بقلم: ياوز أجار *
آسيا الوسطى والقوقاز:
استمر اهتمام تركيا بآسيا الوسطى خلال حكم أردوغان بعدما وصل إلى أوجه في عهد الرئيس التركي الأسبق طرغوت أوزال في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي.
وبدأ اهتمام أردوغان بآسيا الوسطى يتزايد مع رغبته في ملء الفراغ العسكري والسياسي في المنطقة بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في أغسطس ٢٠٢١، وسعيه للرد على رفض الاتحاد الأوروبي ضم تركيا.
ويحاول أردوغان قيادة دول آسيا الوسطى (تركمانستان وأوزبكستان وقيرغيزستان وكازاخستان وطاجيكستان) والقوقاز (أذربيجان وأرمينيا وجورجيا)، بالاستفادة من المشتركات التاريخية واللغوية والثقافية على وجه الخصوص. ويحظى هذا الجهد بدعم ملحوظ من الولايات المتحدة، التي تحاول الحد من نفوذ روسيا والصين في المنطقة.
يستخدم أردوغان أدوات مختلفة وآليات متنوعة لتعزيز دوره في آسيا الوسطى، أبرزها منظمة الدول التركية التي تأسست في ٣ أكتوبر ٢٠٠٩ بين الدول الناطقة بالتركية، التي تضم إلى جانب تركيا، كلا من أذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان. ثم تقرر تحويل اسم هذه المنظمة إلى منتدى التعاون التركي في القمة الرئاسية التي استضافتها العاصمة التركية أنقرة في نوفمبر ٢٠٢١. هذا التغيير الشكلي في اسم المنظمة يدل على أن أردوغان يعلق أهمية كبيرة عليها، وأنها ستلعب دورًا مركزيًا في تشكيل السياسة الخارجية التركية في الفترة المقبلة.
توجد هناك حاليا ثلاث دول ممثلة بصفة مراقب في منتدى التعاون التركي. بالإضافة إلى ذلك، تستمر المفاوضات لتشمل تركمانستان والمجر وبلغاريا، التي تحتضن عددا كبيرا الأقليات التركية. ومع أن أردوغان يعتزم ضم جمهورية شمال قبرص التركية إلى المنظمة كذلك، لكن لأن الدول الأعضاء لا تعترف رسميا بقبرص كدولة، فإنها ترفض ذلك في الوقت الراهن. ويذكر مراقبون أن أردوغان يخطط من خلال هذا المنتدى لإنشاء هيكل مماثل للاتحاد الأوروبي تحت اسم “الاتحاد التركي” مع هذه الدول التي يبلغ عدد سكانها ٢٠٠ مليون نسمة، ومساحتها نحو ٥ ملايين كيلومتر مربع، وإجمالي دخلها ٢ تريليون دولار، وذلك في ظل يأس أردوغان من موافقة الدول الأعضاء على ضم تركيا إلى الكتلة الأوروبية.
في ضوء هذه التحركات، يمكن أن نتوقع بأن أردوغان سيسعى في الفترة المقبلة إلى تحويل بلاده إلى مركز إستراتيجي لزيادة التجارة البينية، ونقل الطاقة من دول وسط آسيا غير الساحلية إلى الدول الأوروبية، نظرا لأن منطقة آسيا الوسطى والقوقاز تتمتع بمياه عذبة وجوفية هائلة، واحتياطيات ضخمة من المعادن والفحم، وبها ٣٤٪ من احتياطيات العالم من الغاز الطبيعي، و٢٧٪ من احتياطيات النفط. في إطار المساعي الرامية إلى تحقيق هذا الهدف، أنشئ خط أنابيب الغاز التركي “ستريم”، الذي ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا، وخط أنابيب الغاز الطبيعي “تاناب”، الذي ينقل الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا عبر جورجيا وتركيا.
من جانب آخر، وقعت وزارة البترول الإيرانية ووزارة الطاقة والموارد الطبيعية التركية “مذكرة تفاهم” في ١٧ نوفمبر ٢٠٠٨ لمرور الغاز الطبيعي الإيراني عبر تركيا. علاوة على ذلك يوجد خط أنابيب غاز جديد على جدول الأعمال، حيث من المخطط أن يعبر بحر قزوين ويربط بين أذربيجان وتركمانستان وربما كازاخستان أيضا.
وفي الاجتماع السادس للجنة الاقتصادية الحكومية بين تركمانستان وتركيا في عشق آباد في يوليو ٢٠٢٢، صرح نائب الرئيس التركي في ذلك الوقت فؤاد أوقطاي أن التعاون في مجال الطاقة قد اكتسب أهمية أكبر مع تطور حالة عدم اليقين المتعلقة بأمن إمدادات الطاقة، وأضاف: “بالتعاون بين تركيا وأذربيجان وتركمانستان، يمكننا تنفيذ نقل غاز تركمانستان الطبيعي إلى الأناضول عبر خط “تاناب”.
وأعرب أوكتاي عن اعتقاده بأن الاجتماعات بين وزارة الطاقة والموارد الطبيعية التركية وشركة بوتاش (شركة خطوط أنابيب البترول التركية) المملوكة للدولة وشركة الغاز التركمانية ستحقق نتائج إيجابية على المدى القصير. وذكر أيضا أن الشركات الحكومية في تركيا مستعدة للمشاركة في أنشطة تطوير موارد حقل “الصداقة” الهيدروكربوني في بحر قزوين، الذي تشارك فيه تركمانستان وأذربيجان. ولا شك في أن روسيا وإيران تشعران باستياء من هذا الخط، وذلك لأنه سيجعل تركمانستان في المحطة الأخيرة دولة ستنافسهما في سوق الغاز الأوروبية.
من ناحية أخرى، تسعى تركيا جاهدة لفتح ممر “زانجيزور” أو “ناختشيفان” في إطار اتفاقية وقف إطلاق النار الموقعة بين أرمينيا وأذربيجان في ١٠ نوفمبر ٢٠٢٠، من أجل ربط منطقة الحكم الذاتي ناختشيفان بأذربيجان عبر أرمينيا. وفي حال ترجمة هذه الخطة إلى أرض الواقع، فسيوفر ممرًا مباشرًا لتركيا إلى حوض بحر قزوين.
من أهم النتائج التي ستتمخض عن خطوط وممرات الطاقة التي تخطط تركيا لإقامتها أنها ستؤدي إلى تراجع الأهمية الإستراتيجية للغاز الروسي بالنسبة لأوروبا، خاصة في ظل ارتفاع أسعاره العالمية. كذلك تعتبر صفقات الأسلحة التركية مع دول آسيا الوسطى وتصدير المعدات العسكرية إليها من العوامل التي ستخلق توترا بين أردوغان وروسيا؛ المورد الرئيسي للأسلحة في المنطقة؛ في حين أنها خطوات مرحَّبة من قبل واشنطن وأوروبا.
أردوغان يحاول تعزيز وجوده في آسيا الوسطى والقوقاز من خلال التعاون في مجالات الدفاع والأمن والجيش وتدريب الجنود، بجانب العلاقات الاقتصادية. وفي هذا السياق، وقع مع جميع دول المنطقة، بما فيها طاجيكستان، الناطقة بالفارسية، اتفاقيات مهمة لتصدير طائرات “أنكا” والطائرات بدون طيار وغيرها من المعدات العسكرية التركية، التي لعبت دورًا رئيسيا في انتهاء الأزمات الإقليمية لصالح حلفاء تركيا، كما في الحرب بين أذربيجان وأرمينيا.
وعلى نفس المنوال، تواصل مؤسسة تيكا (وكالة التعاون والتنسيق التركية) جميع أنشطتها بعدما تأسست في عام ١٩٩٢ بهدف مساعدة الجمهوريات التي تعاني من أزمات اقتصادية في آسيا الوسطى عقب استقلالها من الاتحاد السوفيتي. حيث تعزز الوجود الاجتماعي والأيديولوجي لتركيا أيضا من خلال فتح مئات المدارس والجامعات الرسمية أو الموالية للحكومة.
ولا بد أن نذكر هنا أن مبادرة نظام أردوغان منذ عام ٢٠١٦ إلى السيطرة على المدارس والجامعات الخاصة التي فتحتها شركات تعليمية تابعة لحركة الخدمة أثرت سلبًا على النفوذ الثقافي التركي في آسيا الوسطى والقوقاز.
على الرغم من النفوذ المتزايد لتركيا في آسيا الوسطى، لا يزال لمنظمة الدول التركية نفوذ سياسي وعسكري محدود في المنطقة مقارنة بروسيا. فعلى سبيل المثال، لم تلعب تركيا أي دور في الاضطرابات العنيفة التي حدثت في كازاخستان في بداية عام ٢٠٢٢، لكن تدخلت قوات حفظ السلام التابعة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO) بقيادة روسيا، وقدمت مساهمة ملحوظة في إعادة الاستقرار للبلاد. وفي أوائل يوليو من نفس العام، شهدت أوزبكستان احتجاجات عنيفة مماثلة لما في كازاخستان، غير أن نظام أردوغان لم يستطع اتخاذ أي موقف سوى التنديد.
عند إضافة القواعد العسكرية الروسية في طاجيكستان وقيرغيزستان إلى هذه الأمور، سيتبين جليا أن نفوذ تركيا في هذه البلدان لا يزال محدودًا مقارنة بالتأثير العسكري والسياسي لروسيا.
التحالف الإستراتيجي مع أذربيجان:
إن العلاقات بين تركيا وأذربيجان وصفت دومًا بأنها علاقات إستراتيجية من نوع خاص، نظرا للاشتراك اللغوي والثقافي والتاريخي بين البلدين. كانت تركيا أول دولة اعترفت باستقلال أذربيجان عن الاتحاد السوفيتي في عام ١٩٩١، وقدمت مساهمات اقتصادية وسياسية ولوجستية كبيرة في عملية بناء الدولة الأذربيجانية الحديثة. وقد بلغ حجم التجارة المشتركة بين تركيا وأذربيجان حوالي ١٥ مليار دولار في عام ٢٠٢١، بما في ذلك الواردات الدفاعية لأذربيجان البالغة ٨٩ مليون دولار.
على الرغم من غياب اتصال جغرافي بين تركيا وأذربيجان، إلا أن حكومة أردوغان ربطت البلدين برا، وأطلقت في عام ٢٠١٧ أولى خدمات القطارات عبر خط سكة حديد باكو – تبليسي – قارص، الذي أطلق عليه اسم “طريق الحرير الحديدي”، ويمتد من ميناء “آليات” شرقي العاصمة الأذرية باكو، إلى ولاية قارص التركية، مرورا بالعاصمة الجورجية تبليسي.
ويبلغ إجمالي طول هذا المشروع ٨٣٨ كيلومترا، ٧٦ كيلومترا منه يمر من الأراضي التركية، و٢٥٩ من الأراضي الجورجية، و٥٠٣ من الأراضي الأذرية، ويعد حلقة أولى ستمتد من العاصمة الصينية بكين حتى العاصمة البريطانية لندن مرورا بمدينة إسطنبول.
من أهم أهداف الخط اختصار الوقت الذي تستغرقه الرحلة من الصين إلى غرب أوروبا من دون عبور روسيا، بعد أن كانت سكك الحديد التي تربط الصين بأوروبا تمر عبر روسيا. إذ سيختصر الخط الجديد حوالي مسافة ٧ آلاف كيلومتر، لتصل البضائع الصينية إلى أوروبا في غضون ١٥ يوما، وهو ما يتجاوز ضعفي سرعة النقل بحرا، وبتكلفة تقل عن نصف تكلفة النقل جوا.
كما تبلغ القدرة الاستيعابية للخط نقل مليون مسافر، وحمولة وزنها ٦.٥ ملايين طن في العام الواحد، وتخطط الدول المنفذة للمشروع رفع قدرته الاستيعابية إلى ٣ ملايين مسافر، وحمولة بوزن ١٧ مليون طن مع حلول عام ٢٠٣٤.
وأكد أردوغان في حفل تدشين خط سكة الحديد “باكو-تبليسي-قارص” في مدينة آليات الأذرية أن مردود خط سكة الحديد، لن يقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب، بل سيجلب الاستقرار والسلام على الصعيد السياسي، والرفاه على الصعيد الاجتماعي.
رابط آخر بين تركيا وأذربيجان هو ما يسمى بـ”ممر الغاز الجنوبي”، الذي يعد أحد أكبر المشاريع في القرن الحادي والعشرين، ويعزز مكانة تركيا في لعبة شطرنج الطاقة، التي اكتسبت أهمية مضاعفة بعد أزمة الطاقة الحالية الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية.
يشكل خط أنابيب الغاز الطبيعي العابر للأناضول “تاناب”، وخط أنابيب جنوب القوقاز، وخط الأنابيب عبر البحر الأدرياتيكي “تاب” أهم حلقات “ممر الغاز الجنوبي”، ويهدف إلى تقليص حاجة الدول الغربية إلى الطاقة الروسية. إذ من المقرر أن ينقل خط أنابيب الغاز الطبيعي عبر البحر الأدرياتيكي “تاب”، الذي يمثل الجزء الأوروبي من “تاناب”، الغاز الطبيعي من أذربيجان إلى اليونان عبر تركيا، وإلى البحر الأدرياتيكي وإيطاليا عبر ألبانيا، ومن إيطاليا إلى الدول الأوروبية الأخرى.
تذكر المصادر أن القدرة الاستيعابية لخط “تاناب”، الذي يُعد أهم ركائز “ممر الغاز الجنوبي”، ستبلغ ١٦ مليار متر مكعب سنويًا في المرحلة الأولى، لتصبح ٣١ مليار متر مكعب سنويًا في المراحل القادمة. لكن يتوقع خبراء الطاقة أن تزداد القدرة الاستيعابية لخط “تاب” من ١٠ مليارات متر مكعب إلى ٢٠ مليار متر مكعب سنويًا في وقت لاحق.
وعلى صعيد التعاون العسكري والأمني، انتقلت العلاقات بين البلدين الشقيقين إلى مرحلة استراتيجية جديدة بعد فوز أذربيجان على أرمينيا في نوفمبر ٢٠٢٠ في “حرب كاراباخ الثانية”. فبينما قام الجيش الأذربيجاني بتحرير العديد من الأراضي المحتلة في منطقة كاراباخ، عززت تركيا، وبالتالي أردوغان، موقعها كحليف موثوق بها بين الدول التركية في آسيا الوسطى والقوقاز.
ومع أن حرب كاراباخ دفعت روسيا وتركيا إلى أقطاب مختلفة، كما هو الحال في سوريا، إلا أنها قدمت فرصة جديدة لأردوغان في مسعاه لإعادة العلاقات المتدهورة مع الغرب والولايات المتحدة إلى مسارها الصحيح كما كان في العقد الأول من حكمه. كما أتاحت سيطرةُ أذربيجان على كاراباخ لتركيا فرصة التواجد العسكري في القوقاز، ومن ناحية أخرى، وفرت ممرًا بريًا يربط تركيا مباشرة بأذربيجان ودول آسيا الوسطى الأخرى عبر ناخشيفان.
ولا مرية في أن مشاريع الطاقة المذكورة، ومجالات التعاون العسكري بين تركيا ودول أسيا الوسطى والقوقاز تمنح أردوغان ورقة أخرى ليجعل تركيا مركزًا إستراتيجيًّا للطاقة في المنطقة، ويعزز دوره الإقليمي، إذا نجح في إدامة سياسة التوازن بين المحورين الغربي والشرقي في الفترة القادمة.
* رئيس تحرير موقع زمان عربي سابقًا