لن ينسى أحدٌ يعيش في تركيا أو له أيّ ارتباطٍ بتركيا ما حدث فيها ليلة الخامس عشر من يوليو/تموز (٢٠١٦م) من وقائع عجيبة ومشاهد مثيرة لا تقل إثارة عن أفلام هوليوود، سيظل الجميع يتحدث عنها فترة طويلة لما كان لها من تأثير مباشر على حياة المجتمع والدولة سواء في الداخل التركيّ أو خارجه، ولن يعود المشهد في تركيا بعد تلك الليلة كما كان من قبل، ولن تعود الحياة إلى سابق عهدها بعد تلك الليلة، لأنها كانت مخاضًا جديدًا لولادات جديدة، فهل هذه الولادات تُبشّر بخير أم تنذر بشرّ؟ هذا ما ستكشف عنه الأشهر والسنوات المقبلة.
الانقلاب في تركيا
ما الذي حدث؟
ليلة ١٥ يوليو/تموز (٢٠١٦م) من يوم الجمعة، وفي الساعة التاسعة والنصف مساءً؛ فوجئ الناس بعبارات صادمة تجري على شاشات القنوات التلفزيونية تقول: إن هناك تحركًا عسكريًّا في إسطنبول، وأن مجموعة من العساكر أغلقوا الجسر المعلق على البوسفور وأوقفوا حركة السير، وأن كتيبة أخرى حاصرت قصر “بكلر بكي (Beylerbeyi)”، وأن بعض طائرات الهليكوبتر تحلق في الفضاء، إضافة إلى بعض التحركات في العاصمة أنقرة، بعد قليل تطايرت أنباءٌ بأن كتيبة عسكرية أخرى حاصرت مبنى القناة الحكومية “تي أر تي (TRT)” تريد السيطرة عليها، تسمّرت الأعين على شاشات التلفزة تتابع كل ما يستجدّ بانفعال شديد، بعد قليل توقّف بث قناة “تي أر تي” الحكومية واسودّت شاشتها، ولكن قبل ذلك بدا رئيس الوزراء “بِنْ عَلي يِلْدِرِيمْ (Binali Yıldırım)” على شاشة قناة أخرى يتحدث على الهواء مباشرة، ويقول إن هناك تمرُّدًا لمجموعة صغيرة من العساكر، وأنه سيتم اتخاذ كل التدابير اللازمة لإفشال محاولتها، عرف الناس جميعًا أنهم أمام محاولة انقلابية، في هذه الأثناء انتشرت على الشبكة الاجتماعية أنباء بأن رئيس الجمهورية أردوغان غادر بطائرته البلاد متجهًا إلى وجهة مجهولة، وشاعت أخبار بأنه اتجه صوب ألمانيا طالبًا اللجوء والحماية.
بعد قليل ظهر على شاشة قناة أخرى وزير العدل التركيّ يتحدث عن محاولة انقلابيّة وأن الوضع تحت السيطرة، وأنه سيتم اتخاذ كل الإجراءات اللازمة ومعاقبة جميع المتورطين في هذه العملية النكراء.
فجأة عادت قناة “تي أر تي” إلى البث، ظهرت المذيعة الشهيرة التي تقدم نشرة الأخبار الرئيسة لتقرأ على الناس أجمعين بيانًا يعلن أن القوات العسكرية وضعت يدها على حكم البلاد لما رأته من حياد عن القيم الوطنية والعلمانية التي قامت الجمهورية التركية على أساسها والتي أرسى قواعدها أتاتورك.. إلخ.
ساد الوجوهَ حالةٌ من الدهشة والقلق والتساؤل، إذًا هو انقلاب فعلًا، إذًا ها نحن نعيش الفيلم نفسه، عاد العسكر إلى الحكم من جديد، ولكن الغريب أن القنوات التلفزيونية الأخرى كانت تواصل بثها كأن لم يحصل شيء: شخصيات حكومية تظهر على شاشاتها، تطمئن الشعب، وتهدد بالويل لمن اقترف هذا العمل المشين؛ المشهدُ بدا غريبًا، إذ ما هذا الانقلاب الذي يتم على مرأى ومسمع من العالم، في ساعة الذروة، وسط حرية إعلامية كاملة لجميع رموز الحكومة ومؤيديها من الكتّاب والصحفيين والمعلقين، ما عدا قناة “تي أر تي” التي توقف بثها بعد قراءة بيان الانقلاب؟!
لكن أين الرئيس أردوغان؟ أين طائرته؟ لا أحد يعلم، هناك أنباء متضاربة حول مكان الطائرة ومسارها، وبعد فترة قليلة ظهر أردوغان على شاشة “سي إن إن ترك (CNNTURK)” عبر الهاتف الذكيّ، يتوعد القائمين بمحاولة الانقلاب، ويدعو الشعب التركي إلى الشوارع لدحض الانقلاب والحفاظ على الديمقراطية.. أردوغان لوّح في كلمته إلى فزاعته المشهورة، “الكيان الموازي”، وأن هذا الكيان هو الذي يقف وراء هذه المحاولة.
بعد مكالمة أردوغان هذه برز المسؤولون الأتراك على شاشات كافة القنوات التلفزيونية يوجهون دعوة إلى الجماهير لكي يواجهوا الدبابات والكتائب العسكرية ويجهضوا الانقلاب مهما كان الثمن.
لم تمض ساعات قليلة حتى خرج الناس إلى الشوارع يواجهون الدبابات، ويحتجون على الجنود الذين أغلقوا جسر البوسفور وحاصروا بعض المباني الحكومية في إسطنبول، بعد قليل شاهد الناس عودة “تي أر تي” إلى بثها، شاهد الناس وزير العمل “سليمان سويلو (Süleyman Soylu)” مع مجموعة من العمال في القناة وقد استعادوا المبنى من العساكر، يعلنون عن انتصارهم عليهم، ويدعون الناس إلى الشوارع كما فعل أردوغان.
بدا الموقف حرجًا بالنسبة للانقلابيين، فقد انفلت الموقع الذي أعلنوا منه قرار الانقلاب من أيديهم بسهولة غريبة. بعد قليل انتشرت أنباء بأن الانقلابيين بدؤوا يفقدون السيطرة على المواقع الأخرى التي تمكنوا منها وأن هناك تراجعًا في مواقفهم، لكن مع ذلك حصلت أحداث مأساوية، قتل فيها ما يقارب من مائتي مواطن تركي في مواجهات عشوائية مع العساكر، بعد قليل تناقلت وسائل الإعلام أنباء بأن طائرات تقصف مجلس الشعب التركيّ، وكذلك سقطت بعض القنابل في حديقة القصر الجمهوري!! ما زاد المشهد احتقانًا ودموية.
بدا خلال ساعات قليلة بأن المحاولة الانقلابية فشلت.. وأعلنت القنوات التلفزيونية بأن طائرة الرئيس أردوغان حطت في مطار “أتاتورك” بإسطنبول ومقاتلات الانقلابيين تطير في سماء إسطنبول في ارتفاع منخفض وأنه سيعقد مؤتمرًا صحفيًّا بعد قليل.
من وراء الانقلاب؟
كان أردوغان هادئًا جدًّا، يجاوره صهره “برات أَلْبَايْرَاقْ (Berat Albayrak)”وزير الطاقة بوجه مبتسم، جلس على المنصّة، تركزت عليه عدسات الكاميرات المحلية والعالمية جميعًا تنتظر كلماته الأولى وتقييمه لما وقع، ذكر في بداية كلمته أن هذه المحاولة كانت “فضل من الله” وجاءت في وقتها لتصفية الجيش من عناصر “الكيان الموازي”، وألصق محاولة الانقلاب مباشرة بـ”الكيان الموازي”، واتهم المفكر والداعية فتح الله كولن المقيم في “بنسلفانيا” بالولايات المتحدة الأمريكية بتدبير هذا الانقلاب، وأضاف أنه كان يقول إن هؤلاء -ويقصد حركة الخدمة- منظمةٌ إرهابيةٌ، لكنه لم يستطع أن يقنع أحدًا بذلك، لكن مع هذه المحاولة ثبت بالدليل القاطع أنهم منظمة إرهابية ومسلحة كذلك!؟ وسيتم اجتثاثها من أجهزة الدولة تمامًا، إضافة إلى مصادرة كل ممتلكات المنتمين إليها في كل أنحاء تركيا، وإغلاق مؤسساتهم جميعًا، وملاحقتهم في كل أنحاء العالم حتى لا يبقي أحدٌ منهم على وجه الأرض.