د.منى سليمان
(زمان التركية)ـ أعلنت تركيا في 26 نوفمبر 2022 أنّ السويد وفنلندا أحرزتا “تقدّمًا” نحو إنضمامهما إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وذلك بعد اجتماع أمني عقد بين وفود الدول الثلاث في العاصمة السويدية ستوكهولم، ويعد هذا أول تصريح إيجابي من أنقرة بشأن موافقتها على إنضمامهم “للناتو” لأنه وفقا لقواعد الحلف تتم الموافقة بالإجماع لقبول أعضاء جدد، وكانت تركيا قد اتخذت موقف متشدد منذ مايو الماضي عندما تقدم الدولتين بطلب لعضوية الحلف، واتهمتهم أنقرة بدعم الجاليات الكردية بأوروبا بشفيها السياسي والعسكري الممثل في “حزب العمال الكردستاني“،
وكذلك دعم المعارضة التركية وعناصر حركة “الخدمة” التي تتهم أنقرة ملهمها المفكر الإسلامي “فتح الله جولن” بالتحريض على الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو 2016، بيد أن هذا التشدد قد انتهى بالتزامن مع موافقة أوروبية أمريكية ضمنية على شن عملية عسكرية برية تركية في شمال سوريا للانتقام من مرتكبي تفجير إسطنبول الذي وقع منتصف نوفمبر 2022 وأوقع خمس قتلى، الأمر الذي ينذر بمساومة تركية “للناتو” لضم الدولتين، مقابل عدم الاعتراض على تدخلها العسكري في سوريا ووقف الدعم للأكراد، وهو حال تم سيعزز مكانة تركيا بسوريا في ظل التفاوض مع روسيا على تقاسم النفوذ بينهما وسيحقق المزيد من المكاسب لأنقرة وكذلك سيلحق بها عدد من الخسائر أهمها تراجع الأهمية الجيوسياسية لتركيا “بالناتو” على المدى الطويل حال انضمت فنلندا والسويد له.
أولا: تطور الموقف التركي:
شهد الموقف التركي من انضمام فنلندا والسويد لحلف شمال الأطلسي “الناتو” تطورا ملحوظا، منذ مارس 2022 عندما أعلنت الدولتين عزمهما الانضمام للحلف خشية تعرضهم لعمل عسكري روسي جراء التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا الذي تم في 24 فبراير 2022، ثم أعلنت تركيا تحفظها على هذا الانضمام واتهمت الدولتين بدعم التنظيمات الكردية المسلحة في سوريا (حزب العمال الكردستاني، وحدات حماية الشعب الكردية) وكذلك عناصر الخدمة التركية والعاملين بها (مؤسس الحركة هو المفكر التركي المقيم في بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية “فتح الله جولن” الذي يتهمه أردوغان بالتحريض على الانقلاب الفاشل في 15 يوليو 2016)، كما أعلنت تركيا أن دول حلف الناتو قدمت مساعدات عسكرية لتلك التنظيمات تقدر بنحو نصف مليار دولار منذ عام 2015 بذريعة مكافحة الإرهاب.
ورغم أن العلاقات التركية- الفنلندية جيدة وكذلك التركية- السويدية حيث يعيش في الأخيرة 120 ألف تركي أغلبيتهم من أصول كردية، إلا أن تركيا رفض المصداقة على انضمام فنلندا والسويد “للناتو” بعد تقديم الدولتين طلبا رسميا للحلف في 18 مايو الماضي، ورفض الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” استقبال وفد أمني من الدولتين لبحث مسالة انضمامهم للناتو، ومنذ ذلك الحين وقد تدرج الموقف التركي من انضمام الدولتين حيث رفضت بشدة الانضمام ووضعت عدة شروط ثم بدأت في التفاوض مع الدولتين، ثم أعلنت عزمها على الموافقة، وذلك بعد تنفيذ فنلندا والسويد المطالب التركية منهم، وجدير بالذكر أن 28 دولة من أعضاء الحلف البالغ عددهم 30 دولة قد وافقوا على انضمام فنلندا والسويد ولم يبق سوى موافقة تركيا والمجر، حتى يتم قبول نهائي لعضوية الدولتين بالحلف، وقد كان أبرز التطورات في الموقف التركي خلال الفترة الماضية كما يلي.
-كسر تقدم فنلندا والسويد بطلب رسمي لعضوية “الناتو” الحياد التقليدي للدولتين المستمر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، حيث كانت ترفض الدولتين الاسكندنافيتين الواقعتين بأقصى شمال أوروبا على الحدود الروسية الانضمام “للناتو” لعدم إغضاب موسكو، بيد أن مخاوفهم الأمنية بعد الحرب الأوكرانية دفعتهم لطلب الانضمام “للناتو” وهو ما استغلته تركيا جيدا، ففي يونيو الماضي وعلى هامش عقد قمة الحلف بمدريد عقد اجتماع رباعي ضم الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” ونظيره الفنلندي “ساولي نينيستو” ورئيسة الوزراء السويدية آنذاك “ماجدالينا أندرسون”، وأمين عام الحلف “ينس ستولتنبرغ”، ثم تم إبرام مذكرة تفاهم ثلاثية برعاية الحلف بين تركيا فنلندا السويد وهي ما تعد سابقه في تاريخ الحلف بغية بحث المطالب التركية الأمنية من الدولتين للموافقة على انضمامها للحلف، وأكد “أردوغان” أنه لن يكرر خطأ الموافقة على انضمام اليونان للحلف الذي تم قبل حل المشكلات الخلافية بينهم وهدد الأمن القومي التركي بعد ذلك وفق وصفه، وفي نهاية يونيو الماضي قام “ستولتنبرغ” بزيارة لفنلندا أكد خلالها “أن مخاوف تركية الأمنية مشروعة وتتعلق بالإرهاب وصادرات الأسلحة”.
– في مطلع يوليو 2022 صدر بيان مشترك ثلاثي بين فنلندا والسويد وتركيا يؤكد أن الدولتين حليفين مستقلبليين في “الناتو” لن تدعمان التنظيمات الكردية وأنصار حركة “الخدمة” وأكدت السويد أنها بدأت في تطبيق قانون جديد بشأن الجرائم الإرهابية، كما أعلنا رفع الحظر على تصدير الأسلحة لتركيا الذي كانت السويد قد فرضه على أنقرة منذ 2019 بعد شن تركيا عملية “نبع السلام” على شمال سوريا، كما أعلن جهاز الأمن السويدي تكثيف عمله ضدّ عناصر “حزب العمال الكردستاني”، مما دفع الجاليات الكردية في السويد لتنظيم تظاهرات احتجاجية ضد القصف التركي المستمر على شمال سوريا ومناطق الإدارة الذاتية “لقوات سوريا الديمقراطية – قسد”
– في مطلع أغسطس 2022 نفت السويد إرسال أموال أو أسلحة للتنظيمات الإرهابية الكردية، بينما طالبتها أنقرة استوكهولم وهلسنكي بتسليمها “إرهابيين” وليس مجرمين عاديين، وفي منتصف الشهر أقرت ستوكهولم ترحيل المعارض الكردي “زينار بوزكورت” من السويد، بينما رفض القضاء السويدي ترحيل 19 شخصا من أصل 33 شخصا تطالب تركيا بترحيلهم من السويد، ثم في 26 من الشهر نفسه عقد أول اجتماع أمني بين وفود الدول الثلاث بمدينة فانتا جنوب فنلندا، حضره وزير العدل التركي “بكير بوزداغ” وجدد مطالب بلاده من السويد وفنلندا لتسليمها قائمة تضم 33 شخصًا ينتمون “للعمال الكردستاني”وحركة”الخدمة”، بينما رهنت الدولتين تسليم المطلوبين بقرارات القضاء في كل دولة، كما انطلقت حملة واسعة في السويد من قبل الجاليات الكردية بشعار “لا تسلموا الأكراد للسجون التركية”، حيث أكدت تلك الجاليات أنه حال تم تسليم أي عناصر كردية معارضة لأنقرة سيتم سجنهم فورا.
– في مطلع أكتوبر 2022 طلب “أردوغان” من فنلندا والسويد ملاحقة خصومه السياسيين والمعارضين وأكد أن “تركيا لن تصادق على طلب عضوية السويد وفنلندا للناتو حتى يتم الوفاء بالتعهدات التي قطعتها الدولتان بشأن مكافحة الإرهاب، ورد عليه وزير الخارجية الفنلندي “بيكا هافيستو” برفض بلاده تسليم أي أفراد أو جماعات بعينها، كما أوضح وزير العدل السويدي “مورغن يوهانسون” “أنّ القرارات المتعلّقة بتسليم مطلوبين إلى دول أخرى يُصدرها القضاء المستقلّ”، مقابل ذلك رفعت السويد كافة الحظر عن بيع المعدات العسكرية إلى تركيا.
وكان “أردوغان” قد طلب من السويد تسليم أكثر من 73 معارض وصحفي تركي مقيمين بالمملكة الاسكندنافية منهم رئيس التحرير السابق لصحيفة ‘زمان’ التركية “بولنت كينيس”، و”عبدالله بوزكورت وليفينت كينز”مؤسسي”مركز ستوكهولم للحرية” الذي يضم عدد من المعارضين الأتراك في المنفى، وقد انتقد “كينيس” السويد لأنها بدأت بإطلاق مفاوضات مباشرة مع تركيا ويرى أنه كان من الأفضل أن تتفاوض واشنطن مع انقرة حتى لا تضطر السويد لتقديم تنازلات للأخيرة، بينما دعت جمعية “الصحفيين السويديين” ستكهولم إلى اتخاذ تدابير لحماية الصحفيين الأتراك في المنفى المقيمين بالسويد.
– استدعت وزارة الخارجية التركية في 6 أكتوبر 2022 السفير السويدي بأنقرة “ستافان هيرستروم” للاحتجاج على “محتوى مسيء” للرئيس أردوغان بُثّ على التليفزيون الحكومي السويدي، وقد تكرر ذلك الاستدعاء أكثر من مرة بعد ذلك ففي 23 نوفمبر 2022، استدعت أنقرة السفير السويدي لديها وأبلغته احتجاجها على نشر صور تهين الرئيس “رجب طيب أردوغان” نشرت على مبنى السفارة التركية في ستوكهولم. ووعد هيرستروم بأنه سيتم تحديد مرتكبي الفعل واتخاذ التدابير اللازمة، واتخاذ خطوات ملموسة في ضوء الالتزامات المسجلة في المذكرة الثلاثية بين تركيا والسويد وفنلندا، كما بعتث السويد لتركيا رسالة مكونة من صفحتين تتضمن 14 مثالًا على الخطوات التي اتخذتها لإظهار التزامها الكامل بتنفيذ مذكرة التفاهم الثلاثية التي وقعتها تركيا والسويد وفنلندا، في يونيو 2022 على هامش قمة “الناتو” في مدريد، بيد أن أنقرة لم ترد بإيجابية على تلك الخطوات وأكدت أنها مأزالت غير كافية لمنح موافقتها على انضمام الدولتين للناتو.
– في 3 نوفمبر 2022 قام “ستولتنبرغ” بزيارة لتركيا لحثها على ضم السويد وفنلندا للناتو وإزالة أي عقبات تحول دون ذلك، وحث الدولتين على تنفيذ طلبات تركيا منهم للحصول على موافقتها على الضم، بيد أن أنقرة كررت اعتراضها وعدم رضاها عن الإجراءات التي اتخذتها الدولتين لتلبية مطالب أنقرة، وأكد وزير الخارجية السويدي “توبياس بيلستورم” “إن بلاده يجب أن تنأى بنفسها عن ميليشيا وحدات حماية الشعب الكردية”، ثم جدد “أردوغان” غداة ذلك للمرة الثالثة خلال شهر واحد، أن البرلمان التركي لن يصادق على ضمّ البلدين الاسكندينافيين إلى الناتو قبل “اتخاذهما بعض التدابير الأمنية”.
– ثم قام رئيس الوزراء السويدي الجديد “أولف كريسترسون” بزيارة هامة لأنقرة يوم 8 نوفمبر 2022 التقى خلالها الرئيس التركي “رجب طيب إردوغان”، للحصول على موافقته لضم بلاده لحلف “الناتو” بعد خمس أشهر من المماطلة التركية ورفضها التصديق على ضم السويد وفنلندا للحلف، وتناول اللقاء بحث مطالب أنقرة من استكهولم وهي وقف دعم التنظيمات الكردية (حزب العمال الكردستاني، وحدات حماية الشعب الكردية بشمال سوريا)، وكذلك تسلم تركيا قائمة بالمطلوبين من تلك التنظيمات المصنفة إرهابية بأنقرة وعناصر “حركة الخدمة” المتهمة بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة بتركيا في منتصف يوليو 2016. وقد أعلن “كريسترسون” تفهمه للمطالب التركية والعمل على وقف أي دعم للتنظيمات الكردية، بيد أنه علق تسليم المطلوبين لأنقرة بقرارات القضاء السويدي، كما كشف عن إنشاء مجموعة صداقة برلمانية سويدية تركية مشتركة.
واعتبر رئيس البرلمان التركي “مصطفى شنطوب” أن أمن السويد يمر عبر تركيا، وطالبها بلتبية مطالب أنقرة واتخاذ خطوات ملموسة وحاسمة في مكافحة التنظيمات الإرهابية “بي كي كي” (حزب العمال الكردستاني) و”بي واي دي/ واي بي جي” وجولن”، في المقابل تعهد رئيس وزراء السويد الجديد “أولف كريسترسون” بتنفيذ المذكرة الثلاثية مع أنقرة “حتى النهاية” ونفى وجود أي حوار بين بلاده و”حزب العمال الكردستاني” المحظور في تركيا، وكذلك نفى وزير خارجية السويد “توبياس بيلستروم” تقديم أي دعم من بلاده للتنظيمات الكردية في سوريا أو وحدات حماية الشعب (YPG) أو حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، وجددت أنقرة طلبها من ستوكهولم بإصدار تشريع ينهي سياسة اللجوء بالنسبة لأعضاء التنظيمات الإرهابية الأكراد كشرط للموافقة على انضمامها للناتو، وبنهاية الشهر وخلال الاجتماع الأمني الثلاثي الذي عقد بالسويد وضم (تركيا وفنلندا والسويد) ويعقد كل شهر تقريبا منذ يونيو الماضي أعلنت أنقرة حدوث تقدم في التعاون الأمني بينهم وأبدت ضمنيا موافقتها على انضمام الدولتين للناتو، بيد أنها مازالت لم تصدق نهائيا على طلب الانضمام داخل البرلمان التركي.
ثانيا: مكاسب وخسائر تركية:
وصف “أردوغان” قمة الناتو في مدريد التي عقدت بيونيو 2022 وشهدت توقيع مذكرة التفاهم الثلاثية بين تركيا وفنلندا والسويد، بأنها “نصر دبلوماسي عظيم” لأنقرة وحققت كل ما تريده تركيا منها، وبالفعل فهذه هي المرة الأولى التي تضع دولة بالحلف شروطا لقبول عضوية دولة أخرى، بيد أن بقدر المكاسب التي حققتها تركيا من مساومة “الناتو” بقدر الخسائر التي يمكن أن تلحق بها، وذلك كما يلي.
1- المكاسب السياسية العسكرية التركية:
– “شرعنة” الناتو للتدخل العسكري التركي بشمال سوريا: يهدد “أردوغان” منذ نهاية مايو 2022 بشن عملية عسكرية جديدة ضد التنظيمات الكردية في شمال سوريا بيد أنه تراجع عنها بعد رفض أمريكي روسي لها، وعاد للتهديد مرة آخرى بتنفيذها بعد وقوع تفجير إسطنبول في 13 نوفمبر 2022 بميدان تقسيم وسط المدينة وأسفر عن 4 قتلى، حيث هدد بشن عملية برية ضد وحدات حماية الشعب الكردية السورية وهي أكبر مكونات تحالف “قوات سوريا الديمقراطية- قسد” في الوقت المناسب للسيطرة على مدينتي تل رفعت وعين عيسى وكوباني وضمهم للمنطقة الآمنة التي يعتزم إنشائها بشمال سوريا وترحيل اللاجئين السوريين إليها، ورغم تكرار الرفض الأمريكي والروسي للتدخل العسكري التركي الجديد في المنطقة، إلا أنه ما زال يساوم الطرفين حيث يضغط على واشنطن للموافقة على تلك العملية العسكرية مقابل موافقة أنقرة على انضمام فنلندا والسويد “للناتو”، وكذلك يفاوض موسكو للموافقة على العملية مقابل وصول قوات الجيش السوري للحدود التركية السورية والسيطرة على المدن الكردية وهو مكسب استراتيجي لدمشق فضلا عن تسريع التطبيع بين الأخيرة وأنقرة، ويمكن “لأردوغان” بالفعل تحقيق هدفه بشن تلك العملية التي حال تمت ستحظى بموافقة “الناتو” ودعمه عكس العمليات العسكرية التركية السابقة، وسيمثل ذلك اعتراف من الحلف بمخاوف تركيا الأمنية كعضو فيه، وحال تم ذلك فإن “أردوغان” سيحصل على اعتراف ضمني من “الناتو”بأنه”رئيس قوة إقليمية” لها امتدادات بالخارج ولها مصالح أمنية مختلفة عن “الناتو” وتحظى باحترامه.
– تصنيف دولي للتنظيمات الإرهابية التركية: يطالب “أردوغان” باعتراف دول “الناتو” بالتنظيمات الإرهابية التركية، وتسجيلها على قائمة الإرهاب بالحلف مما يقتضي وقف أي دعم مقدم لها واعتقال المنتمين لها وتسليمهم لأنقرة، بيد أن الحلف ودولة يعترضون على تلك التصنيفات حيث يفرقون بين الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية ويعترفون بها كتنظيم إرهابي، وبين الجناح السياسي له حيث استقبلت السويد عدد من القيادات الكردية السورية وقدمت دعما مباشرا لها، كما ترفض كافة دول الحلف وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية تصنيف حركة “الخدمة” المدنية التركية كتنظيم إرهابي نظرا لكونها حركة مجتمع مدني تركية لها أنشطة في 140 دولة بالعالم ولم ينسب لها أي عمل إرهابي وهناك تشكيك للرواية التركية بضلوع الحركة أو مؤسسها “جولن” في الانقلاب الفاشل بيوليو 2016، بيد أن “أردوغان” ما زال يضغط ويساوم للحصول على كافة مطالبه.
-رفع شعبية “أردوغان”: بفعل تراجع مؤشرات الاقتصاد التركي إثر أزمتي “كورونا” والحرب الأوكرانية، تذبذبت شعبية “أردوغان” صعودا وهبوطا أمام منافسيه من أحزاب المعارضة التركية، وحال تم تنفيذ كافة المطالب التركية للموافقة على انضمام فنلندا والسويد أو بعضا منها، فإن ذلك سيساهم في رفع شعبيته لا سّيما بين أوساط الأحزاب القومية المعادية للأكراد والتي تدعو لترحيل للاجئين السوريين من تركيا.
– وقف الدعم الخارجي للأكراد: يبلغ عدد اللاجئين الأكراد في ألمانيا 1.2 مليون نسمة وفي فرنسا وهولندا يبلغ مليون ونصف، وفي السويد نحو 83000 نسمة فقط، ونجحوا في الانخراط بالمجتمع ولهم تأثير هام على وسائل الإعلام الأوروبية التي تتبني قضيتهم وأغلبهم من أصول تركية وهناك أكراد من أصول إيرانية وسورية أيضا، ويتلق الأكراد دعما سياسيا وماديا من الدول الأوروبية ففي عام 2021 أعلنت الأخيرة عن زيادة تمويل الجماعات الكردية في سوريا إلى 376 مليون دولار بحلول عام 2023 مبررة ذلك “بإنها لا تزال شريكًا نشطًا لأكراد سوريا وأن أموالها تهدف إلى تعزيز المرونة والأمن البشري والتحرر من العنف وتحسين حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين والتنمية الديمقراطية”، كما رفضت فرنسا وقف دعمها لهم وأكدت أنها تفصل بين الجماعات الكردية السياسية والثقافية وبين عناصر “حزب العمال الكردستاني” وأكدت في أغسطس 2022 إن المذكرة الثلاثية الموقعة بين تركيا والسويد وفنلندا ليست ملزمة لكافة أعضاء “الناتو”، بينما تقدم واشنطن دعم عسكري مباشر لقوات “سوريا الديمقراطية – قسد”، ولذا ترغب تركيا في الضغط على “الناتو” لوقف كافة أشكال الدعم للأكراد خارج تركيا، وهذا سيساهم في تقليص قوة الأحزاب الكردية في داخل تركيا التي تعد من أقوى أحزاب المعارضة.
– تنفيذ معبر الحبوب والطاقة عبر تركيا: يعمل “إردوغان” على أن تصبح تركيا هي المعبر الجديد لنقل الحبوب الأوكرانية والروسية للدول الأوروبية والعالم وكذلك لنقل الغاز الروسي لأوروبا عبر تركيا، وربما يعرقل موافقته على ضم فنلندا والسويد حتى تحقيق تلك الأهداف التي ستعود بالنفع على الاقتصاد التركي المتأزم مما سيساهم في رفع شعبيته قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة في يونيو 2023، كما سيضمن ذلك لأنقرة إمدادات طاقة مستمرة في ظل أي أزمة دولية مستقبلية، وسيعزز مكانتها كوسيط مقبول بين روسيا والناتو وبين موسكو وواشنطن.
– الحصول على منظومة الدفاع الجوي الإيطالية الفرنسية: جددت تركيا في مطلع يوليو 2022 مطلبها للحصول على منظومة الدفاع الجوي “سامب – تي” ذات الإنتاج الإيطالي الفرنسي المشترك، وكانت باريس وروما قد رفضتا من قبل حصول تركيا على تلك المنظومة نظرا لامتلاكها صواريخ (s400) الروسية، وربما يساوم “أردوغان” “الناتو” حتى يحصل عليها.
– الحصول على مقاتلات (F16) الأمريكية: أعلنت واشنطن مؤخرا أن تركيا ستحصل على صفقة مقاتلات (F16) الأمريكية بعد تعليق عقد الصفقة معها إثر شراء أنقرة لنظام الدفاع الجوي الروسي (S-400)، كما طالبت أنقرة من واشنطن رفع العقوبات المفروضة عليها والتي أدت لوقف مشاركتها في تصنيع مقاتلات (F-35) الأمريكية، وكانت أنقرة قد قدمت في أكتوبر 2021 طلبا لواشنطن لشراء 40 مقاتلة من طراز “إف – 16” و80 من معدات التحديث لطائراتها الحربية الحالية لتحديث قوتها الجوية، بعد فشل شراء مقاتلات (إف – 35) القتالية.
ولذا فإن هناك عدد من المكاسب السياسية والعسكرية التي يعمل “أردوغان” على تحقيقها مستغلا في التغيرات الأمنية الجيوسياسية الحالية بعد الحرب الروسية الأوكرانية وحاجة “الناتو” لتقوية جناحه الشمالي الشرقي بضم فنلندا والسويد له لحمايتهم من أي هجوم عسكري روسي مستقبلي ضدهم.
2- الخسائر الجيوسياسية التركية:
– تراجع الأهمية الجيوسياسية لتركيا “بالناتو”: انضمت تركيا لحلف “الناتو” عام 1952 بعد ثلاث سنوات من تأسيسه، وكانت من أهم حلفائه و”حائط الصد” أمام أي تقدم سوفيتي في شرق أوروبا، وحاليا تعد تركيا صاحبة ثاني أكبر الجيوش عددا في الحلف، وتعد من أكثر إنفاقا عسكريا حيث تخصص 1.89% من دخلها القومي للإنفاق المؤسسة العسكرية، و38% من ميزانيتها الدفاعية للانفاق على التسليح، وهي بذلك تحتل المرتبة الثالثة داخل الحلف في هذا الإطار، كما توجد بأزمير التركية “مقر القيادة البرية للحلف LANDCOM “، وهناك عدة قواعد عسكرية للحف بتركيا فهناك قاعدة عسكرية برية للانتشار السريع في إسطنبول، وقاعدة “إنجرليك الجوية” جنوب تركيا وقاعدة “أفيون الجوية”، كما يستخدم الحلف 28 قاعدة عسكرية تركية باعتبارها عضوا فيه، بيد أن هذه المكانة الاستراتيجية المهمة لأنقرة داخل الحلف، مهددة بالتراجع عقب انضمام فنلندا والسويد حيث سيصبحان الخط الأمامي للدفاع عن الحلف بالجناح الشمال الشرقي لا سّيما وأن الحدود الروسية الفنلندية المباشرة المشتركة هي 1200 كم تمتد حدودهما للقطب الشمالي، ويمكن نقل عدة قواعد عسكرية لهم لتعزيز دفاعاتهم، كما تعد الدولتين من أغنى الدول الأوروبية وسيقومان بالانفاق العسكري والدفاعي بشكل كبير يقدر بنحو 2% من موازنتهم مما سيمثل تعزيز للإنفاق الدفاعي بالحلف، كافة تلك العوامل ربما تؤدي على المدى البعيد لمنافسة بين تركيا والدولتين على مكانتهم داخل الحلف، وربما يكون هذا أحد الأسباب الغير معلنة لرفض تركيا حتى الآن انضمامها للحلف.
-التشكيك بجدوى عضوية تركيا “بالناتو”: ثمة تشكيك تركي أوروبي أمريكي بجدوى استمرار تركيا داخل عضوية “الناتو”، حيث تعالت الأصوات التي تؤكد تبني أنقرة سياسات دفاعية وخارجية مستقلة بعيدة عن أجندة الحلف وأهدافه، وبرز ذلك بوضوح بعد تقاربها سياسيا وعسكريا مع روسيا الخصم الأول للحلف وشن عمليات عسكريا متتالية في شمال سوريا والعراق رغم رفض الحلف ذلك، وقد بدأ هذا الشقاق بعد يوليو 2016 حيث اتهم “أردوغان” واشنطن و”الناتو” بدعم الانقلاب العسكري الفاشل ضده وعدم اتخاذ أي إجراء للدفاع عنه كرئيس منتخب للبلاد بعكس روسيا التي قدمت له دعما استخباراتيا سياسيا وعسكريا ملحوظ، وللتدليل على ذلك فقد أجرى استطلاع للرأي بتركيا عام 2021، حول علاقة تركيا بحلف “الناتو” وبلغت نسبة المؤيدين لبقاء تركيا في الحلف 54% مقابل 20% طالبوا بتجميد عضويتها و26% دعوا لخروجها من الحلف تماما. وفي استطلاع للرأي أجرى عام 2022 أكد ثلثي المشتركين عدم ثقتهم في حلف الناتو، وفي يوليو 2022 أطلق حزب “الوطن” التركي المؤيد “لأردوغان” حملة واسعة في المدن الرئيسية بتركيا للدعوة لانسحاب تركيا من “الناتو”.
كما طالب عدد من أعضاء الكونجرس الأمريكي بإعادة النظر في عضوية تركيا بالحلف والتزامها بأهدافه وأجندته الخارجية، فقد حذّر السيناتور الأمريكي الديمقراطي السابق “جوزيف ليبرمان” “من أن سياسات أنقرة وتقاربها مع موسكو قوضت مصلحة الناتو”، وطلب التفكير في إنهاء عضويتها بالحلف، كما أكد السيناتور “بوب مينندز” الديمقراطي بالكونجرس الأمريكي “أن تركيا تحت حكم إردوغان لا يمكن أن تكون حليفًا”.
– تصاعد القضايا الخلافية بين تركيا و”الناتو”: يعد الاعتراض التركي على انضمام فنلندا والسويد لحلف “الناتو” حلقة في سلسلة من الخلافات الطويلة بينهم، التي بدأت عام 2009 برفض تعيين “راسموسن” الدنمركي كأمين عام للحلف نظرا دعم بلاده للأكراد، كما تشكل الخلافات التنقيب غير الشرعي عن الغاز أمام سواحل اليونان وقبرص العضوين بالحلف واستمرار التواجد العسكري التركي بسوريا والعراق وليبيا، وكذلك اتهام تركيا بعدم احترام حقوق الإنسان، فضلا عن التقارب التركي الروسي، وتصاعد الخلافات السياسية بين تركيا وأعضاء الحلف ومنهم فرنسا وهولندا، ولن ينسى “الناتو”وأعضاءه”مساومة أردوغان” على انضمام فنلندا والسويد، حيث عبرت وزيرة الخارجية الالمانية “أنالينا بيربوك” في 10 نوفمبر 2022 عن انتقادها وغضبها من الموقف التركي، وطلبت بحسم أنقرة لموقفها سريعا، ولذا نجد أن التغييرات الأمنية الحالية تدفع “الناتو” للحفاظ على عضوية تركيا بيد أنه على المدى الطويل ربما يتم إعادة النظر في جدوى تلك العضوية حال عجز الطرفين عن حل القضايا الخلافية العديدة بينهم.
-الصدام مع المصالح الروسية: أعلنت موسكو يوم 30 نوفمبر 2022 أن نشر قوات “للناتو” في فنلندا والسويد بعد إنضمامهم للحلف سيضر بالأمن الأوروبي وأكدت أن موسكو ستتخذ كل الإجراءات التي تضمن أمنها حال تم ذلك، وهذا سيؤدي لصدام بين أنقرة وموسكو حيث ستطالب الأولى باتخاذ موقف عدائي ضد حليفتها روسيا، ولذا سيكون على “أردوغان” اختيار بين الحلف وروسيا، وحتى اليوم فقد نجح الرئيس التركي في الموازنة بعلاقاته الخارجية بين الطرفين، فقد نشرت مجلة “الإكونوميست” البريطانية في 30 مايو الماضي مقالًا “لأردوغان” أوضح فيه أن “أمر طلب انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو من شأنه استفزاز روسيا وزيادة مخاوفها الأمنية، وهو أمر لم يكن له أي داع”، كما أعلن في 12 نوفمبر 2022 بأن “روسيا ليست دولة عادية إنها قوية” وحصل على موافقتها ليتوسط في نقل الحبوب والغاز الروسي لأوروبا، كما يتجه الآن للموافقة على ضم فنلندا والسويد لإرضاء “الناتو”، بيد أن المعضلة تكمن في حال تصعيد الوضع العسكري بأوكرانيا ومطالبة الحلف لأعضائه منحها المزيد من المساعدات والدعم مما سيؤدي لتوتر العلاقات بين تركيا وروسيا.
خلاصة القول، أن تركيا تتجه للموافقة على انضمام فنلندا والسويد لعضوية الناتو بعد تلبية الدولتين لمعظم شروطها الأمنية، بيد أن “أردوغان” ربما يستمر في عرقلة الموافقة النهائية حتى منتصف العام المقبل لتحقيق أعلى مكاسب وفق سير العمليات العسكرية بأوكرانيا، ولتحقيق أعلى معدلات لرفع شعبيته قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة، ولن يقوم برفض عضويتهم إلا إذا حدث تغير جوهري في المواقف الأمريكية الأوروبية ضده، بيد أن عضوية تركيا في الحلف ستحتاج لإعادة نظر لتقييم جدواها للطرفين، لمعالجة الخلافات البنيوية بين أنقرة والحلف لا سّيما ما يخص الأولويات الأمنية والخارجية لكلا منهم.