(زمان التركية)ــ نشرت صحيفة الجارديان (The Guardian) البريطانية مقالًا صحفيًّا حول تحول المجمعات السكنية الفاخرة والتي كانت تباع بملايين الليرات التركية، وكان يروج إليها على أنها قطعة من الجنة إلى “قطع من الجحيم” لتنهار على ساكينيها، ولتصبح مقابر جماعية، بينما كان من المفترض أن تلك البنايات الحديثة والفاخرة آمنة في حال وقوع زلزال حسبما كان بروج لها، نظرًا لأنه من المعلوم أن تلك المانطق معروفة بأنها معرضة للزلازل.
ولذلك فالسؤال الحقيقي هو كيف السماح ببناء مساكن مخالفة للمعايير؟ من المسؤول عن وقوع تلك البنايات الفاخرة على ساكنيها الذين دفعوا الملايين مقابل أن يعيشوا حياة آمنة مستقرة فإذا تسرق أحلامهم منهم ليعيشوا فاجعة مؤلمة للغاية.
جاء في المقالة: “بعد أسبوع من الزلزال المميت كان من الممكن أن يكون عيد ميلاد “سركان” الثالث وكان من المقرر أن يحتفل الطفل الصغير مع والديه في شقتهم في (مبنى عصر النهضة) الفاخر في أنطاكيا. لم يعرف أي منهم عندما ذهبوا إلى الفراش ليلة الأحد أن سركان لن يرى عيد ميلاده الثالث أبدًا.
عندما ضرب أول زلزالين مميتين بعد الساعة الرابعة من صباح اليوم التالي بقليل تحول (مبنى عصر النهضة) وشققه البالغ عددها 249 إلى مقبرة جماعية، وانكسر المبنى من أساساته قبل أن تنقلب جميع الطوابق الاثني عشر إلى الأمام لتنهار الكتلة على وجهها، وقد وتوفيت عائلة كوشار – الطفل سركان ووالدته ووالده – تحت الأنقاض، وقد تعرضت جثثهم لحروق شديدة لدرجة أن أسرهم في بلدة اكينجي القريبة لا تزال تنتظر نتائج اختبار الحمض النووي لتأكيد هويتهم قبل أن يتمكنوا من تنظيم جنازة.
أما عم الطفل سركان والذي كان يعيش في بلدة اكينجي على الجانب الآخر من الطريق السريع، من الهزات العنيفة، كان قد اختار البقاء في منزل عائلي من طابقين هناك، خوفًا من وقوع زلزال عنيف مثل الزلزال الذي بلغت قوته 7.8 درجة والذي دمر أجزاءً من جنوب تركيا وشمال سوريا، وقد هرع على الفور إلى مبنى عصر النهضة ويقول أنه “في الطريق، بدأت أدرك أن الطرق كانت مغلقة في بعض الأماكن بسبب المباني المنهارة، لقد بدأت أدرك مدى قوة الزلزال، وكان علي أن أجد طريقة للوصول إلى هنا، “قال، وهو يقف في بستان الزيتون الذي كان يلتف حول قاعدة مبنى عصر النهضة، حيث كانت العائلات تخييم لأكثر من أسبوع، بانتظار عمال الإنقاذ لسحب الجثث من تحت الأنقاض.
عندما وصل (عطا) حاول التمشيط بين أنقاض المجمع السكني الضخم ليجد سركان وعائلته، محاطين بالصراخ المؤلم من أقاربهم الذين يبحثون عن أحبائهم في الغبار والخرسانة في مبنى كان يُعلن ذات مرة أنه آمن.
“في كل خطوة قمت بها كنت أسمع الناس يصرخون طلبًا للمساعدة، لكن مبنى عصر النهضة كان عبارة عن 250 شقة تقريبًا، ولم أستطع معرفة كيفية تحديد موقع طابق أخي، لذلك لم أستطع معرفة المكان الذي يجب أن أتصل به لمعرفة ما إذا كان لا يزال على قيد الحياة أم لا، إذا كان بحاجة إلى مساعدتي، لقد انهار كل شيء تمامًا ولم أستطع الدخول. مكثت هنا حتى الثامنة من ذلك اليوم، لكن لم يأت أحد “.
كان من المفترض أن يكون مبنى عصر النهضة، وفقًا لما كتبه أحد السكان السابقين في سجل الزوار “ركنًا من أركان الجنة” وكان قد تم بناء المبنى الفاخر في عام 2013 على مشارف مدينة أنطاكيا، في مقاطعة هاتاي جنوب تركيا، ويضم شققًا بيعت بما يصل إلى 132 ألف جنيه إسترليني، وهو أغلى بكثير من أي عقار آخر في المنطقة، حيث كان يضم حوض سباحة خاص به ومقاهي وملاعب رياضية وكان شاغله من الطبقة المرموقة في هاتاي: أستاذ فيزياء ورياضيون محترفون ومقاول بناء فاخر، بدأ سرجان وزوجها سركان للتو أعمالهما التجارية الخاصة في استيراد التوابل وصنع الصلصات وفقًا لوصفات هاتاي المحلية والتي بدأت في تجارتهما في الانتعاش حتى في ظل الاقتصاد التركي المضطرب.
وسرعان ما جاء التدمير الكامل لمبنى عصر النهضة ليجسد التوتر بين السلطات التركية والجمهور، وقد أدى الزلزال إلى انهيار آلاف المباني في جميع أنحاء جنوب البلاد، حيث تبين أن 84.726 ألف مبنى قد دمرت أو تضررت بشدة، وذلك وفقًا لوزير البيئة والتخطيط العمراني مراد كوروم، بينما ألقت الدولة باللوم على المطورين العقاريين ومقاولي البناء ،إلا أن الأقارب الغاضبون لأكثر من 36.000 قتيل في تركيا، مثل أولئك الذين تجمعوا خارج مبنى عصر النهضة لأكثر من أسبوع، يقولون إن نظام فساد أوسع مكن من ممارسات البناء الفاسدة التي تسببت في انهيار المباني على ساكنيها بهذا الشكل المفجع.
وبعد أقل من أسبوع من انهيار مبنى عصر النهضة ألقي القبض على المطور العقاري المسؤول عن بناء المبنى الفاخر وهو محمد يسار كوشكون في مطار إسطنبول بتهمة محاولة الفرار، وتم القبض على ما لا يقل عن 110 ما بين مقاولين ومطورين بناء آخرين في تركيا، واتهم بعضهم بارتكاب “القتل غير العمد وانتهاكات قانون البناء”.
بينما صرح كوشكون في بيانه أنه لا يعرف سبب انهيار مبنى عصر النهضة، وأنه اتبع جميع اللوائح المطلوبة أثناء البناء، وقال “لم تكن هناك مشاكل خلال بنائه لمدة عامين، وكان المبنى قيد الاستخدام لمدة 10 سنوات، ولم تكن هناك مشاكل خلال هذا الوقت”.
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي تولى السلطة في عام 2003 وقد رفض دعاوى الفساد المؤسسي في قطاع البناء التركي، وذلك قبل شهر واحد من الانتخابات المحلية في مارس 2019، وبناء عليه أصدرت حكومته عفوًا على مستوى البلاد بشأن البناء غير القانوني بما في ذلك المقاولون الذين أضافوا طوابقًا إضافية غير مسجلة للمهندسين المعماريين والمهندسين المحليين على الرغم من مخاوف السلامة. وكان قد وعد سابقا بطفرة بناء على مستوى البلاد لإعادة بناء البلاد بعد الزلزال المميت الذي هز تركيا عام 1999 والذي أسفر عن مقتل أكثر من 17.000 شخص، ليعلن أردوغان أن “ثمانية وتسعين بالمائة من المباني المنهارة بُنيت قبل عام 1999” ووعد بإعادة الإعمار السريع بعد أقل من شهر من الزلزال.
ومع ذلك، قال بعض السكان السابقين لمبنى عصر النهضة والذين نجوا من الزلزال بأنهم أطلقوا ناقوس الخطر قبل الزلزال وحذروا من أن المبنى كان غير آمن قبل الزلزال بوقت طويل. وقالت زيكي باروتسو يغيت باشي لوكالة أنباء ديميرورين: “أخبرت مدير المبنى أنني كنت خائفة وأن أساسات المباني كانت تنزلق – لقد ضحك ساخرا مني، لقد حذرتهم لأيام، وبعد ذلك أخبرني نفس مدير المبنى أنه تم حل المشكلة، عندما سألت كيف أصلحوا المشكلة، أخبرني أن المهندسين قاموا بتقييم المبنى، أخبرت جيراني بهذا لكنهم لم يهتموا “.
وتشير التقديرات إلى وجود ألف شخص داخل المبنى وقت انهياره، والجثث التي انتشلت من تحت الأنقاض دون وجود أحد الأقارب للتعرف عليها كانت معرضة لخطر الدفن بسرعة بسبب حالتها المتحللة، مما أجبر العائلات على استخراج الجثث من أجل التعرف عليها، وأعربت عائلات أخرى عن ارتياحها لتمكنها من العثور على جثث أحبائهم سليمة بدلاً من قطع أشلاء من أجسادهم، مما يسهل التعرف عليها.
ويشير عطا أن أبيه مقاول بناء متقاعد، كان تفقد شقة سركان والمبنى قبل عام ونصف وأخبر أخي أن الأمر خطير ويجب ألا تنتقل إلى هنا “لكن أخي لم يستمع، وأخبره أنه مبنى آمن، به نظام ياباني مضاد للصدمات لجعل الأساسات مقاومة للزلازل.
وأشار إلى كتل برج الباستيل المتكسرة المنتشرة في المنطقة المحيطة بشارع إينونو، حيث وقف عصر النهضة، بالقرب من مجموعة صغيرة من المقاهي والشركات. قال: “انظر، لم ينهار أي من تلك المباني، فقط عصر النهضة”.
قالت عائلات أخرى اجتمعت أمام الهيكل العظمي الخرساني الضخم لعصر النهضة إن اعتقال كوشكون لم يكن كافيًا، وأنه لا تنتهي العملية بإمساك المقاول، فحتى لو ضبطنا المقاول وعاقبناه. لكن السؤال الحقيقي هو من أعطى المقاول إذن البناء؟ قال إلياس جيتين وهو يدفئ نفسه حول نار حطب مع شقيقيه “أولئك الذين يمنحون الموافقات لهذا البناء، يجب القبض عليهم ومساءلتهم”.
خدم كوشكون لفترتين كرئيس لغرفة المهندسين المعماريين في هاتاي، وهو منصب نقابي رائد أشاد به لمكانته في المجتمع المحلي، ولكن بعد انهيار مبنى عصر النهضة، قال رئيس بلدية هاتاي، لوتفو سافاش، إن توجيه الأسئلة حول من قام بتسهيل ترخيص البناء وتوجيه التهمة لمكتبه أمر غير أخلاقي، وألقى باللوم على بلدية إكينجي حيث يقع المبنى السكني.
قال أيوب موهكو، الأمين العام لغرفة المهندسين المعماريين في تركيا: “هناك سلسلة من المسؤوليات في عملية البناء، بما في ذلك تلك الموجودة في الجهات المحلية والمركزية” وأضاف “يتم استخدام الناس ككبش فداء حتى لا تتم محاسبة المسؤولين، وأنه ينبغي محاسبة كل مسؤول كل من شارك في تشييد المبنى وتقييم المسؤولية القانونية الواقعة على كل مسؤول “.
لكن عائلات مثل آل كوشار أو جيتين، التي تجمعت عند سفح مبنى سكني فاخر صار كتلة من الخردة، قالت إن القبض على مقاول واحد لن يفعل الكثير لتهدئة حزنهم، وكل قولهم هو” هل يمكنه إعادة الذين توفو للحياة مرة أخرى؟