بقلم: ماهر المهدي
القاهرة (زمان التركية)_ كان إسحاق رابين ذكيًّا: يتشدق -في كل مناسبة تتعرض فيها إسرائيل إلى هجوم كبير أو إلى حادثة صغيرة على أيدي المقاومة الفلسطينية- بأن إسرائيل بلد متقدم يحترم الإنسان -أيا كانت جنسيته وأيا كان انتماؤه- ويحترم المرأة، ويحترم الطفل ويفرق بين العدو وعناصره وبين المدنيين المسالمين، وبلد يمثل واحة الديمقراطية في صحراء للقهر والتخلف. وكان رابين يكسب أرضًا أكثر وأكبر كل يوم في المجتمعات الأوروبية وفي كافة المجتمعات المتقدمة تقريبًا، وخاصة عند تعرض بلده لهجمات مميتة من قبل المقاومة الفلسطينية مستعينة بشباب صغير السن هنا أو هناك. وقد كانت صورة رابين في المجتمعات الأوروبية -وهو يتحدث عن الإنسانية والقيم الرفيعة التي تمثلها إسرائيل -صورة صافية جذابة لرجل صادق يسعى إلى حياة آمنة في سلام لا يعكره-.
ألا بعض محبي العنف “المستغلين لبراءة الأطفال ” الرافضين للعقل وللحوار. فكان إسحاق رابين حقيقة متحدثًا نموذجيًّا – بالنسبة إلى بلده- ونموذجًا لشخصية مسؤولة تجيد توظيف الأحداث بدقة ووضوح وهدوء في صالح بلده، حتى لربما أقنع كثيرين في المجتمعات الأوروبية بوجه إسرائيل الأوروبي الراقي المحب للعمل والتقدم والديمقراطية والمحب للناس وللسلام.
أما ما رأيناه ونراه من إسرائيل الآن فقد يبدو كصورة لمجتمع تحول فجأة إلى جماعة عنصرية قاتلة تحاول القضاء على شعب آخر في وضح النهار. مجتمع يبالغ في ثقته في ذكائه وفي قدرته على استدعاء تعاطف المجتمعات الغربية والمجتمعات الأخرى المتعاطفة في كل مكان – على أساس من عناصر مشتركة تتمثل في العنصرية والتفوق والعداء المسلم به لأعداء مشتركين معرفين ومحل اتفاق وإجماع في هذه العشيرة أو النادي العنصري، وهو الأمر الذى سارعت كثير من الدول إلى نفي صلتها بها جملة وتفصيلًا طبعًا، فلا يوجد مجتمع سليم في جميع الأرض يقبل العنف للعنف ويرحب بقتل الناس وتهجيرهم وحصارهم وتصفيتهم بغير حق مهما إن كانوا هؤلاء الناس.
والحقيقة أنه حتى المجتمع الإسرائيلي نفسه -وفقًا لتقارير ذاتت مصداقية- يرضخ لتصرفات قيادته الحالية مرغمًا راضخًا، ولكنه يحاول التخلص من قيده من خلال الدعوة إلى الانتخابات. ففي النظم الديمقراطية لا يمكن إنهاء ترتيب أو هدم ترتيب إلا وفقًا للدستور وللقوانين المنظمة لهذه الترتيبات ومن خلال النظام، ليسود النظام ويعلو على الفوضى ولو استمر حاكم مكروه هو ومن حوله في الحكم لفترة. المدهش أن كل تماثيل الذكرى التي شيدت حول العالم وكل المناسبات التي أقيمت والتي تقام كل عام لتذكير العالم بالهولوكوست لم تنجح كثيرًا في تذكير أصحاب المعاناة التاريخية بمعاناتهم الأليمة وزجرهم بما يكفي عن تعذيب غيرهم وقتله ومحاولة تصفيته وتهجيره وتشويه صورته أمام العالم من أجل مزيد من الأرض ومن النصر الوهمي. إن النجاح والنصر الحقيقي لإسرائيل أن تثبت أنها فعلًا دولة ديمقراطية محبة للناس وللحياة وللإنسان ولمن يعيشون في المنطقة التي تأمل أن تعيش فيها