أنقرة (زمان التركية) – تأتي أزمة الحرب الإسرائيلية على غزة بينما يصف الساسة والاقتصاديون بل والمؤرخين الوضع العالمي بمصطلحات من قبيل “المنافسة بين القوى الكبرى” و” الأزمة التعددية” و” الأزمة الدائمة”.
وبدأت هذه الأزمة في تعميق الغموض الاقتصادي والجيوسياسي على الصعيد الدولي ومستوى تركيا بالعديد من الجوانب.
ويمكن القول إن التداعيات الاقتصادية للازمة تخطت حدود المنطقة وأن هناك اتجاه قوي بأن تتسع على النطاق العالمي، فنحن نواجه مشهدا شديد التعقيد من ناحية التأثيرات السياسية أو الجيوسياسية للأزمة.
عند اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس كانت الاقتصاديات العالمية بدأت تسير على نحو إيجابي، فقد تعزز النمو والتوظيف بالاقتصاد الأمريكي وبدأت البنوك المركزية في إخضاع التضخم للرقابة دون التسبب في ركود من خلال الفوائد المرتفعة.
وكان بول كروغمان يتحدث في مقاله بصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية عن فوز الولايات المتحدة بالمعركة مع التضخم.
وكانت الأزمة المرتقبة بسوق العقارات في الاقتصاد الصيني وأزمة القروض بوجه عام قد بدأت تتقلص بفعل الدعم المالي الحكومي.
وكانت الموازين المالية للدول النامية تعكس صمودا أذهل أستاذ الاقتصاد والسياسة العامة بجامعة هارفرد وكبير الاقتصاديين السابق بصندوق النقد الدولي، كينيث روجوف، رغم الفوائد المرتفعة.
وكان التراجع النابع من عدم كفاية الطلب في تكاليف الشحن والسفن والحاويات، التي تعكس اتجاهات التجارة العالمية، منذ نحو شهر مارس/ آذار قد توقف وبدأت بعض المؤشرات تعكس تعافيا.
أي باختصار تم تجاوز تداعيات جائحة كورونا، غير أنه في الوقت نفسه حذرت مجلة ايكونومست من عدم استمرارية الوضع لأكثر من هذا.
في الواقع كان العالم بصدد مرحلة ستنفذ فيها وتيرة الاتجاه الإنفاقي المتزايد بسرعة وسيبدأ فيها الشعور بتأثير الفوائد المرتفعة على الأسر والدائنين وذلك مع انحصار تأثير جائحة كورونا.
أما الأسواق فكانت تترقب استمرار الارتفاع في أسعار الفائدة لفترة أطول. وكان هذا الترقب سيضيق الخناق على تمويل الموازنات في أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي التي تتواصل الزيادة بعجز الموازنات بها.
وبفعل ضغوط الفائدة المرتفعة فقد تحل الهشاشة محل المتانة التي عكستها الدول النامية حتى يومنا هذا وقد تتحول أزمة الديون الصامتة وجهود تدوير الديون إلى كابوس مثلما ذكرت صحيفة فايننشال تايمز.
وتزامن اندلاع الحرب في تلك الفترة التي كان جميع الاقتصاديين يرون أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر أكثر من هذا، فالحرب حركت ديناميات ستزيد من الهشاشة بالاقتصاديات العالمية بشكل لا يمكن تجنبه.
ويمكن تناول هذه الديناميات في ثلاثة بنود ألا وهي التضخم (وبالتالي الاتجاه العام للفائدة) والتجارة والاستثمار والجغرافيا السياسية والأمن (التي ستؤثر عليها جميعا)
التضخم:
مثلما أفاد كاتب صحيفة فايننشال تايمز، مارتن وولف، فإن الشرق الأوسط لا يزال يمتلك 48 في المئة من احتياطي الطاقة العالمي و33 في المئة من انتاجه بكونه أهم منتج للطاقة على الصعيد العالمي بفارق كبير.
ولا يزال النفط يشكل أكثر من 30 في المئة من استهلاك الطاقة الأولي على الصعيد العالمي، حيث يتم نقل خمس النفط العالمي (ما يعادل 20 مليون برميل يوميا) عبر مضيق هرمز.
الشرق الأوسط منتج ومصدر مهم للنفط وأي عرقلة بالمنطقة قد تؤثر على العرض والطلب لهذه السلعة الحيوية.
يتوقع البنك الدولي أن يرتفع سعر برميل النفط إلى ما بين 93 و102 دولار في حال حدوث أي صراع سيقلص صادرات الخليج بنحو 2 مليون برميل يوميا وهو ما يعادل 2 في المئة من العرض العالمي.
وفي حال حدوث حرب كبيرة من شأنها تقليص صادرات الخليج بنحو 6-8 مليون برميل يوميا فإن هذا قد يرفع سعر برميل النفط إلى ما بين 141 و157 دولار، وشهدت أسعار الغاز الطبيعية ارتفاعا بأكثر من الثلث منذ اندلاع الحرب.
وترى بلومبيرج أن أي صراع مباشر بين إيران وإسرائيل وإغلاق إيران لمضيق هرمز قد يرفع أسعار النفط الخام إلى أكثر من 150 دولار للبرميل. وقد يرتفع التضخم العالمي بفعل هذا إلى 6.7 في المئة خلال العام القادم وتباطؤ النمو العالمي بنحو 2 في المئة.
وفي حال تحقق هذه التوقعات ستتسارع وتيرة تدهور اقتصاديات الدول المستوردة للنفط والغاز وستتراجع قدرتها على الاقتراض وجدول القروض بسبب استمرار الارتفاع بمعدلات الفائدة.
التجارة والاستثمار:
الحرب دمرت اقتصاد قطاع غزة وليس من المعروف إلى أي مدى سيتحمل الاقتصاد الإسرائيلي تداعيات هذه الحرب رغم تلقيه 200 مليار دولار.
التعبئة العام واستدعاء الاحتياط بدأت في خلق نقص في العمالة الماهرة في الاقتصاد بوجه عام قطاع التكنولوجيا الذي تشتهر به إسرائيل عالميا بوجه خاص.
وقد تؤثر الحرب في الوقت نفسه على تدفق التجارة والاستثمارات بين الشرق الأوسط وسائر العالم من جهة وداخل المنطقة من جهة أخرى، إذ ترى صحيفة فايننشال تايمز أن الصراع قد يقلل من فرص التعاون والتكامل الاقتصادي بين الدول العربية وعلاقاتها مع إسرائيل وقد تصرف السياح والمستثمرين الأجانب عن القدوم إلى المنطقة.
ومن الممكن ترقب تزايد اتجاه العودة للمناطق الصديقة الذي بدأ في سلاسل الشحن بفعل الضغوط الجيوسياسية والحروب التجارية وذلك نتيجة للمخاوف الأمنية المتزايد على الصعيدين الإقليمي والدولي. وهذا من شأنه زيادة الضغوط التضخمية الذي يؤكد البنك المركزي الأوروبي أنها سترفع أسعار العودة للمناطق الصديقة.
الجغرافيا السياسية والأمن:
قد تسفر الحرب عن نتائج جيوسياسية وأمنية للاقتصاد العالمي، إذ أن الحرب قد تعزز التوترات وعدم الاستقرار بالمنطقة وخارج حدودها وهو ما قد يعزز الهشاشة التي أكدت عليها الإيكونيميست على صعيد الاقتصاد العالمي.
ويرى بعض المعلقين أن إيران تدعم حماس في غزة وحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن والميليشيات الأخرى في الوقت الذي تدعم فيه الولايات المتحدة إسرائيل عسكريا ودبلوماسيا.
وبهذا تصبح إيران دولة تتمتع بقدرة إدارة العديد من حروب الوكالة ضد إسرائيل والولايات المتحدة في المنطقة.
وعلى الرغم من كون روسيا والصين حلفاء مقربين لإيران فإن اعتبار الولايات المتحدة وإسرائيل إيران كمشكلة في موازين القوى الكبرى على الصعيدين الإقليمي والعالمي يعزز من احتمالية اتساع رقعة الحرب.
وتطلق كل من الصين وروسيا دعوات لوقف فوري لإطلاق النار وإقرار حل سياسي للازمة، حيث نقلت صحيفة الجارديان عن وزير الخارجية الصيني قوله إنه يتوجب على المجتمع الدولي منع خروج الحرب عن السيطرة وتجنب اندلاع صراع جديد بالشرق الأوسط.
ومن جانبه شدد وزير الخارجية الروسي على ضرورة احترام إسرائيل للقانون الدولي وحقوق الإنسان مشيرا إلى كون الهجوم تصعيدا خطيرا.
ويبدو أن الحرب بين إسرائيل وحماس كشفت التحالفات القائمة في البيئة التنافسية بين القوى الكبرى بشكل أوضح.
موجة جديدة من المهاجرين
احتمالية تأجيج الحرب لصراع أكبر سيشمل العناصر الأخرى بالمنطقة يثير مخاوف كبيرة، إذ من المنتظر أن تثير الحرب موجة جديد من المهاجرين لتسببها في أزمة إنسانية بالمنطقة.
مؤخرا أعلنت وزارة الصحة بقطاع غزة الخاضع لحكم حماس منذ عام 2006 في التاسع عشر من الشهر الجاري استشهاد 13 ألف فلسطيني في الحرب البرية التي تشنها إسرائيل على القطاع.
وتشهد العديد من العواصم العالمية تظاهرات مطالبة بوقف إطلاق نار في ظل تساعد حاد في معاداة الصهيونية بجانب تصاعد مخاوف من موجة إرهاب جديدة.
في النهاية ستعزز الحرب الاضطرابات الجيوسياسية على الصعيدين الإقليمي والدولي وسيرافق هذا العديد من السلبيات بدءا من أسعار الطاقة والسلع ومعدلات التضخم والفائدة المرتفعة وصولا إلى أزمات قروض محتملة.
ويرى بعض المراقبين أن الاقتصاد العالمي قد يشهد ركودا في حال عدم السيطرة على الوضع خلال فترة قصيرة.