بقلم د. *منى سليمان
(زمان التركية)_أوضح الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” في منتصف مارس 2024 أن “الحرب الأوكرانية تؤثر على حلف شمال الأطلسي “الناتو” وتعهد بمواصلة الحوار مع جارتي بلاده بالبحر الأسود لوقفها”، وذلك بعد استقباله لنظيره الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” يوم 8 مارس 2024 في إسطنبول.
وتعد هذه المرة الثالثة منذ بداية العام الحالي، التي يدعو فيها “أردوغان” لاستئناف الوساطة التركية بين موسكو وكييف حيث يسعى من خلال ذلك لتعزيز مكانته بحلف “الناتو” كشريك استراتيجي موثوق به من قبل الدول الغربية، رغم تعاونه الاستراتيجي مع روسيا وكثرة التداخل والتقاطع في الملفات المشتركة بين موسكو وأنقرة، كما أنه يهدف من ذلك لتعزيز تعاونه مع أوكرانيا اقتصاديًّا وعسكريًّا بعد تراجع الدعم العسكري الأطلسي لها، وكييف من جهة أخرى تسعى للحصول على أكبر دعم عسكري تركي ممكن لا سيما بعد عقد عدة صفقات لبيع المسيرات التركية (البيرقيدار) لكييف مما عزز قدراتها الهجومية بالحرب، ورغم هذا تبقي تركيا أكثر الدول المرشحة للوساطة بين موسكو وكييف لا سيما في ظل الترحيب الأمريكي بذلك، ولذا ستكثف أنقرة جهودها في الفترة المقبلة لاقناع طرفي الحرب ببدء التفاوض خاصة بعد زيارة الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” المنتظرة لتركيا في منتصف العام الحالي، وهذا حال تم فإنه سيعمل على تعزيز مكانة تركيا “بالناتو” وإقليم البحر الأسود وسيحافظ على مصالحها مع روسيا وأوكرانيا على السواء، ويبقى التساؤل هل سينجح “أردوغان” في ذلك؟.
أولا: نتائج زيارة “زيلينسكي” لتركيا:
تكتسب زيارة “زيلينسكي” إلى تركيا أهمية خاصة فهي الزيارة الثانية له منذ بدء الحرب حيث زارها في يوليو 2023، كما تأتي بعد اجتماعات الآلية الاستراتيجية الأمريكية التركية في واشنطن التي تم فيها بحث الدعم الغربي الأطلسي لكييف، وبعد الاجتماعات بين وزيري الخارجية التركي والروسي على هامش “منتدى أنطاليا الدبلوماسي” الذي عُقِد جنوب تركيا مطلع مارس الحالي، وتأتي قبل زيارة الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بزيارة لأنقرة في إبريل أو مايو المقبل بعد الانتخابات الرئاسية الروسية والبلدية التركية المقبلة، وستشهد الزيارة بحث الوساطة التركية بين موسكو وكييف لوقف الحرب واستئناف اتفاق الحبوب، وقد استقبل “أردوغان” نظيره الأوكراني “فلوديمير زيلينيسكي” بإسطنبول في 8 مارس 2024، وعقد معه جلسة مباحثات موسعة بحضور وفدي الدولتين، شملت بحث “صيغة سلام تهدف إلى إنهاء الحرب مع روسيا، وإقامة تعاون ثنائي في مجال صناعة الدفاع، والإفراج عن أسرى الحرب الأوكرانيين الذين تحتجزهم موسكو”، كما..
– أبدى “أردوغان” استعداده لاستضافة قمة للسلام تشارك فيها روسيا وأوكرانيا في تركيا على مبدأ حماية وحدة الأراضي الأوكرانية وسلامتها الإقليمية، وتعهد بتقديم دعم قوي لإعادة الإعمار في أوكرانيا بمجرد إنتهاء الحرب، وأوضح أن “تركيا بذلت قصاري جهدها من خلال نهجها العادل والمبدئي لتحقيق السلام في الحرب المستمرة” بأوكرانيا للعام الثالث، وجدد دعوته لاستضافة قمة أوكرانية – روسية لإنهاء الحرب وشدد على دعم بلاده لوحدة أراضي أوكرانيا، وناقش الرئيسين تفاصيل التطورات الأخيرة للحرب الروسية- الأوكرانية والأمن الملاحي في البحر الأسود، وسبل استئناف اتفاقية الحبوب التي تم تعليقها في يوليو 2023 بعد انسحاب روسيا منها، وكشف “أردوغان” عن بدء مفاوضات للدخول في اتفاقية تجارة حرة بين تركيا وأوكرانيا مما سيضيف زخمًا جديدًا للعلاقات بينهم، حتى تصل حجم التجارة البينية إلى 10 مليارات دولار.
-بدوره أوضح “زيلينيكسي” أن “أنقرة وكييف يجب أن تعملا معًا لتحقيق الأمن الغذائي العالمي والأمن الملاحي بالبحر الأسود وضمان السلامة الملاحية غير المشروطة به، وكشف أن بلاده ترغب في تعزيز العلاقات الدفاعية مع تركيا، وتحتاج إلى مساعدتها في تأمين إطلاق سراح السجناء في روسيا”، وتم التوصل إلى اتفاقيات بشأن مشاريع دفاعية مشتركة وتم التوقيع على اتفاقية لتبسيط التجارة وإزالة الحواجز أمام الشركات، كما زار “زيلينسكي” حوضًا لبناء السفن بالقرب من إسطنبول وتفقد سير العمل على سفينتين حربيتين يجري تصنيعهما للبحرية الأوكرانية، وبالتزامن مع الزيارة أعلنت روسيا عن تدمير 47 مسيّرة أوكرانية فوق المناطق الجنوبية مما يضاعف من أهمية حصول كييف على مسيرات تركية جديدة لتعويض ما يتم فقده في المعارك مع روسيا.
جدير بالذكر أن الحرب الروسية الأوكرانية تحظى باهتمام “أردوغان” منذ مطلع العام الحالي، فقد شارك في فبراير 2024 برسالة فيديو مسجلة بعثها إلى القمة بين أوكرانيا وقادة دول البلقان، وجدد خلالها استعداد بلاده لإعادة تأسيس طاولة مفاوضات بين روسيا وأوكرانيا في إسطنبول من أجل السلام، وأبدى دعم خطة الرئيس فلاديمير زيلينسكي ذات النقاط العشر للسلام، وأكد أن أنقرة تدعم استقلال أوكرانيا وسيادتها ووحدة أراضيها، قائلًا: “تعلمون جميعًا أن تركيا تدعم استقلال أوكرانيا وسيادتها وأمنها ووحدة أراضيها، ونبذل قصارى جهدنا لحماية حقوق ومصالح أبناء جلدتنا تتار القرم”، وخطة “زيلينسكي” للسلام تنص على انسحاب روسيا من الأراضي الأوكرانية التي سيطرت عليها في جزيرة القرم وإقليم دونباس وتتعارض مع النهج الروسي للسلام الذي يؤكد الاعتراف بالواقع الميداني وعدم تخلى موسكو عن الأراضي الأوكرانية بعد اجراء استفتاءات شعبية اسفرت عن انضمامها لروسيا، وهذا يضيف ملف خلافي جديد بين موسكو وأنقرة، وعلى هامش “منتدى أنطاليا” في مارس 2024 أوضح وزير الخارجية التركي “حقان فيدان” أنه من جانب تركيا “لا نتحدث عن الاعتراف بالأراضي المحتلة”، لكن في المرحلة الحالية “تركيا مقتنعة بأن الوقت قد حان لفصل هذه القضية وموضوع السيادة عن موضوع وقف إطلاق النار”.
بيد أنه بعد أسبوع من زيارة “زيلينسكي” لأنقرة تراجع التفاؤل التركي بإجراء مفاوضات مباشرة بين موسكو وكييف، ودعت جميع الأطراف للعمل على تهيئة الأرضية للحوار ووقف إطلاق النار، حيث أشار وزير الخارجية التركي “حقان فيدان” أن “روسيا وأوكرانيا ليستا بوارد الجلوس إلى طاولة المفاوضات على الفور، وإنه يتعين على الأطراف الأخرى المعنية تهيئة الأرضية للحوار من أجل وقف الحرب، ومنع توسع الصراع”، وحذر من أن هذه الحرب التي تدور رحاها وسط أوروبا تشكّل خطرًا على المنطقة بأكملها، فضلًا عن التهديدات التي تشكّلها لأمن البحر الأسود وصادرات الحبوب.
ثانيا: تطور الموقف التركي من الحرب الأوكرانية:
أبدى “أردوغان” اهتمامًا بالأزمة بين روسيا وأوكرانيا حتى قبل بدء الحرب في 24 فبراير 2022، وقام بزيارة لكييف في عام 2021 وعرض وساطته لحل الخلافات بينها وبين موسكو، وبعد بدء الحرب أدان “أردوغان” الاعتداء الروسي على السيادة الأوكرانية ورفض الاعتراف بضم إقليم “الدونباس” وجزيرة القرم لروسيا، ويمكن التعرف على تطور الموقف التركي من الأزمة كما يلي:
– استضافت تركيا مفاوضات غير رسمية بين روسيا وأوكرانيا، خلال الدورة الثانية “لمنتدى أنطاليا الدبلوماسي” في مارس 2022، أعقبتها جولة بين وفدَي التفاوض عُقدت في إسطنبول، دون التوصل إلى نتائج.
-أختتم وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” زيارته لأنقرة في 8 يونيو 2022، والتي خصصت لبحث الأزمة الأوكرانية و اتفق مع نظيره التركي على التنسيق فيما بينهم لفتح ممر لتصدير الحبوب الأوكرانية،حيث ستقوم أنقرة بتنظيف مياه البحر الأسود من الألغام قبالة ساحل أوديسا الأوكرانية ومرافقة السفن المحملة بالحبوب التي ستغادر الميناء في حراسة سفن روسية حتى مضيق البوسفور. وسيتم طرح هذا المقترح على كييف والأمم المتحدة للتنسيق معهم بشأنه لحل أزمة نقص الغذاء الحالية لاسيما وأن روسيا وأوكرانيا مجتمعتين تنتجان 30 % من إمدادات القمح العالمية.
– وقع في 22 يوليو 2022 اتفاق “نقل الحبوب” بوساطة تركية أممية بغية نقل الحبوب المكدسة بالموانىء الأوكرانية للخارج ومنع حدوث أزمة بالأمن الغذائي العالمي، وقد بدء تنفيذ الاتفاق واستمر لأكثر من عام حتى تم إيقافه في يوليو 2023 بعد تعليق روسيا مشاركتها فيه.
-عقد في مدينة لفيف الأوكرانية يوم 18 أغسطس 2022 قمة ثلاثية بين الرئيس الاوكراني “فولوديمير زيلينسكي” والتركي “رجب طيب أردوغان” والأمين العام للأمم المتحدة “أنتونيو جوتيريس” وناقشوا تطورات الحرب الروسية – الأوكرانية والمخاوف المتعلقة بمحطة “زابوريجيا” النووية وملف تصدير الحبوب.
في نهاية 2022 دعت أنقرة الدول الغربية إلى عدم “حرق الجسور مع روسيا” وأعلنت إخراج 13 مليون طن من الحبوب الأوكرانية منذ توقيع الاتفاق في أغسطس 2022، ومن جهة آخرى أكدت واشنطن أن تركيا هي المكان الذي تجري فيه المناقشات بين رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ونظيره الروسي، مما عزز مكانتها كوسيط مقبول من كافة أطراف الأزمة.
– قام “زيلينسكي” بزيارته الأولى لـ أنقرة منذ بدء الحرب في 7 يوليو 2023، وأبدى “أردوغان” حينها موافقته على انضمام أوكرانيا “للناتو” رغم مماطلته لانضمام فنلندا والسويد للحلف، ودعا “روسيا وأوكرانيا للعودة لمباحثات السلام”، وتناولت المباحثات بين “أردوغان” و”زيلينسكي” الاتفاق الذي يتيح تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود رغم الحرب – الدعم العسكري لكييف لتعويض النقص في الدعم العسكري الأوروبي لها، وبختام الزيارة عاد مع “زيلينيسكي” مقاتلي “آزوف” من تركيا لأوكرانيا في 9 يوليو 2023 وهم سبق أن أسرتهم موسكو وسلمتهم في صفقة تبادل لتركيا نظير عدم الإفراج عنهم، وقد اعترضت موسكو على ذلك رعم أنها أثنت غير مرة على دور الوساطة التركي الذي تقوم به أنقرة لحل النزاع في أوكرانيا.
– أجرى “زيلينسكي” اتصال هاتفي “بأردوغان” في نهاية أكتوبر 2023 وأعلن مشاركة تركيا بإجتماع بشأن السلام في أوكرانيا، نظمته كييف في مالطا ولم يشارك بالاجتماع أي ممثلين عن روسيا، وقدم الشكر “لإردوغان” على دعمه الدائم لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها، حيث ترفض أنقرة حتى اليوم الاعتراف بشرعية ضم روسيا “جزيرة القرم” عام 2016 وإقليم “الدونباس” عام 2023 لها وتؤكد أنهم أراضي أوكرانية محتلة من روسيا.
– تتمتع تركيا بتعاون دفاعي وعلاقات تجارية مع أوكرانيا، وساهمت المسيرات التركية في تعزيز الاسطول الجوي الاوكراني وتنفيذ هجمات على الحدود الروسية، ففي نهاية يونيو 2022 وهبت شركة “بايكار” التركية لصناعة الطائرات المسيرة الجيش الأوكراني ثلاثاً من طائراتها، كما قدمت أنقرة لكييف صفقات من المسيرات (بيرقيدار تي بي 2 القتالية) ودعت إلى احترام سيادتها، وأكد سفير أوكرانيا بأنقرة “فاسيل بودنار” إن بلاده تعمل على إقامة مصنع للمسيّرات التركية على أراضيها، وستقوم باقتناء المسيرة المقاتلة التركية الحديثة من الجيل الخامس (كآن) التي دخلت الخدمة في فبراير 2024.
– في منتصف فبراير 2024 اتهم “أردوغان” المعارضة التركية خاصة حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة بمحاولة جر بلاده إلى الصراع بين روسيا وأوكرانيا عبر زعزعة الاستقرار في حوض البحر الأسود وتوجيه اتهامات لروسيا، جدير بالذكر أن المرشح بالانتخابات الرئاسية التركية السابقة عن حزب الشعب “كمال كيليشدار أوغلو” دعا لإنضمام تركيا إلى العقوبات ضد روسيا واتهم موسكو بالتدخل في العملية الانتخابية الرئاسية بتركيا مما أدى لانخفاض في التدفق السياحي الروسي لتركيا العام الماضي، وبنهاية فبراير 2024 وجه “أردوغان” رسالة مباشرة لكل من روسيا وأوكرانيا لإنهاء الأزمة بين البلدين بالطرق الدبلوماسية، وإيقاف العمليات العسكرية.
ثالثًا: المعضلة التركية بالحرب الأوكرانية:
منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية يسعى “أردوغان” لاستغلال الفرصة لتعظيم مكاسبه الاستراتيجية منها، من خلال التوازن في الحفاظ على علاقته الاستراتيجية بموسكو ودعمه لكييف وتواجده كعضو بحلف شمال الأطلسي “الناتو” الذي يقدم دعم عسكري غير مسبوق لكييف، ومن هنا تأتي المعضلة كيف لأنقرة تحقيق ذلك، فهي تمتلك ثاني أكبر جيش بحلف “الناتو” وتشترك بحدود بحرية مع أوكرانيا وروسيا بالبحر الأسود، وحافظت على علاقات تعاون مع أوكرانيا وتعاون استراتيجي مع روسيا خلال الحرب وقدّمت دعماً عسكرياً لأوكرانيا، وفي المقابل، عارضت العقوبات الغربية على روسيا. بيد أنها تخشى التوسع الإقليمي للحرب لتشمل دولا آخرى أو خوض “الناتو” حربا مباشرة مع روسيا حليفتها مما سيؤثر على المصالح الاقتصادي بينهم وسيجعلها بين المطرقة والسندان فهي كعضو “بالناتو” يجب أن تخضع لقواعد الحلف كما أن لها مصالح استراتيجية مع روسيا تمنعها من خوض حرب مباشرة معها، ورغم ذلك حاولت تركيا الموازنة بين علاقتها بروسيا وعضويتها بالحلف فوافقت بعد مفاوضات استمرت عام ونصف على عضوية فنلندا والسويد بالحلف كما تشارك في مناورات (المدافع الصامد 2024) وهي أكبر مناورات للحلف تستمر ثلاث أشهر بدول وسط أوروبا وتحاكي حرب مباشرة مع روسيا، لتثبت أنها عضو مؤثر استراتيجي “بالناتو”، وتتمثل المصالح الجيواستراتيجية التركية التي تسعى للحفاظ عليها من خلال طرح وساطتها بين موسكو وكييف فيما يلي:
– استمرار تطبيق “اتفاقية مونترو” بالبحر الأسود: يُعد البحر الأسود بحر داخلي يربط الجزء الجنوبي الشرقي من أوروبا وآسيا الصغرى، تطل عليه ست دول هي (روسيا، أوكرانيا، جورجيا) وثلاث دول “بالناتو” (رومانيا، بلغاريا، تركيا) ويتصل بالبحر الأبيض المتوسط ومنه بالمحيط الأطلسي عبر مضيق “البوسفور” وبحر مرمرة بتركيا، ووقعت 10 حروب على سواحله منذ نهاية الحرب الباردة 1990، وتصب فيه عدة أنهار عذبة أبرزها “الدانوب” الذي يربطه، وقد تكثفت الضربات الروسية على مدينة أوديسا جنوب أوكرانيا الواقعة على البحر الأسود مما يهدد أمن الملاحة به، ويأتي الموقف التركي هنا معارضا لموسكو وواشنطن حيث تتمسك أنقرة بتطبيق “اتفاقية مونترو” عام 1936 والتي تمنحها الحق في “منع عبور السفن الحربية من وإلى البحر الأسود عبر المضائق التركية”، مما سيقلص الوجود البحري لحلف “الناتو” بالبحر الأسود وكذلك سيعرقل عبور السفن الروسية للبحر المتوسط،ورغم هذا لا يمكن تجاوز تركيا كدولة مشاطئة هامة تملك ثاني أطول سواحل بالبحر الأسود وأقوى قوات بحرية “بالناتو” تطل عليه، كما تسعى أنقرة لتعزيز مكانتها كدولة فاعلة بإقليم البحر الأسود حيث وقعت مع رومانيا وبلغاريا اتفاقية في يناير 2024 لإنشاء مجموعة لمكافحة الألغام في البحر الأسود وجعله منطقة آمنة وقابلة للعمل من الناحية التشغيلية عبر خطة عمل سنوية سيتم تحديدها على أن تتداول قيادة المبادرة كل ستة أشهر وتعيين قادة الوحدات والأسطول الذين سينفذون المهمة من جانب الدولة التي ستتولى القيادة، جدير بالذكر أن البحر الأسود به أكثر من (420 لغم) بالموانىء الأوكرانية وقامت تركيا بإبطال مفعول عدد منها قرب حدودها.
-تعزيز التعاون العسكري التركي الأوكراني: تتميز العلاقات بين أنقرة وكييف بتعاون سياسي جيد وتعاون عسكري متصاعد من خلال شراء كييف مسيرات تركية (طائرات بدون طيار) من طراز (بيرقيدار 1 -2) دون طيار، ومن المقرر بيع عدد من صفقات المسيرات التركية لكييف، كما أفادت تقارير روسية اتهمت واشنطن في فبراير 2024 بأنها تعمل على إقناع تركيا بمنح كييف جزء من مخزونها من “قذائف المدفعية” التابع “للناتو” لتعويض ما فقدته الأخيرة خلال الحرب، بيد أن أنقرة ترفض حتى الآن خشية من رد الفعل الروسي، ولا يقتصر الدعم العسكري التركي لكييف على تقديم المسيرات التركية الحديثة، حيث أوضحت تقارير استخباراتية أن أنقرة تمكنها نقل “عناصر مقاتلة” من سوريا أو ليبيا العاملة ضمن الميليشيات المسلحة الموالية لتركيا إلى أوكرانيا لدعم الجيش الأوكراني الذي يشهد تسريح عناصره بعد انتهاء فترة “التجنيد الرسمي” لهم، وهو ما أدى لنقص في عدد القوات الأوكرانية.
-تأمين المخزون التركي من القمح: تركيا تحتاج للقمح الروسي والأوكراني حيث ضاعفت مشترياتها من القمح الروسي إلى 9 ملايين طن قمح مقابل 2.7 مليار دولار ومن أوكرانيا إلى 2.5 مليون طن عام 2023، بزيادة بمقدار الثلث مقارنة بعام 2022، ولذا تحافظ تركيا على علاقات جيدة مع موسكو وكييف لتأمين احتياجاتها من القمح، وحتى تتجنب ارتفاع سعره في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها حاليا حيث يعاني الاقتصاد التركي من ارتفاع معدلات التضخم التي تجاوزت 65% في فبراير 2024.
– استئناف الوساطة واتفاق تصدير الحبوب: تسعى تركيا لاستئناف الوساطة بين روسيا وأوكرانيا بشكل رسمي، وربما يكون هذا ممكن بعد الانتخابات الرئاسية الروسية المقبلة، وبعد نتائج الانتخابات الأمريكية المقبلة بنهاية العام الحالي حيث إنه حال فاز مرشح الحزب الجمهوري “دونالد ترامب” فإن نهاية الحرب الأوكرانية ستكون وشيكة، كما أن “ترامب” يتمتع بصداقة شخصية مع “أردوغان” مما سسكون عاملا محفزا لاستئناف الوساطة التركية.
جدير بالذكر أن روسيا أعلنت مباشرة استعدادها لبدء التفاوض لوقف الحرب مع أوكرانيا شريطة الاعتراف بالواقع الميداني وعدم الانسحاب من الأراضي الأوكرانية التي سيطرت عليها “بجزيرة القرم وإقليم الدونباس” وهو ما ترفضه كييف، التي تعتمد على الدعم الغربي سياسيا وعسكريا واقتصاديا لها وحال تغير هذا الدعم ربما تغير كييف موقفها لاسيما مع طول أمد الحرب وتغير القيادات السياسية الأوروبية والأمريكية، وفيما يخص اتفاق تصدير الحبوب فربما يتم استئنافه سريعا بعد زيارة “بوتين” المقبلة لتركيا حال وافق على العودة للاتفاق الذي انسحب منع العام الماضي.
– تعزيز مكانة تركيا الإقليمية والدولية: تعد تركيا دولة إقليمية مؤثرة في إقليم القوقاز وآسيا الوسطى وتمكن “أردوغان” من توظيف وضع تركيا الجيوسياسي والدبلوماسي والاستراتيجي واستغلال الحرب الأوكرانية لتعزيز علاقاته بدول آسيا الوسطى الحبيسة وإنشاء ممرات إقليمية لنقل الطاقة منها لأوروبا عبر تركيا، كما أن دعمه العسكري لأذربيجان ساهم في استعادتها لإقليم “كاراباخ” وانتصارها على آرمينيا، مما عزز مكانته بالفناء الخلفي لروسيا التي انشغلت بحربها في أوكرانيا، وقد رحبت واشنطن ضمنا بذلك لأنها ترغب في تواجد تركيا عضو الناتو في تلك المنطقة كمنافس لروسيا، وكوكيل لواشنطن مما سيعزز مكانة تركيا بالحلف وعلى الصعيد الدولي.
وفيما يخص الموقف الأوكراني فإن كييف تسعى للحصول على أي دعم عسكري تركي بعد تضاؤل المساعدة الغربية لها، ومع التقدم الروسي الميداني بشرق أوكرانيا وتقليص الدعم العسكري الأوروبي والأمريكي لكييف يمثل ضغطا عليها مما دفعها للإعلان عن تسريح عدد من مجنديها حيث وقع “زيلينسكي” عشية زيارته لتركيا على مرسوم يسمح بتسريح مجندين انضموا إلى الجيش قبل بدء الغزو الروسي في 2022 وأكملوا خدمتهم، في وقت تواجه كييف صعوبة في التجنيد لتعويض الجنود المنهكين بعد عامين من الحرب موضوعا هاما بالأشهر الأخيرة لكييف.
مما سبق، نجد أن تركيا تعمل على الحفاظ على مصالحها الجيوسياسية بمنطقة البحر الأسود والقوقاز عبر طرح وساطتها بين موسكو وكييف مرة آخرى والترويج لنفسها على أنها وسيط محايد، بيد أن استمرار وتعقد مسار الحرب الأوكرانية ربما يضع أنقرة أمام خيارين وهما الحفاظ على تعاونها الاستراتيجي مع موسكو أو مكانتها بحلف “الناتو” الذي بدأ بالفعل في الإعداد لمواجهة مباشرة مع روسيا، فهل ستلتزم أنقرة بقواعد الحلف وتحارب روسيا مباشرة أو تدعم كييف عسكريا لتنتصر على موسكو، وكيف ستدير الملفات المتشابكة الروسية التركية فهما طرفان في عدة ملفات منها الملف (السوري، اللبيي، الأذري، الوضع بآسيا الوسطى، أوكرانيا، الفلسطيني، شرق المتوسط، ..) وذلك في ظل عدد من المتغيرات الجيوسياسية الإقليمية والدولية التي تعقد أي اتفاقيات ثنائية بينهم، ولذا على صانع القرار التركي إعادة صوغ توازنات السياسة الخارجية له بناء على ذلك، كما أن زيارة “بوتين” المقبلة لتركيا ربما تجيب عن بعض هذه التساؤلات.
*د. منى سليمان
باحث أول ومحاضر في العلاقات الدولية والشأن التركي