(زمان التركية)ــ نشر موقع wars on rocks الأكاديمي والمتخصص في الشؤون الأمنية، دراسة عن موقف الولايات المتحدة في الصراع التاريخي الدائر بين كلا من تركيا واليونان، مجيبًا عن التساؤل المهم “هل أصبحت الولايات المتحدة منحازة تجاه طرف ما في هذا النزاع أم أنها تحافظ على موقف غير منحاز باعتبارها وسيطًا بين البلدين؟”.
الدراسة أعدها ريان جينجراس أستاذ في قسم شؤون الأمن القومي في كلية الدراسات العليا البحرية، والخبير في تاريخ تركيا والبلقان والشرق الأوسط.
وفيما يلي أبرز ما ورد في الدراسة:
إن العداء بين البلدين -اليونان وتركيا- له تاريخ طويل وكادت تندلع الحرب بينهما عدة مرات على مدار التاريخ الحديث، ولكن ما يعيد إلى الذاكرة هذه النزاعات هو تصريحات الرئيس أردوغان، فعلى مدار عام 2022 استمر في الخروج بتصريحات تستهدف اليونان. وبدأ هذا العام بدأ بإصدار وزارة الخارجية بيانًا يهدد بأن إعلان سيادة اليونان “قابل للنقاش” إذا استمرت في “عسكرة” جزر بحر إيجة.
ترصد الدراسة أنه ومنذ التهديد بالتحرك ضد أراضي اليونان في بحر إيجة في سبتمبر الماضي، انتهز الرئيس التركي الكشف عن خط جديد من الصواريخ الباليستية كفرصة لزيادة الرهان.
وتفاخر أردوغان بأن صواريخ طايفون الجديدة “دفعت اليونانيين إلى الجنون ” وأشار إلى أن أثينا يمكن استهدافها الآن بشكل مريح، في بداية كانون الأول /ديسمبر، كرر هذه التصريحات أكثرمن مرة مضيفا أن اليونان “لا ينبغي أن تنعم بالراحة” معلقا إذا حاولت أثينا شحن أسلحة أمريكية إلى جزر بحر إيجة لن تقف مكتوفة الأيدي.
أما عن الموقف الأمريكي على هذه التصريحات، فقد رد الممثلون الأمريكيون بتحذيرات عامة، حيث جدد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس مشددا على أن “التصعيد لخطابي سيؤدي إلى إثارة مزيد من التوترات وصرف الانتباه عن وحدة الهدف. التي نحتاجها لمواجهة عدد من التحديات” ويقصد بالطبع روسيا العدو الأكثر عدوانية.
وبينما يخبرنا تاريخ الصراع والعداء التركي اليوناني أن الولايات المتحدة كانت تتوسط في النهاية لتهدئة الأمور فالأمور مختلفة اليوم عن الماضي لا سيما وأن العلاقات الأمريكية التركية ليست في أفضل حالاتها وأن التصريحات المعادية لأمريكا تخرج بين الحين والآخر وفي الوقت نفسه فإن ورغم ما قامت به تركيا حتى الآن من التوسط بين روسيا وأوكرنيا والدور الذي تلعبه في هذا الصراع إلا أن شرائها منظومة الصواريخ الروسية كان قرارا أغضب المسؤولين الأمريكين وجعلهم يميلون إلى استمرار منع طائرات إف 16 عن تركيا وهو ما زاد من عرقلة العلاقات التركية الأمريكية بينما قامت الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة بتزويد اليونان بمنظومة أسلحة متطورة جعل أردوغان ينظر إلى هذا باعتباره تهديدا مباشرا لتركيا، وهكذا فقد أصبحت اليوم الولايات المتحدة لا تستطيع أن تلعب دور الوسيط كما كانت تفعل في الماضي وربما إذا تطور هذا الخلاف ووصل إلى حالة النزاع المسلح فقد تصبح كل خيارات الولايات المتحدة صعبة ومكلفة للغاية.
وبالعودة إلى أهم تحولات الصراع التركي اليوناني المستمر فقد كان الغزو التركي لقبرص في تموز (يوليو) 1974 بمثابة اختبارللولايات المتحدة وموقفها في هذا الصراع، وعلى الرغم من أن التحكيم الأمريكي ساعد في تجنب حرب شاملة بين اليونان وتركيا فقد ضعفت علاقات واشنطن مع كل من أثينا وأنقرة إلى حد كبير. وبعد أن شعرت اليونان بالخيانة من قبل الولايات المتحدة قامت بالانسحاب لفترة من هيكل القيادة العسكرية لحلف الناتو وسعت إلى إقامة علاقات أوثق مع الاتحاد السوفيتي، بينما على الجانب التركي على الرغم من تأمين أهدافها في قبرص، إلا أن قيام الكونجرس بفرض حظر أسلحة على تركيا لمدة ثلاث سنوات، ترك ندوبا كبيرة لدى المسؤولين الأتراك ومع ذلك فقد تحملت واشنطن دور الوسيط المفضل بين اليونان وتركيا بعد سلسلة من النزاعات الإقليمية في بحر إيجة في السبعينيات والثمانينيات، كما حدث في وقت سابق في الحرب الباردة، فالمخاوف المشتركة بشأن سلامة الناتو وفرت قاعدة للمفاوضات بين واشنطن وأنقرة وأثينا، كما أدرك المسؤولون الامريكيون أن كلا من القادة اليونانيين والأتراك يرون ضرورة في كسب التأييد الأمريكي والأوروبي إذا أرادوا تحقيق أهدافهم، وكما وصف أحد محللي وكالة المخابرات المركزية في عام 1978فإن كلا البلدين لا “تستطيعان ترك الميدان لمنافسها من خلال الاستغناء عن الدعم الغربي بصورة كلية “.
وبالفعل فقد أثبتت العلاقة الشخصية ومشاركة كبار القادة الأمريكيين دورها في تخفيف التوترات، حيث تفاوض هنري كيسنجر مباشرة مع القادة اليونانيين والقبارصة والأتراك خلال أوائل السبعينيات، عندما وصلت أنقرة وأثينا إلى أعتاب الحرب بسبب نزاع حول مطالباتهما المتضاربة بجزيرة غير مأهولة في عام 1998 تحدث بيل كلينتون مباشرة إلى رئيسة الوزراء التركية تانسو تشيلر في وقت متأخر من الليل على أمل تجنب الصراع، ولكن في الوقت نفسه وبينما تعد تلك الوساطة من جانب الولايات المتحدة نوعا من الاستثمار الاستراتيجي، إلا أن داخل دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة كان الجميع يشعر بالملل والسخط من هذا الصراع وضغط كلا الطرفين لانحياز الولايات المتحدة لأحد الجانبين.
ويشير البحث أن قرار قبرص في عام 2011 بالبدء في التنقيب عن الغاز الطبيعي قبالة شاطئها الجنوبي أدى إلى إعادة إشعال العداوات طويلة الأمد بشأن الحقوق البحرية التركية واليونانية والقبرصية في البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجه، وبينما كانت تركيا في ذلك الوقت ملتزمة باستراتيجية “صفر مشاكل” مع جيرانها، إلا أن أردوغان تعهد بمقاومة الضغط الدولي عندما يتعلق الأمر بالمصالح التركية في البحر حيث صرح في عام 2011 قائلا “من الآن فصاعدًا سنواصل تنفيذ كل ما تتطلبه مصالحنا الوطنية دون تردد” وفي أعقاب هذا التصريح بدأ مصطلح “الوطن الأزرق ” يأخذ مكانه ضمن المعجم التركي كوسيلة لوصف أنقرة لحقوقها البحرية، كما نمت عدوانية أردوغان المتصاعدة نتيجة للخلاف المتزايد بين تركيا والولايات المتحدة، خاصة مع اقتراب واشنطن من المسلحين الأكراد في سوريا بعد عام 2014، وبدأ مؤيدو سياسة الوطن الأزرق في اتهام الولايات المتحدة بالتآمر لإغلاق تركيا عن البحر بمساعدة اليونان وقبرص وأكراد سوريا، وعلى الرغم من أن المسؤولين الأتراك كانوا مترددين في البداية من دعم تلك الاتهامات علنًا، إلا أن أردوغان صرح دون تحديد في عام 2017 بأن هناك “مشروعًا لمحاصرة بلدنا” بقيادة أعداء تركيا في الداخل والخارج.
وكما يذكر الباحث فإن استفزازات أردوغان ليست نتاجًا بحتًا للقلق الداخلي أو جنون العظمة الشخصي فآرائه تمثل إجماعًا واسعًا حول تاريخ علاقة أمريكا بتركيا، حيث يُعتقد على نطاق واسع حتى بين معارضي أردوغان أن الولايات المتحدة سعت باستمرار إلى إلحاق الأذى بتركيا أو تحقيرها منذ المراحل الأولى من الحرب الباردة، وعندما هددت إدارة ترامب علنًا بطرد تركيا من برنامج F-35 شبه النقاد في تركيا ذلك بالإنذار النهائي الوارد في خطاب جونسون عام 1964 والذي حذر فيه أنقرة من غزو قبرص، وليس من غير المألوف أن يشير النقاد والمسؤولون السابقون إلى أن تدمير تركيا كان دائمًا مشروع أمريكي وغربي، ويمكن القول إن هذه الفرضية أساسية في كيفية رؤية أردوغان نفسه لماضي العلاقات الأمريكية التركية وحاضرها ومستقبلها.
وخلصت الدراسة في النهاية إلى أنه مع استعداد أنقرة لتوسيع تعاونها مع روسيا، وربما توسيع نطاق وجودها في شمال سوريا، وكما طرح آرون شتاين مؤخرًا أنه “لا يوجد تقارب واسع في العلاقات التركية الغربية” ويجادل بأنه “لا يمكن فعل الكثير – إن وجد – لإدارة تركيا وتطلعات سياستها الخارجية” وإذا كان هذا هو الحال بالفعل فإن موقف أمريكا بين تركيا واليونان يبدو قاتمًا بشكل خاص.
ويبدو أن موقف أردوغان ينفي مكان واشنطن كوسيط بين الجارتين، وفي حين أنه من المحتمل أن تكون بروكسل أكثر نجاحًا في سد الفجوة إلا أن هناك احتمالًا بأن الوساطة الأوروبية قد تحقق نجاحًا محدودًا، وبينما جادل بعد المحللين بأن موقف أردوغان قد يكون حيلة انتخابية، فيبدوا أنهأنه لا يوجد مجال كبير للتسوية بين الحقوق السيادية لليونان والمخططات الاستراتيجية لأنقرة.
وكما قال أحد الخبراء الأتراك مؤخرًا فقد تكون الرياح الآن مواتية لتركيا، ففي ظل الحرب الروسية الأوكرانية قد يضطر الغرب إلى تحمل هجوم تركي من أجل وحدة الناتو، كما حدث أثناء الغزو التركي لقبرص عام 1974، وقد تدفع هذه الشروط الأساسية أنقرة نحو الحرب مع أثينا في المستقبل المنظور.
ويجيب الباحث عن الخيارات المتاحة للولايات المتحدة، حيث قد يجبر تهديد هجوم تركي على اليونان واشنطن على التعامل مع عدة سيناريوهات غير مرغوب فيها، إذا كان أردوغان ينوي شن حرب فقد يصبح من المستحيل الحفاظ على واجهة التوازن بين أثينا وأنقرة، وبالنسبة لواشنطن فقد يؤدي الحفاظ على السلام إلى خيارين غير مواتيين، ويمكن للمسؤولين الضغط على أثينا للتنازل عن جوانب سيادتها، ويمكن لإدارة بايدن التخلي فجأة عن اتفاقية التعاون الدفاعي المتبادل مع اليونان.
وعلى الجانب الآخر فمن المرجح أن الولايات المتحدة قد يُترك مع عدم وجود بديل آخر سوى العمل كضامن بحكم الأمر الواقع لسيادة اليونان الإقليمية وتبني هذا الدور، حتى لو ردع أنقرة على المدى القصير يضع صناع السياسة الأمريكيين في موقف متناقض يتمثل في الاضطرار إلى التخطيط لصراع عسكري محتمل مع دولة حليفة، ويعد مجرد الاقتراح بأن الولايات المتحدة تتوقع صدامًا مع الجيش التركي من شأنه أن يثير بلا شك تساؤلات بشأن سلامة حلف الناتو – ناهيك عن مستقبل تركيا كشريك أمريكية.
وإذا كانت الولايات المتحدة مضطرة للدفاع عن اليونان فقد يضطر صناع السياسة في واشنطن إلى القيام بشيء أكثر عمقًا وهو إعادة تصور تركيا كمنافس مباشر أو خصم، ومن المؤكد أن التكيف مع مثل هذا الواقع سيكون تحديًا كبيرًا لصناع السياسة الأمريكيين وكذلك سيكون خيارا صعبا لحلف الناتو ككل، على دعم تركيا كحليف في كل من أوروبا والشرق الأوسط
وبالتالي فإن إعادة تصور تركيا من منظور عدائي سيؤدي إلى إعادة تقييم جيوستراتيجي أوسع للمخططين الأمريكيين مثل روسيا العدوانية من المحتمل أن تهدد تركيا المتحاربة التدفق الحر لحركة المرور عبر البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، وقد تؤدي مواجهة هذا التهديد المحتمل إلى التزامات دفاعية جديدة مثل توسيع العلاقات الأمنية مع اليونان وقبرص ومصر، في حين أن قلة في الولايات المتحدة قد ترغب في رؤية هذه التغييرات تتحقق وقد تتطلب الظروف من واشنطن الاعتراف بالعداء التركي كقوة مزعزعة للاستقرار في العالم.