بقلم : ياوز اجار
العلاقات التركية – الإيرانية في عهد الرئيس رجب أردوغان متشابكة، ويحظى كل طرف بنفوذ واضح في المنطقة؛ وبينما يدخل أردوغان الولاية الثالثة، فهو أمام خيارين إما الاستمرار في التعاون أو اللجوء إلى التصادم مع إيران.
أردوغان قال في مقابلة تلفزيونية في ٢٥ يوليو ٢٠٢٢ إنه سيحسن العلاقات مع مصر، وسيواصل حل مشاكل الشرق الأوسط، والتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، وإقامة علاقات متميزة مع دول الخليج العربي وإيران، لكنه أكد في الوقت ذاته أنه سيستمر في استهداف التنظيمات الإرهابية في شمال سوريا والعراق.
سوريا والعراق:
هذه التصريحات تقدم لنا معطيات تساعدنا في الكشف عن المسار الذي ستتخذه السياسة الخارجية التركية في الفترة المقبلة، حيث يقول بوضوح إنه سيواصل العمليات العسكرية في المناطق الشمالية من العراق وسوريا. كما أعلن أنه سيبدأ عملية عسكرية جديدة في مدينتي تل رفعت، حيث تتواجد المليشيات الإيرانية، ومنبج، حيث تتمركز القوات الروسية.
لكن هذه العملية المرتقبة لم تنفذ بسبب معارضة الولايات المتحدة وكل من روسيا وإيران في القمة الثلاثية التي عقدت في طهران في يوليو ٢٠٢٢. لذلك يمكن أن نتوقع أن أردوغان سيواصل هذه العمليات العسكرية، ولو بشكل محدود، في الفترة الثالثة، كلما وجد الفرصة سانحة، وما دامت القوى الكبرى، كالولايات المتحدة وروسيا، لا ترفضها بشكل مباشر.
مع أن عمليات أردوغان المحتملة في شمال سوريا والعراق قد تتلقى دعمًا سريًا من إيران والعراق وسوريا التي تعارض جميعها إنشاء دولة كردستان المستقلة في المنطقة، إلا أنها قد تزعج الولايات المتحدة، التي تعتبر الأكراد شركاء استراتيجيين لها في الشرق الأوسط. وإدراكًا منه لهذه الحقيقة، دعا أردوغان لأول مرة، في قمة طهران المذكورة، الولايات المتحدة إلى الانسحاب من شرق الفرات، والتوقف عن دعم ما سماه الجماعات الإرهابية، في محاولة للالتقاء مع روسيا حول هدف مشترك.
وتذكر المصادر أن أردوغان طلب في قمة “سوتشي” من بوتين الموافقة على عملية عسكرية في سوريا، إلا أن الأخير طالبه بالتفاوض مع نظام الأسد، مقترحًا استئناف العلاقات المنقطعة منذ ٢٠١١ في إطار اتفاقية “أضنة”.
كما نلاحظ أن مخططات أو طموحات أردوغان تتعارض إما مع المصالح الأمريكية أو الروسية في جميع المنطقة. لذا لا يستبعد أن تدفع علاقاته المتقدمة للغاية مع روسيا وامتدادها الأوراسي في الداخل التركي إلى تطوير المحادثات الحالية مع نظام الأسد عبر أجهزة المخابرات إلى مرحلة سياسية علنية، لتكون سوريا المحطة الأخيرة لخطوات التطبيع. لكن من المرجح أن مثل هذه الخطوة المحتملة ستزعج الولايات المتحدة، مما يعني أن سياسة أردوغان تجاه سوريا في الفترة المقبلة ستتبلور وفق التنازلات التي يقدمها الجانبان أو جرعة التهديدات المتبادلة.
أردوغان يعتبر السياسة الخارجية والعمليات العسكرية العابرة للحدود أداة للدعاية بأن بلاده تحقق انتصارات عظيمة، وهي في طريقها لتكون قوة عالمية، مثلما كانت في العهد العثماني، وبالتالي خلقِ نفوذ سياسي في الداخل يحافظ به على قاعدته القومية والمحافظة والإسلامية. لذلك من الصعوبة بمكان أن يتخلى بالكلية عن العمليات العسكرية في الأراضي السورية والعراقية. فهو أجّل هذه العمليات خضوعًا لظروف المرحلة، لكن لا نملك أي ضمان لعدم عودته إليها مستقبلًا، من خلال استغلال بعض الأوراق أو الأزمات الإقليمية، مثل الوساطة في الحرب الروسية الأوكرانية، والموافقة على عضوية السويد في حلف الناتو وغيرهما.
فمثلًا تراجع أردوغان عن تحدياته السابقة ووافق في النهاية على عضوية السويد في الناتو، وأبدى رغبة في الحصول على دعم اقتصادي غربي من الدول التي كان يزعم أنها تخرب الاقتصاد التركي، ودعا لإحياء مشاورات عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، بعد أن كان يروج لعدم اهتمام تركيا بالانضمام للكتلة الأوروبية، ردا على قرار تجميد مفاوضات العضوية في 2016، في أعقاب خروج الحكومة التركية عن المسار القانوني وحملة قمع المعارضين السياسيين والمدنيين على حد سواء. وبالتوازي مع ذلك بدأت صحف تركية موالية لأردوغان تزعم أن واشنطن أعطت الضوء الأخضر لعملية عسكرية جديدة في منطقة “روجافا” السورية لتطهيرها من الإرهابيين، وإرسال مجموعة من اللاجئين السوريين في تركيا إلى هذه المنطقة. ومع أنه لا توجد تصريحات رسمية مؤيدة لهذه المزاعم، إلا أنها تكشف أن أردوغان يريد الاحتفاظ بأوراقه في الشمال السوري، ويحاول جسّ النبض الأمريكي والروسي والسوري (نظام الأسد) لشنّ عميلة جديدة في روجافا، بغية رفع شعبيته قبل الانتخابات البلدية المقبلة (2024). وتشير من جانب آخر إلى التناقض بين أقواله ونواياه، حيث يعلن استعداده للقاء حتى مع الأسد، ولكن يضع مخططات مختلفة خلف الجدران.
نجح أردوغان حتى اليوم، بشكل أو بآخر، في الحصول على الموافقة الأمريكية أو الروسية على بعض عملياته في سوريا وعموم المنطقة، بفضل مرونته وبقائه في الوسط بين هاتين القوتين، لكن مع تفاقم الصراع بين الشرق والغرب، خاصة بعد حرب أوكرانيا وقابليتها للتوسع، سوف تتضاءل فرصة الحفاظ على هذا التوازن في الفترة المقبلة، خصوصًا إذا أخذنا في الحسبان بدء الدول العربية في تطبيع العلاقات مع سوريا، وعودة نظام الأسد إلى مقعده في الجامعة العربية.
إيران:
لقد طورت تركيا وإيران المتنافستان منذ عصور أسلوبًا معقدًا للغاية في العلاقات خلال إدارة أردوغان، وتمكنتا بطريقة ما من الحفاظ على حسن العلاقات رغم الاختلافات، بل النزاعات بينهما في عدد كبير من القضايا الإقليمية.
على النقيض من الحكومات التركية السابقة التي طورت علاقات محدودة في مجالات معينة مع إيران، بادر أردوغان إلى التعاون مع إيران في كل المجالات، بما في ذلك المجال الاستخباراتي. حتى إنه أثار دهشة العالم العربي عندما وصف إيران بـ”بيتي الثاني” في إحدى زياراته لطهران.
كذلك فاجأ أردوغان الجميع بدعمه الكبير لإيران منذ السنوات الأولى من حكمه فيما يخص برنامجها النووي. فقد بذلت الدول الكبرى جهوداً جبارة لوقف إنتاج السلاح النووي الإيراني في عامي ٢٠٠٩ – ٢٠١٠، وشارك وزير الخارجية الحالي هاكان فيدان في الاجتماعات التي عقدت في فيينا بصفته ممثل تركيا. وكان فيدان أثار حيرة أعضاء الوفد الدولي المشاركين في هذه الاجتماعات بسبب دفاعه عن إيران أكثر من الأعضاء الإيرانيين أنفسهم.
ومن ثم تمكنت الولايات المتحدة، من خلال المتابعة التقنية والتسجيلات المصورة، من الكشف عن خرق أردوغان للعقوبات الأمريكية والأممية المفروضة على إيران، عن طريق شبكة فساد وغسيل أموال دولية، أسسها بالتعاون مع رجل الأعمال رضا زراب، الإيراني الأصل والحاصل على الجنسية التركية، وذلك في ٢٠١١، أي قبل ٣ أعوام من ظهور فضائح الفساد والرشوة في ٢٠١٣، وهو الأمر الذي أحدث نفورًا متقابلاً بين الطرفين لا يزال مستمرًّا إلى اليوم، ودفع أردوغان إلى التحول من المعسكر الغربي إلى المعسكر الروسي الصيني ومزيد من الاقتراب نحو إيران. حيث زعم أن ما سمي بفضائح الفساد والرشوة ليس إلا انقلابا قضائيا لإسقاط حكومته، وأمر بإغلاق هذه القضية، إلى جانب قضية تنظيم السلام والتوحيد التابع للحرس الثوري الإيراني الناشط على الأراضي التركية.
كانت العلاقات بين أردوغان والنظام الإيراني في أحسن حالاتها من عام ٢٠٠١ إلى ٢٠٠٩؛ إذ اضطرا، في ظل حربي أفغانستان والعراق، إلى محاولة إيجاد مسار للتعاون. لكن مع اندلاع الحرب الأهلية في سوريا واليمن عام ٢٠١١، ترك المسار التصالحي بين الجانبين مكانه لتنافس محتدم.
على الرغم من انقطاع هذا التقارب والتعاون بين أردوغان وإيران بعد دعم الأطراف المختلفة في سوريا واليمن، استمر الطرفان في الجلوس على طاولة واحدة، وتطوير السياسات بما يتماشى مع مصالحهما وأهدافهما الخاصة. ومع أن أردوغان أيد المعارضة السورية، ونفذ أربع عمليات عسكرية على الأراضي السورية، إلا أنه استطاع الحصول على مقعد له في “عملية أستانة”، والمحافظة على “شعرة معاوية” في علاقاته مع إيران الداعمة لنظام بشار الأسد.
مع أن تركيا وإيران دولتان متنافستان في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقوقاز، غير أنهما تواصلان العمل في إطار مصالحهما ومخططاتهما الخاصة، سواء كان بالاتفاق أو الاختلاف. فإيران تدعم الأسد في سوريا، والمليشيات الشيعية ضد تنظيم داعش الإرهابي في العراق؛ في حين تحاول تركيا تعزيز وجودها السياسي والعسكري في إقليم كردستان العراق، والشمال السوري، بدعوى مكافحة إرهاب حزب العمال الكردستاني. كما أن تركيا تساند الأقليات المسلمة التركية السنية في كل من أذربيجان وإيران وأرمينيا والبلقان وآسيا الوسطى، بينما تساند إيران الطوائف الشيعية في هذه المناطق.
وعلى الصعيد الخليجي، تعتبر زيارة أردوغان الأخيرة لكل من الإمارات والسعودية، لتطوير العلاقات الثنائية، بعد خطوات التطبيع السابقة، من الملفات التي تثير مخاوف إيران من ظهور تحالف تركي خليجي إستراتيجي يفرض عليها في نهاية المطاف عزلة إقليمية. إذ تخشى إيران من تأثير هذه الخطوات على الملف اليمني الذي تدعم فيه فصائل مختلفة مع دول الخليج العربي.
فقد وقف أردوغان إلى جانب السعودية، بل ساندها عسكريا، منذ بداية الحرب الأهلية اليمنية، لكنه تراجع عن هذا التعاون بعد الانقطاع في العلاقات جراء أزمات، أبرزها موقف الطرفين من قضية اغتيال جمال خاشقجي في ٢ أكتوبر ٢٠١٨. ومع توقيع اتفاقية حول الطائرات المسيرة التركية خلال زيارة أردوغان الأخيرة، بدأت إيران تشعر بقلق من تغيير توازن القوى لصالح السعودية وتأثير ذلك سلبيًا على جماعة أنصار الله الحوثيين.
ومن الأمور التي تثير خشية إيران أيضًا محاولة أردوغان لتوسيع دوره الإقليمي من خلال تقديم مساعدات عسكرية ساعدت أذربيجان على تحقيق انتصار في الحرب التي خاضت في غمارها مع أرمينيا، إلى جانب سعيه للعب دور الوسيط في الحرب الروسية الأوكرانية. ويمثل هذا الدور إزعاجًا لكل من إيران وروسيا، إلا أنه يلقى ترحيبا أمريكيا وأوروبيا، وهو عامل يقرِّب أردوغان من المعسكر الأطلسي أكثر.
على الرغم من هذه الخلافات، يفضل أردوغان وإيران عدم الانخراط في صراعات عسكرية، وتقاسم النفوذ السياسي في هذه المناطق الحيوية، لحماية مصالحهما الإستراتيجية، وعدم السماح للقوى الأخرى باستغلال صراعاتهما البينية. فضلا عن ذلك، وقعت إيران وتركيا ٨ اتفاقيات خلال قمة طهران في يوليو ٢٠٢٢، لتحسين تعاونهما الاقتصادي والدفاعي، وأعلنتا عزمهما زيادة التجارة الثنائية إلى ٣٠ مليار دولار سنويًا.
لا يتوقع في فترة أردوغان الثالثة أي تغيير جذري في مسار العلاقات التركية الإيرانية، في ظل التجربة الممتدة لعقدين من الزمن في إدارة خلافاتهما بشكل معتدل، لكن التنافس بينهما قد يشتد بحيث يؤدي إلى حروب بالوكالة وإن كانت على نطاق ضيق، حيث يحلم أردوغان بقيادة العالم الإسلامي دون أي شريك آخر، في حين ترغب إيران في بناء “الهلال الشيعي”؛ المصطلح الجيوسياسي الذي يطلق على منطقة الشرق الأوسط حيث توجد الأغلبية أو الأقليات الشيعية.
*رئيس تحرير موقع زمان عربي سابقًا