بقلم: ياوز أجار *
أفغانستان:
أصبحت أفغانستان منذ القديم موضع تنافس بين قوى مختلفة، نظرًا لموقعها الجغرافي الإستراتيجي، حيث تقع في مساحة جيوسياسية مهمة تربط الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وشبه القارة الهندية.
ينظر نظام أردوغان إلى أفغانستان على أنها “قلب آسيا”، على حد تعبير وزير الدفاع التركي السابق خلوصي أكار، وتؤمن بضرورة الوجود في هذا البلد وجواره لتوسيع نفوذه السياسي والاقتصادي والثقافي.
وأكد أردوغان في محافل دولية عدة أن تركيا لديها القدرة على إدارة الملف الأفغاني من الناحية الأمنية والسياسية والاقتصادية، معربًا عن استعداد بلاده لتحمل المزيد من المسؤوليات تحت مظلة الناتو حالما يكتمل انسحاب القوات الأمريكية والأوروبية، شريطة الحصول على الدعم السياسي والمالي واللوجستي.
شاركت تركيا ضمن قوة المهام المشتركة عالية الجاهزية (VJTF) في أفغانستان بـ٥٠٠ جندي، وتولت قيادتها لأول مرة في يناير ٢٠٢١ لمدة عام كامل ثم سلمتها في يناير ٢٠٢٢ إلى فرنسا، لكن دور الجيش التركي اقتصر في الأغلب على تنفيذ مهام مدنية بدلا من العمليات العسكرية.
وفي هذا المضمار، أعلنت حكومة أردوغان في أوائل عام ٢٠٢٢ أنها انضمت مع شركة قطرية إلى إدارة مطار حامد كرزاي الدولي، الذي يقع في وسط العاصمة كابول، ويعد حيوياً لربط البلاد بالعالم الخارجي. ومع أن حركة طالبان اعتبرت في البداية الوجود التركي في الأراضي الأفغانية ضمن القوات المحتلة الأجنبية، مثل القوات الأمريكية، إلا أن أردوغان استطاع تجاوز هذه العقبات بالتفاوض مع الحركة، بالاستفادة من الميول الإسلامية المشتركة، وعلاقات تركيا الجيدة مع الدول المؤثرة على طالبان، مثل باكستان وقطر.
وقد قال وزير الخارجية التركي السابق مولود جاويش أوغلو خلال أعمال “منتدى أنطاليا الدبلوماسي” في ١٣ مارس ٢٠٢٢، إن المساعدات الإنسانية بمفردها لا يمكن أن تعالج مشاكل أفغانستان كما ينبغي، ودعا، في خطوة هي الأولى من نوعها على الساحة الدولية، إلى الاعتراف دبلوماسياً بـ”إمارة أفغانستان الإسلامية”.
كما يتطلَّع أردوغان إلى مشروع ممر “اللازورد” البري للتجارة والنقل العبوري، الذي يربط أفغانستان بتركيا عبر تركمانستان وأذربيجان وجورجيا، متجاوزا إيران وروسيا والصين، ويقلل من اعتماد أفغانستان على دول مجاورة، مثل إيران وباكستان من جهة، ويهدد نفوذ روسيا من الجهة الأخرى. وتشير المصادر إلى أن ٨٠٪ من البضائع المشحونة من جنوب آسيا إلى أوروبا ستنتقل عبر هذا الطريق، مما يعني وقف اعتماد أفغانستان على ميناء كراتشي في باكستان وموانئ إيران.
كما يعتبر طريق اللازورد، الذي يوصل أفغانستان ودول آسيا الجنوبية بالدول الأوروبية عبر تركيا، أقصر طريق للنقل، وأكثره أمنًا، وأقله تكلفة للوصول إلى أوروبا. ومع أن إحياء هذا الطريق قد يفتح باب التنافس بين تركيا وباكستان وإيران وروسيا، لكنه يتمتع بأهمية كبيرة لكل من أفغانستان غير الساحلية، وتركيا التي تحاول تعزيز حضورها الجيوسياسي في آسيا الوسطى، وتوثيق الروابط مع الأعراق التركية في طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان.
يسعى أردوغان أيضًا لزيادة الاستثمارات التركية في مجالات تعليمية على جميع المستويات من خلال وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا)، ومنظمات المجتمع المدني الموالية له، والاضطلاع بدور فعال في تطوير البنية الاجتماعية الأفغانية في الفترة الجديدة.
إن الوجود التركي في أفغانستان يقدم لأردوغان فرصة لتسويق نفسه زعيما إقليميا قويا بمقدوره علاج الأزمات، التي تنجم عن انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة، وتركيزها على التحديات المتفاقمة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وبذلك سيزيد أردوغان من أسهمه لدى الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين، لإصلاح علاقات تركيا المتوترة معهما، لكنه سيوتر العلاقات مع حليفه الروسي فلاديمير بوتين بطبيعة الحال.
ومن جانب آخر، يمثل الوجود التركي في أفغانستان خطوة مهمة تضع تركيا على أعتاب آسيا الوسطى ذات الشعوب المسلمة الناطقة بالتركية، وتساعد أردوغان في مساعيه الرامية إلى تحويل تركيا إلى مركز سياسي للعالم الإسلامي.
باكستان والهند
أولى أردوغان أهمية خاصة لعلاقات تركيا مع باكستان منذ وصوله إلى السلطة، كما يكشفه الخطاب الذي ألقاه في البرلمان الباكستاني في عام ٢٠١٦، عندما كان نواز شريف بمنصب رئيس الوزراء، حيث قال إن علاقات تركيا المميزة مع باكستان تتجاوز كونها علاقات دبلوماسية محضة.
أكد أردوغان أيضًا أن تركيا وباكستان بلدان شقيقان بالمعنى الحقيقي، وأنهما تشكلان معا أنموذجًا هامًا للعالم الإسلامي، من خلال حفاظهما على قيمهما الذاتية والديمقراطية في آن واحد. كما انتقد دولَ الغرب والفاتيكان، متهمًا إياهما بمساعدة ما سماه “أعداء تركيا والإسلام”، داعيًا إلى الوحدة والاتحاد بين الدول المسلمة، حيث قال: “جميع هؤلاء الذين يرغبون في زعزعة استقرار تركيا والعالم الإسلامي مدعومون من العالم الغربي، وتربطهم صلات بالفاتيكان. لكن يمكننا أن نتغلب عليهم بالوحدة”، على حد تعبيره.
وفيما يتعلق بالقضايا الشائكة بين باكستان وجيرانها، أعرب أردوغان في الخطاب المذكور عن تأييده لمبدأ الحوار والعدالة في حل مشكلة “كشمير”، لافتًا إلى أن مجرد القوة لا يمكن أن تقدم حلاً لهذه المشكلة، وأن الخطوات الأحادية الأخيرة، من الطرف الهندي، زادت من معاناة المسلمين الكشميريين، معلنًا استعداد بلاده لتقديم كل أنواع الدعم لحل مشاكل باكستان المحلية والإقليمية.
هذه التصريحات التي جاءت في إطار الأجندة السياسية لأردوغان الرامية إلى توسيع نفوذه بين مسلمي جنوب آسيا، أثارت الغضب الهندي، وأشعلت فتيل توتر غير ضروري خرج في وقت لاحق عن السيطرة، ليتحول في النهاية إلى حروب دبلوماسية شرسة تهدد كل ما كان يربط بين الدولتين تاريخيا وحضاريا. إذ ردت وزارة الخارجية الهندية بقسوة على أردوغان، وأكدت أن كشمير جزء لا يتجزأ من الهند، واتهمته بالتدخل في شؤونها الداخلية دون معرفة الطبيعة الحقيقية للوضع. بل ذهبت الهند إلى أبعد من ذلك في ردها على أردوغان، فقد ألغت في عام ٢٠١٩ زيارة كان من المقرر أن يقوم بها الرئيس الهندي السابق رام ناث كوفيند لتركيا، وقررت وقف صادراتها العسكرية لتركيا، ومن بينها الأسلحة ذات الاستخدام المزدوج، وخفض وارداتها من تركيا بدرجة كبيرة.
ولما حمل أردوغان قضية إقليم كشمير المتنازع عليه بين باكستان والهند إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في مطلع ٢٠٢٠، وتحدث عن المجازر التي يتعرض لها المسلمون على يد الهندوس، بادرت الهند إلى استدعاء سفير تركيا لتقديم احتجاج دبلوماسي على تصريحاته، محذرة من تبعات ذلك على العلاقات الثنائية بين البلدين.
وفي ظل إصرار أردوغان على تجاوز جميع الخطوط الحمراء، بدأت الهند تتهم أردوغان بالمحاولة الممنهجة لتحويل المسلمين الهنود إلى متطرفين، وتجنيد الأصوليين، وظهور تركيا، تحت حكم أردوغان، باعتبارها “مركزًا للأنشطة المعادية للهند”. ثم شرعت في توجيه ضربات موجعة فيما يمكن وصفه بـ”خاصرة تركيا”، إذ ذكّرت أردوغانَ بالغزو التركي في عام ١٩٧٤ لتحرير الجزء التركي من جزيرة قبرص، معتبرة إياه “احتلال جزء من دولة ذات سيادة (قبرص اليونانية)”، مشيرة في الوقت ذاته إلى أنها، أي الهند، لم تتخذ أي إجراءات مماثلة لما فعلته تركيا فيما يتعلق بقضية كشمير. فضلًا عن ذلك، فإن وزير الخارجية الهندي سارع إلى عقد اجتماع مع نظيره القبرصي اليوناني، لبحث طرح قرار في مجلس الأمن حول منطقة شمال قبرص “المحتلة” من قبل تركيا، وإعادة توحيد الجزيرة.
ومع وصول عمران خان إلى السلطة في باكستان في ٢٠١٨، انتقلت “العلاقات الجيدة” بين تركيا وباكستان إلى مرحلة جديدة يمكن وصفها بـ”الإستراتيجية”. في ظل حكم عمران خان، نفذ حوالي ١٠٠ رجل أعمال تركي استثمارات كبيرة في باكستان، خصوصًا في صناعة الدفاع.
وعلى الصعيد الاجتماعي والثقافي، حظيت المسلسلات التليفزيونية التركية، خاصة قيامة أرطغرل وعبد الحميد الثاني وأمثالهما من المسلسلات ذات المضمون العثماني والإسلامي، بشعبية غير مسبوقة في باكستان. كذلك أعلنت مؤسسة “معارف” التعليمية عن افتتاح ٨٣ مدرسة تركية في باكستان صودر معظمها من الشركات التعليمية التابعة لحركة الخدمة. شعبية أردوغان في باكستان بلغت حدا بحيث قال عمران خان: “لو ترشح أردوغان لرئاسة باكستان لفاز!”.
وبالتوازي مع دخول العلاقات التركية الباكستانية إلى مرحلة جديدة، بدأ أردوغان يواجه هذه المرة اتهاماتٍ بالعمل على تهميش العلاقات الوطيدة بين باكستان والسعودية، في إطار محاولاته لزعامة العالم الإسلامي. واعتبرت السعودية ودول الخليج العربي حضور كل من عمران خان وأردوغان قمة ماليزيا الإسلامية في نهاية عام ٢٠١٩، بالإضافة إلى تنظيمات وجماعات إخوانية، خطوة تبتغي إنشاء كيان موازٍ لمنظمة التعاون الإسلامي تحت قيادة السعودية، وتحجيم الدور السعودي إقليميا ودوليا. لكن هذه القمة بين تركيا وماليزيا وقطر وإيران وباكستان لم تسفر عن نتائج ملموسة.
إلى جانب ذلك، أثار التقارب التركي الباكستاني مخاوف كل من موسكو وواشنطن وطهران وبكين التي لها مصالح استراتيجية في باكستان وجنوب القوقاز. ومن أهم هذه المخاوف احتمالية نقل باكستان تقنيتها النووية إلى تركيا، وبالتالي تدهور التوازن النووي في المنطقة.
عقب سقوط حكومة عمران خان في أبريل ٢٠٢٢ بعد التصويت بحجب الثقة عنه في البرلمان، واتجاه أردوغان إلى تطبيع العلاقات مع جميع الدول، دون ترجيح الإحدى على الأخرى، من المتوقع أن تتحول العلاقات التركية الباكستانية في الفترة الجديدة من الأرضية العاطفية إلى أرضية أكثر عقلانية وواقعية.
* رئيس تحرير موقع زمان عربي سابقًا