بقلم: ماهر المهدي
(زمان التركية)- كل شىء ممكن فى بلاد الحضارة، لأن الحرية هى سر الإبداع وسر التقدم وسر السلام الاجتماعى. فكل نافع وكل بديع هما نتاج تعدد الآراء وهنا نتاج اختلاف الأذواق واختلاف الخبرات -فى شتى المجالات- وهما نتاج اختلاف النجاحات والاخفاقات التى يخوضها ويتعرض لها عشرات الملايين فى مجتمع ما.
ولا تجربة ولا نجاح ولا جديد ولا إخفاق الا فى تجربة حرة وحقيقية يلمس فيها الانسان أرض وجدران العالم الجديد فى تجربته الخاصة. إن ما تقدم هو الواقع أو هذا هو ما كشفته وتكشفه الأيام والتجارب الانسانية الواعية.
فالوعى والإدراك أساس فى منح الفعل او التصرف او القول قيمته الحقيقية. وبدون الإدراك، قد لا يوجد حق وقد لا توجد مسؤولية وقد لا يوجد تعلم واضافة الى رصيد الخبرات والى رصيد المعرفة والى مناهج التحرك والعمل والانتاج والتقدم.
ولذلك، فقد نحت الدول المتقدمة منحى متوسعا في منح الحريات في دساتيرها الوطنية، من أجل تشجيع الإقبال على البحث وعلى التعلم وعلى المغامرة الهادفة وعلى التجربة النافعة وعلى خوض مجالات لم تطرق من قبل وعلى تقديم تصورات لم تعرض من قبل وعلى التماس النفع وراء حدود الخوف فى عقول البعض وعلى ايجاد الطموح والأمل مهما ضاق الحال وأظلمت الظروف.
ولأن المشرع – فى كل بلاد الدنيا – لا يرى الغيب بعين رأسه ولا يستطيع التنبؤ به ولا يستطيع السير فى أكثر من اتجاه فى آن واحد، فقد كان على المشرع دائما- وسيظل على المشرع – اختيار الاتجاه أو الطريق الأوسع الذى يوفر للشعب اعظم الفرص وارحبها الى مستقبل مبشر وقابل للتحقيق دون قيود ودون حواجز. فالرأى الواحد لا يعبر الا عن اتجاه واحد من عشرات ملايين الاتجاهات التى تصب فى اتجاه الصالح العام وفى اتجاه التطور المنشود للمجتمع.
فإذا خطر على قلب المشرع او طرقت على باب عقله خاطرة مؤداها ان البعض قد يسىء استخدام هذا القدر العظيم من الحرية ومن التقدير لاختيار الفرد والجماعة ويوظف حريته أو حريتهم فى اتجاه مناوئ او غير موات -فى لحظة ما- لمصلحة الشعب فقد يتعذر على المشرع إهدار ما تنطوي عليه الحرية من خير ومن امل ومن تميز ومن تطور ورقى ومن استقرار ومن سلام فى المجتمع والجنوح الى التضييق على الجميع والى خنق ارادة المجتمع من اجل منع أو تفادى الضرر الجزئي المحتمل. وذلك لأن الضرر الجزئي هو ضرر محتمل، وهو ضرر جزئى قابل للاستيعاب، ولأن المجموع لا يقبل ولا يشجع الخروج عن المسار الأصلح للمجتمع ولابد للمخالف من التوقف عن الفسوق عن درب المجموع ككل والعودة الى جادة الصواب.
كذلك، ولما كان المشرع يدرك ان المجتمعات البشرية – بصفة عامة – لا تخلو من الطالح مثلما انها لا تخلو من الصالح، فقد وجب على المشرع الدستورى الالتزام بطرق أبواب الحرية – فى كل مجال متاح – والعمل على حماية هذه الحريات وتحصينها بالقدر اللازم، خاصة وأن حياة الانسان وقدراته الفردية محدودة القدر والمدى وان المجموع الشامل لا يجتمع على الشر ولا يقبل به شرعا سائدا. وبقدر خروج البعض او نشوذه عن الصف، يكون على المجتمع التصرف، بحيث يتضح للعالم أن السلوك المارق النافر من المجموع لا يمثل الا نفسه ولا يعكس إلا سوء استخدام الحق والحرية أريد بها خيرا للجميع فى الداخل وفى الخارج.