بقلم: ماهر المهدي
(زمان التركية)- كل منا يحب نفسه، فالناس تحب أنفسها، وكل الوجود يحب نفسه، ولكن هناك حب ذكي للذات -أي في ظل وعي وإدراك- وهناك حب للذات يخدر الإدراك الذاتي ويخدعه ويكسر الحواجز ويتخطى الحدود بلا حساب للعواقب. والحدود قوة مقيدة بحساب ويعاقب، ولو بدت لينة أنيقة منمقة، لأن حارس الحدود لا ينام ولا يغفل ولا يستغفل ولا يقبل هدية وليس أقارب يسعى إلى منحهم والأعراق عليهم بحق وبغير حق وما هو بطامع في وظيفة ولا في مد خدمة انتهت. فما وراء الحدود لا يخصك ولا يخصني، والاعتداء عليه هو عمل لا تقره أنفسنا -قبل الغير- ولا ترضى به ولا بما قد يجلبه من نفع ظاهر. فلا خير بالطبع فيما يأتي به ظلم واعتداء، وإلا لفسدت الحياة واشتعلت الأرض حروبًا يمنة ويسرة.
الحقيقة، أن الإنسان هو مصدر الخطر الصغير ومصدر الخطر الكبير على نفسه، فما ينفع من قبل الإنسان هو ما يقوده إلى أمان ونجاح وسلام، أو يقوده إلى قلق وخطر وتعثر وفزع. كما الإنسان يعيد أخطآه الأزلية باستمرار ولا يحفظها لينجومنها إلا قليلًا. ففي زخم الفرح بالوفرة في الثروة وفي الأبناء، قد يشعر الإنسان -في كل بلاد الدنيا، في القرية وفي المدينة وفي الصعيد وفي الدلتا- أنه يستحق كل ما حوله وكل ما يخص الآخرين وخاصة الضعفاء منهم، لأنهم لا يستحقون -في نظره- شيئًا من الحياة وربما كان الأولى بهم الوفاة أو السقوط في بئر سحيقة وفي غياهب النسيان. وقد يشرع الإنسان فورًا وفعلًا -هو وأبناؤه- في تنفيذ رؤاهم وخيالاتهم، ليكسروا الحواجز ويتخطوا الحدود ويصبحوا في لحظة ما معتدين آثمين مجرمين مكروهين مطاردين، بعد أن كانوا قبل قليل محط الأنظار وأمل الحالمين بكل جميل. وما الاستيلاء على شغل الآخرين وعلى أفكارهم وعلى دفن جدارتهم -بالتجاهل والاخفاء- وأكل حقوقهم المشروعة في التقدم والنمو سوى عدوان بين وإنكار للحدود. وفي نفس اللحظة الذي يسقط فيها الكبير ذو الوفرة في الثروة وفي الأبناء يصعد درجات كل كريم -ولو كان فقيرًا لا يملك سوى قوت يومه- ويعلو مرتبة على كان بالأمس مثالًا للكرام وللعظماء.
الواقع، أن من عدل -سبحانه تعالى- أن مع العسر يسر وأن مع الظلم ظلام وخسر وسقوط -ولو كان الظالم الخاسر في سماوات العلو والسؤدد- وهناك عقاب ينمو قدر نمو الظلم وفي سرعته ليصبح لاحقًا عقابًا ضخمًا قادرًا على قهر ظلما جامح والاجهاز عليه تمام. إن العقاب لواقع، فهكذا تستمر الحياة، ولكن الإنسان ينسى. ولو كان الظلمة الغاشمون قد نجوا بأفعالهم وإجرامهم في ثنايا القرون والعقود وفي طرقات آلاف السنين المنصرمة، لما بقي خير في الأرض ولطالعتنا وجوههم السوداء التي يغشاها الظلام في حلل العظمة والكبرياء التي تزينوا بها يومًا ما.