الرحيل يطرح فاتورة الحساب فورًا على المائدة وأمام الجميع . كل الرحيل . والحساب الشخصي لا يعرف الحدود ولا يعرف الجدران ولا حتى حدود الوقت.
فالأسئلة في هذا الحساب مفتوحة الموضوعات ومفتوحة الوقت حتى النهاية.
والحكم ليس بغريب وليس من أحد غيرنا . فنحن نسأل أنفسنا أو نحاكم أنفسنا بالتطرق الى كل الأسئلة وكل الصور والمواقف التي يعرفها الجميع والتي لا يعرفها إلا نحن فقط أيضًا.
فالهدف -بيننا وبين أنفسنا وأمام المرآة الشخصية- هو الاستجابة لإلحاحنا الشخصي ورغبتنا الصادقة في الوصول إلى الحقيقة.
الوصول إلى الحقيقة الساطعة التي قد تترك ألمًا أو تسكت عنا وجعًا أو خوفًا أو غضبًا. وعندما نضع الأسئلة على مائدة الحساب غير مغلفة وغير مطلية بما يغيرها أو يخفي معالمها نكون قد قطعنا معظم المسافة المؤلمة في طريق تسوية تتصل حيويتها بقرارنا الشخصي فقط لا غير. ولا حكام أو قضاة في هذا الحساب سوانا نحن، ولذلك فكل الألوان صحيحة واضحة.
رغم الوقت المفتوح على مائدة الحساب، ورغم الخصوصية التي تطوق كل شيء ، إلا أن إنهاء هذا الحساب على أفضل وجه وفي أقرب فرصة قد يكون إنجازًا سعيدًا في عمل مرهق نفسيًّا وذهنيًّا لكل الناس، إلا الذين شرحوا صدورهم باللامبالاة مهما حدث.
التذكر يفتح جروحًا قديمة وأخرى بالغة القدم، ويرهق ويجهد القلب والعقل والأعصاب حيث لا يمكن الشرح لأحد ولا يمكن الاسترخاء على كتف أحد. فالكل على مائدة الحساب وحيد الا من خياراته وخيالاته والأحداث والحقائق.
الرحيل صدمة متوقعة طوال الوقت، ولكنها ما تزال صدمة مفاجئة ومؤلمة. ولا توجد إجابات لبعض الأسئلة، لأن بعض المواقف ليست إلا مواقف افتراضية لم نعشها فعلًا ولو بدت جديرة فعلًا بالحدوث في حينه. فمشكلة الحساب عند الرحيل أنه لا يستطيع العودة بنا إلى الماضي، ولا يستطيع تحقيق الافتراضات الجدلية. وعندما ترفع مائدة الحساب تكون ملامحنا قد تغيرت قليلًا أو كثيرًا بحسب الحال وبحسب تطورات الحساب وسهولته وصعوبته. فالرحيل يقتطع منا أجزاء متتالية ببطء ويترك مكانها قطعًا مؤلمة من إسفنج ملون .
ماهر المهدي