنظيم هجومين شرق دير الزور بسوريا أسفرا عن مقتل 28 جندي سوري، ومنذ بداية العام الحالي قتل (300) جندي سوري في هجمات “لداعش”، نفذت في محافظات (دير الزور، حمص، الرقة)، وفي 3 مايو 2024 قتل “داعش” 17 عنصر أمنى في بادية حمص.
وقد أوضح الرئيس التركي “رجب طيب إردوغان” في مطلع إبريل 2024 إن بلاده تتابع عن كثب محاولات “إعادة تمكين التنظيمات الإرهابية التي تلفظ أنفاسها الأخيرة”، وأكد أنه “لا مكان للتنظيمات الإرهابية في مستقبل تركيا والمنطقة، وأن تركيا عازمة على إظهار ذلك للجميع، والقوات المسلحة للبلاد تخوض كفاحًا فعالاً وناجحًا للغاية ضد جميع التنظيمات الإرهابية دون أي تمييز، وبفضل عملياتنا العسكرية في سوريا والعراق تم إبعاد تنظيمِي “داعش” وحزب “العمال الكردستاني” و”وحدات حماية الشعب الكردية” السورية، عن الحدود التركية وسنواصل هذه العمليات بكل حزم”، مما يؤكد وجود إصرار رئاسي على مكافحة الإرهاب وينذر بشن تركيا عمليات عسكرية جديدة في شمال سوريا لملاحقة التنظيمات الإرهابية هناك لا سيما في ظل الارتباط العضوي بينها، وقد شملت الحملة الأمنية المكثفة التي شنتها تركيا على عناصر التنظيم اعتقالات وسجن ومحاكمات وترحيل لعناصر التنظيم والمشتبه بهم، كما يلي:
– ملاحقات أمنية مستمرة: أعلن وزير الداخلية التركي “علي يرلي كايا” في 24 أبريل 2024 تنفيذ حملات أمنية متزامنة في ولايات (هاتاي، يالوفا، قونيا، يوزغات، تشاناق قلعة، سكاريا، وتكيرداغ) أسفرت عن القبض على 23 عنصرًا من “داعش”، كما اعتقلت قوات مكافحة الإرهاب 11 من عناصر التنظيم بأزمير، وكشفت مصادر أمنية إنه تم التنسيق بين شعبتي مكافحة الإرهاب ومديرية الاستخبارات، بموجب مذكرة أصدرها مكتب المدعي العام لتنفيذ تلك العمليات، وكشف “كايا” أن أجهزة الأمن التركية نفذت منذ 1 يونيو 2023 وحتى 22 أبريل 2024 أكثر من (1422) عملية ضدّ تنظيم “داعش” في أنحاء البلاد، أسفرت عن القبض على (2991) من عناصر التنظيم، وتوقيف (718) منهم، وتم الإفراج المشروط بمراقبة قضائية عن (566) منهم، كما أعلن “كايا” نهاية مارس 2024 اعتقال (147) شخصًا من 30 ولاية للاشتباه في صلاتهم بتنظيم “داعش” الإرهابي وذلك ضمن عملية أمنية موسعة باسم (بوزدوغان- 16)، والمعتقلين كانوا ينشطون داخل التنظيم وانخرطوا بالصراعات المسلحة في سوريا والعراق وساعدوا في تمويله، واثنين من الموقوفين مشتبه بضلوعهم في هجوم “كروكوس” بموسكو.
-استمرار التحقيق بتفجير إسطنبول: وألقت قوات الأمن التركية القبض على 147 من عناصر “داعش” في إطار التحقيقات بالهجوم على كنيسة “سانتا ماريا”، (17) منهم منتمون لتنظيم “داعش – خراسان” وهي فرع التنظيم في أفغانستان، وكانوا يخططون لإقامة كيان لتدريب ونشر مسلحي “داعش” في دول الشرق الأوسط، واعتقل في 6 أبريل الماضي (48) شخص من “داعش”، بينهم 30 عنصر تم اعتقالهم في إسطنبول وفي فبراير 2024 القبض على 12 عنصرًا في تنظيم “داعش” الإرهابي في ولايتي إسطنبول وهاتاي، كما تم القبض على شخص يشتبه بانتمائه “لداعش” يعمل في محطة للطاقة النووية بتركيا، وجميع المعتقلين كانوا على صلة بمنفذ الهجوم على كنيسة “سانتا ماريا” الكاثوليكية في إسطنبول الذي نفذ في 28 يناير 2024، كما تم القبض على 18 من عناصر التنظيم في أنقرة، وأكد “كايا” أن منفذ الهجوم على كنيسة “سانتا ماريا” في إسطنبول له صلة بمناطق الصراع في سوريا والعراق.
– محاكمات قضائية: بدوره أصدر القضاء التركي قراره في فبراير 2024 بحبس 25 متهمًا، والإفراج المشروط عن 9 آخرين تورّطوا في الهجوم المسلّح على كنيسة “سانتا ماريا” بمنطقة “سارير” في إسطنبول، الذي أعلن “داعش” مسؤوليته عنه حيث نفذه عضوين بالتنظيم هم الطاجيكي “أميرجون خليكوف” والروسي “ديفيد تانديف”، ووجهت لهم المحكمة تهم الانتماء لمنظمة إرهابية والقتل العمد، وهناك أكثر من 60 مشتبه من الروس والطاجيك، وأحيل 26 منهم للترحيل خارج تركيا، كما أصدرت محكمة تركية في أبريل 2024 حكمًا بالسجن مدى الحياة على مواطنة سورية اتهمت بالتورط في تفجير وقع في 13 نوفمبر 2022 أسفر عن مقتل ستة أتراك وإصابة العشرات في شارع الاستقلال المزدحم بوسط إسطنبول، واتهمت أنقرة “وحدات حماية الشعب الكردية” وحزب “العمال الكردستاني” بالمسؤولية عن التفجير، بينما نفى الأخير ذلك.
– تعديل قوانين السفر: وفي مسعى منها لمنع تسلل الإرهابيين من آسيا والوسطى لها، أصدرت تركيا مرسومًا رئاسيًّا في إبريل 2024 يقضي بإلزام مواطني طاجيكستان بالحصول على تأشيرة لدخول البلاد، وذلك بعد تورط مواطنين طاجيك بتفجيرات إرهابية حدثت في إسطنبول وموسكو خلال العام الجاري، حيث تورط مواطن طاجيكي في تفجير كنيسة “سانتا ماريا” بإسطنبول في يناير الماضي، وكذلك ثبت تورط مواطنين من طاجيكستان في تفجيرات “كروكوس” الإرهابي بموسكو في مارس الماضي وزار اثنين منهم إسطنبول في الربع الأول من العام الحالي، بيد أن اتهام تركيا مواطني طاجيكستان بالتورط بالعمل مع التنظيمات الإرهابية سيتطلب التنسيق الأمني والتعاون معها ومع دول آسيا الوسطى ككل لمنع تسلل الإرهابيين منها الي الاناضول، كما يمكن أن يلقى ذلك بظلاله على مستقبل التعاون بين تركيا وآسيا الوسطى التي ترتبط معها بإطار مؤسسي هو “منظمة الدول التركية” التي مقرها أنقرة وأسست عام 2009، ولذا يمكن لتركيا أن تكثف برامج مكافحة الإرهاب داخل المنظمة لمواجهة تواجد “داعش” على أراضيها.
– تعزيز التعاون الخارجي: وفي سياق متصل وظفت أنقرة سياستها الخارجية لتحقيق هدفها من مكافحة الإرهاب، فقد عززت من تعاونها الخارجي لمكافحة الإرهاب حيث أعلنت وزارة الخارجية التركية في إبريل 2024، عن زيارة السفيرة الأمريكية لتنسيق مكافحة الإرهاب “إليزابيث ريتشارد” لأنقرة لبحث جهود مكافحة الإرهاب بين الدولتين، كما قام نائب وزير الخارجية الأمريكي “جون باس” بزيارة البلاد واجتمع مع وزير الخارجية التركي “هاكان فيدان”، لتنسيق التعاون بشأن الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب، وجددت أنقرة طلبها من واشنطن وقف أي دعم للتنظيمات الكردية المسلحة مثل “وحدات الشعب الكردية”.
ثانيًا: تطور مواجهة تركيا لتنظيم “داعش” الإرهابي:
ظهر تنظيم “الدولة الإسلامية – داعش” الإرهابي في منتصف عام 2014 بعدما سيطر على ثلث مساحة سوريا والعراق ثم أعلن زعيمه “أبو بكر البغدادي” إقامة “الدولة الإسلامية” (تم اغتياله بغارة أمريكية بعد ذلك)، وهو مما مثل تهديد وجودي للدولتين وللأمن القومي لدول جوارهما مثل تركيا والأردن في المقام الأول ولدول الشرق الأوسط بشكل عام، مما دفع الولايات المتحدة تشكيل تحالف دولي لمحاربته فبدأ في التراجع وفقدان السيطرة على أراضيه بنهاية عام 2016، وأعلن بنهاية عام 2017 هزيمة “داعش” في العراق، وفي مارس 2019 أعلن هزيمته بسوريا، بيد أنه خلال العام الأخير بدأ في استعادة نشاطه بتنفيذ عدة عمليات إرهابية في الدولتين، وخلال العقد الماضي منذ ظهور “داعش” شابت التعامل التركي مع التنظيم الإرهابي العديد من المراحل بدأت باتهامات أوروبية لتركيا بالتغاضي عن تواجد “داعش” وعدم الرغبة في محاربته حتى شن حملات مكثفة عليه، ويمكن تقسيم مراحل تعامل تركيا مع “داعش” لأربع مراحل كما يلي..
– المرحلة الأولى (2014) .. التغاضي التركي عن وجود “داعش”:
رغم أن تركيا صنفت “داعش” كتنظيم إرهابي منذ عام 2014 إلا أنها رفضت الانضمام للتحالف الدولي الذي شكلته واشنطن لمحاربة التنظيم، ما دفع بعض الدول الأوروبية لاتهام تركيا بالتغاضي عن دخول وخروج مقاتلي “داعش” من الحدود التركية السورية المشتركة، وذلك لتحقيق هدف مشترك بين أنقرة والتنظيم الإرهابي وهو هزيمة التنظيمات المسلحة الكردية (“حزب العمال الكردستاني” و”وحدات حماية الشعب الكردية” السورية) التي تحاربها أنقرة و”داعش”، وهذه الاتهامات دفعت أنقرة لشن هجمات مسلحة ضد “داعش” بعد ذلك لنفي تواطؤها معه، ويمكن القول أن أنقرة قد تغاضت عامي 2014 و2015 عن ملاحقة عناصر “داعش” في البلاد، بذريعة أن “داعش لم يلحق أضرارًا بتركيا”، حتى وقع تفجير “سروج” الانتحاري في أغسطس 2015 والذي أودى بحياة أكثر من 30 شابًّا كرديًّا جنوب شرقي البلاد.
ورغم الحرب التي تشنها أنقرة على “داعش” حاليًا إلا أن الاتهامات بالتواطؤ معه لم تنته، حيث اتهم القيادي السوري الكردي الرئيس المشترك لحزب الاتحاد الديمقراطية (PYD) “صالح مسلم” في يناير 2024 تركيا بتقديم الدعم “لداعش” في إقليم آسيا الوسطى، وأوضح أن تحركات “داعش” في الشرق الأوسط تضاعفت بعد شن تركيا الهجمات على شمال وشرق سوريا، لأنها تستخدم “داعش” لتحقيق مصالحها الخاصة وللقضاء على الشعب الكردي، بمعنى أنها ليست جادة في محاربة التنظيم الإرهابي.
– المرحلة الثانية (2015-2018) .. المواجهة والاستهداف المتبادل:
أول مواجهة عسكرية بين تركيا و”داعش” بدأت في 23 يوليو 2015 حيث تم إطلاق النار على رقيب تركي في “كلس” في مدينة “غازي عنتاب” من قبل مسلحي “داعش” من داخل الحدود السورية وأدى ذلك إلى مقتل ضابط وإصابة اثنين، وعلى الفور ردت القوات التركية بإطلاق النار مما أدى إلى إضعاف تأثير مقاتلي “داعش” ومقتل شخص منهم، ثم قامت القوات المسلحة التركية بتفجير مواقع تابعة “لداعش” بأربعة طائرات حربية من طراز (إف 16) الأمريكية وقُتل 35 شخصًا، ثم تم قصف مواقع “لحزب العمال الكردستاني” بشمال العراق في (جبال قنديل، وزاب، ومتينا، وباسيان، وإفاشين) بذريعة تواطؤ التنظيمات الكردية مع “داعش”، عقب ذلك اتهمت أنقرة “داعش” بتنفيذ تفجيرات في تركيا منها تفجير “سروج” في يوليو 2015 وأنقرة في أكتوبر 2015 وتفجيرا “الريحانية”، ثم أصدر التنظيم في يونيو 2015 العدد الأول من مجلة “القسطنطينية” الناطقة بالتركية بعنوان “فتح القسطنطينية”.
ونتيجة لاستهداف “داعش” مباشرة لها وافقت أنقرة على طلب أمريكي باستخدام قاعدة “إنجرليك الجوية” في الحرب ضد “داعش”، وقد وافقت تركيا على ذلك باعتبارها دولة عضو بحلف شمال الأطلسي “الناتو” وهذا مقابل وعد أمريكي بإنشاء منطقة عازلة على الحدود التركية- السورية، قد بدأت الطائرات الأمريكية بالفعل بالإقلاع من القاعدة لقصف مواقع “داعش” بسوريا في 12 أغسطس 2015، فقام التنظيم الإرهابي بتنفيذ هجوم بولاية “ديار بكر” ذات الأغلبية الكردية في 4 نوفمبر 2016 أسفر عن مقتل 8 ومائة جريح، ثم انضمت تركيا رسميا إلى الحملة العسكرية ضد داعش في أغسطس 2016، حيث تدخلت القوات التركية مباشرة في سوريا في أغسطس 2016، من أجل السيطرة على طول الشريط الحدودي التركي في العمق السوري وصولًا إلى مدينة “الباب” السورية، ثم كثف الجيش التركي قصفه لمناطق شمال شرق سوريا لعرقلة تقدم التنظيمات الكردية المسلحة التي تحارب “داعش” فأصبحت القوات التركية بمثابة فاصل بينهم، وحققت هدفها في منع تقدم التنظيمات الكردية وسيطرتها على المزيد من المدن بالمنطقة ورغم ذلك تم الإعلان عن إقليم شمال شرق سوريا الكردي المتمتع بحكم ذاتي بدعم أمريكي، وأعلن “داعش” مسؤوليته عن مقتل أكثر من 300 شخص في هجمات بتركيا بين عامي (2015 – 2017)، ومنذ عام 2018 تم ترحيل 3 آلاف شخص لارتباطهم بتنظيم “داعش” ومنع دخول 5 آلاف لتركيا لنفس السبب.
– المرحلة الثالثة (2019-2022) .. تراجع نشاط التنظيم بتركيا:
بعد إعلان هزيمة “داعش” في سوريا خلال مارس 2019 وسقوط قرية “الباغوز” آخر القرى التي كان يسيطر عليها شرق البلاد بيد قوات “سوريا الديمقراطية” الكردية، تراجع نشاط التنظيم في تركيا ولم يشن هجمات إرهابية في تلك الفترة، وفي عام 2019 أعلن وزير الداخلية التركي آنذاك “سليمان صويلو” وجود 1200 معتقل من عناصر تنظيم “داعش” في السجون التركية، مشيرًا إلى أن بلاده ستعيدهم إلى بلدانهم حتى لو أُسقطت الجنسية عنهم، كما أعلنت أجهزة الأمن التركية أنه خلال الربع الأول من العام الحالي تم منع (2109) شخص من دخول البلاد بطرق غير شرعية بينهم (109) شخص مرتبطون بتنظيمات إرهابية منها “داعش”، كما أعلنت أجهزة الأمن التركية بنهاية إبريل 2020 تم إحباط محاولة لتنظيم “داعش” الإرهابي لتنفيذ هجوم بالقنابل في منطقة “بايكوز” بالشطر الآسيوي لإسطنبول، كان يعد لتنفيذ هجوم بالقنابل.
وفي 26 مايو 2022 أعلن مسؤولون أتراك بارزون إلقاء القبض على زعيم التنظيم الجديد في مداهمة بإسطنبول، واعتقاله وهو “أبو الحسن القريشي”، دون الكشف عن المزيد من المعلومات، ولنفي تراجع نشاطه في تركيا أعلن “داعش” عن تدشين “ولاية تركيا” فرع التنظيم بالأناضول في يوليو 2019، وهو الفرع الذي أعلن مسؤوليته عن تفجير كنيسة “سانتا ماريا” باسطنبول في يناير 2024.
– المرحلة الرابعة (2023-2024) .. عودة استهداف التنظيم لتركيا:
عاود تنظيم “داعش” نشاطه في سوريا والعراق مرة آخرى منذ عام 2022 و2023، وبالتبعية سعى لتنفيذ عدد من العمليات الإرهابية في تركيا بيد أن الأمن التركي نجح في إحباطها، وأعلن عام 2023 أن “داعش” كان يخطط لشن هجمات ضد البعثات الدبلوماسية ودور العبادة المسيحية واليهودية في البلاد وتم إحباط ذلك، كما تم إحباط تفجير السفارة العراقية بأنقرة في ديسمبر 2023، بعد اعتقال 8 عناصر من “كتيبة سلمان الفارسي” التابعة “لداعش” كانوا يعدون لذلك، وكشفت أجهزة الامن التركية عام 2023 عن اعتقال (426) من عناصر “داعش” وقتلت زعيمه “أبو حسين القريشي” بسوريا في إبريل 2023، وأعلنت في نهاية العام أعتقال مسؤول “الشؤون الإدارية والمالية بالشام” التابع للتنظيم في ولاية مرسين جنوب تركيا، ثم شهد الربع الأول من عام 2024 أعلن “داعش” عن تنفيذ تفجير كنيسة إسطنبول.
ثالثًا: الأهداف التركية من ملاحقة “داعش”:
رغم تكثيف تركيا حملاتها لملاحقة عناصر تنظيم “داعش” الإرهابي إلا أن لها عدد من الأهداف تسعى لتحقيقها من ذلك بعيدة عن محاربة الإرهاب بالفعل، ومنها ما يلي:
– القضاء على التنظيمات الكردية: كافة التحركات التركية لمحاربة “داعش” تهدف منها أنقرة التأكيد على أن تواجد “داعش” في سوريا يشكّل تهديدًا لأمنها القومي، وتستخدمه أنقرة ذريعة لتبرير الهجمات المستمرة والقصف الجوي لها على شمال سوريا والعراق على معسكرات التنظيمات الكردية المسلحة وقوات (سوريا الديمقراطية) “قسد” (قوات كردية عربية تسيطر على نحو 30 % من مساحة سوريا وتقدر عدد قواتها بنحو 60 ألف مقاتل وتتمركز بالمناطق الكردية شمال سوريا ساهمت في محاربة “داعش” وتلقت تدريب وتسليح أمريكي مستمر)، جدير بالذكر أن التدخل العسكري التركي في شمال سوريا عدة مراحل:
- الأولى هي عملية “درع الفرات” التي بدأت في أغسطس 2016 وأعلن إنتهائها في 29 مارس 2017،
- والثانية هي عملية “غصن الزيتون”، التي بدأت في 19 يناير 2018 واستمرت شهرين،
- والثالثة هي تسيير دوريات مشتركة في شرق الفرات ومدينة منبج بشمال سوريا،
- والرابعة هي عملية “نبع السلام” التي بدأت في 9 أكتوبر 2019 وانتهت فعليًا يوم 17 من نفس الشهر.
وسبق للرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” في كلمته لكتلته البرلمانية لحزب “العدالة والتنمية” في أغسطس 2019 ان اتهم التنظيمات الكردية “حزب العمال الكردستاني””بي كا كا” و”وحدات الشعب الكردية” “بي واي دي” وهي التنظيمات التي تصنفها أنقرة “إرهابية” وشنت ضدها عمليات عسكرية متتالية في شمال سوريا والعراق خلال الفترة (2016-2020)، بالتعامل والتواطؤ مع “داعش” وأكد أن “الصراع بينهم هو تضارب في المصالح فقط، لأن هزيمة داعش واحتلال التنظيمات الكردية مكانه لن يحدث أي تغيير إيجابي للمواطنين بتلك المناطق، وأكد أن استهداف تركيا للمنظمات الكردية لا ينبع من عداء عرقي أو ديني، وإنما لإتباعها سياسة مناهضة للإرهاب”، وهذا ما كرره “أردغان” في 9 مايو 2024 حيث أكد “أنه آن الأوان لإزالة حزب العمال الكردستاني من جدول الأعمال”.
ويمكن تفسير خطاب “أردوغان” هذا بأنه يفضل سيطرة “داعش” على القرى والمدن بشمال سوريا بدلًا من سيطرة التنظيمات الكردية التي يصنفها كإرهابية ويرى أنها تهديد وجودي للدولة التركية حيث تعمل هذه التنظيمات على إنشاء “دولة كردية” باقتطاع أجزاء من جنوب تركيا وشمال سوريا والعراق، وهذا بالفعل يعد تهديد للأمن القومي التركي وللدولة ككل بيد أنه لا يمكن القبول بالتغاضي التركي عن تواجد “داعش” وتقديم دعم له مقابل محاربته للتنظيمات الكردية، ما يشير إلى عزم “أردوغان” شن عمليات عسكرية جديدة على المناطق الكردية بشمال سوريا والعراق مما سيؤدي لحالة من “الفوضى الأمنية” التي ستعزز نشاط عناصر “داعش” بالمنطقة، كما تسعى أنقرة لتأمين مناطق السيطرة التركية في شمال غرب وشمال شرق سوريا من التواجد الإرهابي، ومنع تسلل عناصر داعش من شمال سوريا والعراق لتركيا بعد تكثيف عمليات القصف الجوي التركي على معسكرات حزب العمال الكردستاني بهذه المناطق.
– الحصول على دعم دولي بمحاربة الإرهاب: تروج تركيا للمجتمع الدولي بأنها تحارب التنظيمات الإرهاب وتحتاج لدعم دولي سياسي عسكري لتحقيق ذلك، كما تعمل على إقناع المجتمع الدولي وواشنطن أنها جادة في محاربة الإرهاب ويمكن الاعتماد عليها أوروبيًّا وأمريكيًّا في ذلك، مما يساهم في حصولها على صفقات أسلحة جديدة ودعم سياسي ولوجيستي لمحاربة “داعش”، حيث تسعى تركيا لتقديم نفسها كوكيل غربي لمحاربة الإرهاب، ولتحقيق ذلك أعلنت في أغسطس 2023، عن أن “شرطة مكافحة الإرهاب” بإسطنبول تمكنت من الاستحواذ على قاعدة بيانات تحتوي على أسماء ومعلومات تفصيلية حول 9 آلاف و952 من عناصر “داعش” من “الذئاب المنفردة” في (الولايات المتحدة الامريكية، كندا، المملكة المتحدة، فرنسا، ألمانيا، بلجيكا، هولندا، السويد، النرويج، الدنمارك، سويسرا، النمسا، وإسبانيا)، وهم يمثلون خلايا التنظيم الإرهابي النائمة بتلك الدول، وهذا للتدليل على دورها الهام في مكافحة الإرهاب وضرورة التنسيق الأمني بينها وبين تلك الدول.
– التغطية على حالات قمع المعارضة والأكراد: تشن الحكومات التركية المتعاقبة عمليات اعتقال وقمع ضد الأحزاب والشخصيات الكردية داخل البلاد منذ الانقلاب الفاشل في منتصف 2016، بذريعة تورط الأكراد مع منفذي الانقلاب والتنظيمات الإرهابية، حيث تروج أنقرة الى وجود تواصل ودعم متبادل بين “داعش” وحزب “العمال الكردستاني” و”قسد” من جهة آخرى وهو ما تنفيه الأخيرة لأنها اشتركت في جهود محاربة التنظيم الإرهابي بسوريا منذ 2015 ومازالت حتى اليوم، بيد أن أنقرة لا تولى اهتمامًا لذلك، وتعمل على تقليص التواجد الكردي بها سياسيًّا واجتماعيًّا لا سيما بعد الانتخابات المحلية الأخيرة التي أجريت في مارس الماضي وفاز فيها حزب “الشعوب الديمقراطي” المؤيد للاكراد والذي يعد ثالث أكبر الأحزاب بتركيا بعدد من البلديات جنوب البلاد أبرزها (ديار بكر، فان، ماردين، هكاري)
خلاصة القول، أن الغموض هو السمة الغالبة على التعامل التركي مع تنظيم “داعش” حيث أنها تعمل على توظيف حربها ضده لتحقيق أهداف أخرى غير محاربة الإرهاب أبرزها القضاء على التنظيمات الكردية بشمال سوريا والعراق وإحباط أي محاولات لإنشاء “كيان كردي” بتلك المناطق، وتوسيع مناطق سيطرتها ونفوذها بشمال سوريا التي احتلت بها عدة مدن منذ عام 2016 بمعاونة “الجيش السوري الحر”، وللتدليل على ذلك ففي فبراير 2023 نشرت تقارير استخباراتية غربية تؤكد أن الكثير من قادة “داعش” هربوا إلى تركيا وعادوا منها إلى بلادهم، وبعضهم استقر في تركيا دون أن يتمّ كشفه من قبل السلطات أو الأجهزة الأمنية التركية، ولذا فإن أنقرة ستواجه معضلة أخرى بعد تحقيق أهدافها من محاربة “داعش” والتنظيمات الكردية التي لن تتمكن من القضاء عليها كليًّا لأنها جزء من النسيج المجتمعي التركي والسوري والعراقي، وتلك المعضلة تتمثل في عودة الأتراك المنخرطين بتنظيم “داعش” لبلادهم حيث تشير التقديرات إلى وجود ثلاثة آلاف تركي في التنظيمات الجهادية الموجودة في سوريا، منهم 750 شخص في صفوف تنظيم “داعش”، وعودة هؤلاء سيكون له العديد من التأثيرات السياسية والأمنية والاجتماعية وقد بدأت في الظهور بالفعل حيث انتشرت الجماعات والفكر الجهادي السلفي في المدن التركية الحدودية وإسطنبول أيضًا وهو ما يعد “غريبًا” على المجتمع التركي المنفتح على كافة الثقافات والأديان، ويهدد بزيارة الاحتقان المجتمعي بين أحزاب المعارضة العلمانية والأحزاب ذو الخلفية الإسلامية حال قررت الأخيرة مناصرة الجماعات السلفية، كما أن عودة الشباب التركي من “داعش” لبلاده سيمثل تهديد للأمن القومي للبلاد لأنهم ربما يسعون لتكوين “تنظيمات إرهابية” أو تنفيذ عمليات إرهابية لا سيما بالأماكن السياحية، ولذا الأحرى بالدولة التركية وضع خريطة طريق شاملة للتعامل مع تلك المعضلة أمنيًّا وسياسيًّا وفكريًّا.
* باحث أول ومحاضر في العلاقات الدولية والشأن التركي