بقلم: ياوز أجار
أسفرت الحرب العالمية الأولى عن إعادة توزيع القوة والنفوذ في العالم، وبدأت بريطانيا تواجه صعوبات في الحفاظ على هيمنتها القديمة التي أسستها في القرن التاسع عشر. وبالمثل فقدت فرنسا سيطرتها السابقة على مستعمراتها رغم أنها كانت بين الدول التي خرجت منتصرة من الحرب. أما الولايات المتحدة فكانت في صدد رسم معالم هيمنتها الليبرالية الجديدة. في حين شهدت روسيا القيصريةُ الثورةَ البلشفية في ١٩١٧، وبادرت الإدارة الجديدة إلى تصدير ما سمته “الثورة الاشتراكية العالمية” إلى بلدان العالم في تحدٍّ صارخ للهياكل الإمبريالية القائمة آنذاك.
١.١٣) مقترحات للنظام العالمي الجديد
في السياق الدولي الذي كان يهيمن عليه عدم اليقين، اتخذت الدول المنتصرة إجراءات لتصميم النظام العالمي الجديد. في هذا المضمار يمكن أن نذكر ثلاثة مقترحات مهمة:
الأول: مشروع الهيمنة الليبرالية الذي اقترحه الرئيس الأمريكي توماس وودرو ويلسون للكونغرس الأمريكي في ٨ يناير ١٩١٨، وتضمن أربعة عشر بندًا ومبدأ للسلم وإعادة بناء أوروبا من جديد بعد الحرب العالمية الأولى.
وقد دعا المقترح إلى تصميم النظام العالمي الجديد بعيدًا عن معاهدات سرية، وتنفيذ جميع المعاهدات بدبلوماسية مفتوحة داخل منظمة دولية يتم إنشاؤها في المستقبل، وفتح جميع الطرق البحرية للجميع، وضمان أمن الممر الحر، وتنظيم التجارة الدولية وفقاً لمبادئ اقتصاد السوق الحر القائم على المنافسة، وتجنب سياسة التجارة الخارجية الحمائية، ومنح حق تقرير المصير لجميع الشعوب، كبيرة كانت أم صغيرة، فضلا عن الحدّ من التسلّح، وتعديل المطالبات الاستعمارية لصالح كل من الشعوب الأصلية والمستعمرين وغيرها.
إذا ألقينا نظرة شاملة على مبادئ ويلسون الأربعة عشر يتبين أنها ليست سوى مشروع جديد للهيمنة قائم على الليبرالية. لكن ينبغي عدم التغاضي عن حقيقة أنه كان تحديًا خطيرًا لهيمنة كل من إنجلترا التي كانت تسيطر على معظم الطرق البحرية، وفرنسا التي كانت تحاول التوسع في القارة الأفريقية والشرق الأوسط. وكانت دول، مثل إنجلترا وفرنسا وروسيا القيصرية وإيطاليا، وقعت فيما بينها معاهدات سرية في ١٩٠٧ و١٩١٥ و١٩١٦ و١٩١٧ من دون أن تشمل الولايات المتحدة، مثل اتفاقية “سايكس بيكو” السرية في ١٩١٦ بين فرنسا والمملكة المتحدة بالموافقة الروسية والإيطالية على تقسيم الدولة العثمانية واقتسام منطقة الهلال الخصيب (العراق وسوريا)، وتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا.
الثاني: وفي المقابل، قدم البلاشفة مشروعًا آخر للهيمنة كبديل لاقتراحات ويلسون حول نظام عالمي ليبرالي، وذلك تحت مسمى “الثورة الاشتراكية العالمية”. وفقًا لرؤية البلاشفة، كانت جميع أنحاء العالم ستشهد ثورات اشتراكية ستقضي على الهياكل الرأسمالية الإمبريالية القديمة.
الثالث: لم تقف إنجلترا وفرنسا مكتوفتي الأيدي أمام المقترحين الأمريكي والروسي، بل هما كذلك انطلقتا لطرح مشروعهما الرامي إلى استعادة هيمنتهما السابقة في العالم وإعادة تشكيل أوروبا والشرق الأدنى.
١.١٤) مؤتمر “باريس للسلام”
القرارات التي اتخذت في كل من مؤتمر “باريس للسلام” (١٩١٩ – ١٩٢١) بمشاركة مندوبين عن أكثر من 32 دولة وكياناً سياسياً، ومؤتمر “سان ريمو” بمشاركة الحلفاء الرئيسيين في الحرب العالمية الأولى (بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، اليابان)، هي التي حددت ملامح نظام العالم الجديد في عشرينات القرن المنصرم. فقد قرر الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى في مؤتمر “باريس للسلام” كيفية تقسيم غنائم المنهزمين، وتحديد أسس السلام القادم معهم. وكان من أهم قراراته إنشاء عصبة الأمم.
ومع أن سفراء الدول الأوروبية المشاركين في “مؤتمر فيينا” عام ١٨١٥ اتفقوا على حماية وحدة أراضي الإمبراطوريات وتبني موقف مشترك تجاه التيارات الداعية إلى الانفصال والاستقلال، إلا أن القوى الأوروبية لم تدخر زخرا لدعم الثورة اليونانية في ١٨٢١ بعدما بدأت كتمرد فلاحي ضد بعض الممارسات القمعية للبيروقراطية العثمانية الفاسدة حينها، لتتغير طبيعة هذه الثورة مع مرور الوقت ويتم الإعلان عن استقلال اليونان في عام ١٨٢٩.
كان الأربعة الكبار في مؤتمر باريس رئيسُ الولايات المتحدة وودرو ويلسون، ورئيس وزراء بريطانيا العظمى ديفيد لويد جورج، ورئيس وزراء فرنسا ألكسندر ميلران، ورئيس وزراء إيطاليا فيتوريو إيمانويل أورلاند، وهم من صاغوا كل القرارات الكبرى وصادق عليها الآخرون.
المشاركون في المؤتمر وقعوا على خمس معاهدات مع المنهزمين قسمت بموجبها أملاك الدولة العثمانية، ومستعمرات ألمانيا خارج أوروبا، وقسمت ألمانيا نفسها، ورسمت حدودا جديدة لبعض الدول، وأنشأت دولا لم تكن من قبل. كما منحت الممتلكات الألمانية والعثمانية الخارجية للانتدابين البريطاني والفرنسي. كذلك وقعوا على معاهدة سيفر في ١٠ أغسطس ١٩٢٠ مع الدولة العثمانية؛ ونقحت لاحقاً بمعاهدة لوزان في ٢٤ يوليو ١٩٢٣ مع الجمهورية التركية الحالية.
١.١٥) مؤتمر سان ريمو
ومؤتمر سان ريمو عقده المجلس الأعلى للحلفاء فيما بعد الحرب العالمية الأولى بمدينة سان ريمو الإيطالية (١٨/٢٦ أبريل ١٩٢٠) من أجل تحديد شروطهم للصلح مع تركيا طبقاً لمعاهدة سيفر التي رسمت مستقبل منطقة “الهلال الخصيب” التي ضمت العراق وسورية بما فيها لبنان والأردن وفلسطين. حضر هذا المؤتمر وفد يهودي أيضا ليقدم فكرهم عن التسوية النهائية في منطقة شرق البحر المتوسط. وقد تمخض المؤتمر عن مجموعة من القرارات، أبرزها وضع سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وفلسطين والأردن والعراق تحت الانتداب البريطاني.
بينما دعت إنجلترا وفرنسا إلى تطبيق نموذج الدول المستقلة في أوروبا الشرقية وسياسة إنشاء حكومات انتداب في الشرق الأدنى، في خطوة تستهدف الحفاظ على هيمنتهما الاستعمارية، دافعت الولايات المتحدة عن ضرورة إعطاء شعوب الشرق الأوسط المستقلة عن الدولة العثمانية حق تقرير المصير.
والملفت للنظر أن الولايات المتحدة كانت تتفق مع إنجلترا وفرنسا ضد مشروع الهيمنة للبلاشفة عبر ثورات اشتراكية عالمية.
١.١٦) موقع تركيا في النظام العالمي الجديد
المشروع الذي صممته إنجلترا وفرنسا لتركيا تجسد في معاهدة سيفر. المعاهدة اقترحت تشكيل حكومات الانتداب في الغالبية العظمى من الجغرافيا العثمانية (بلاد ما بين النهرين، وشبه الجزيرة العربية، وشمال إفريقيا)، وفي بعض أجزاء من الأناضول، إلى جانب تقاسم مناطق النفوذ بين إيطاليا وفرنسا وإنجلترا في مناطق أخرى.
تماشيا مع توقعات القوى الأوروبية، أسست حكومات خاضعة للانتداب أو الحماية في منطقة الشرق الأوسط من الجغرافيا العثمانية تحت إدارة إنجلترا وفرنسا. فقد خضع العراق وفلسطين للانتداب البريطاني، وسوريا للانتداب الفرنسي في ١٩٢١. لكن إمارة شرق الأردن خرجت من منطقة فلسطين الانتدابية في عام 1923، وأصبحت كيانا سياسيا يتمتع بحكم ذاتي، إلى أن أعلنت استقلالها في ١٩٤٦ تحت اسم المملكة الأردنية الهاشمية التي شملت معظم الأراضي الواقعة شرقي نهر الأردن. في حين انتهى الانتداب البريطاني على العراق بإعلان استقلال مملكة العراق في 23 آب 1923، استمر حكم الانتداب في سوريا حتى عام 1944، وفي فلسطين حتى عام 1948.
أما في الأناضول فعلى عكس التوقعات، ظهرت لجان الدفاع الوطني التي قادها بيروقراطيون عثمانيون من العسكريين – والمدنيين شاركوا في حروب البلقان، وذاقوا الهزائم والانتصارات على حد سواء، ولمسوا من خلالها بالتجربة والمعاينة توازنات السياسة الدولية في تلك الفترة.
تمكنت لجان الدفاع الوطني من تشكيل جبهة موحدة لإدارة حرب الاستقلال/التحرير بسبب استمرار الحلفاء في احتلال أراض عثمانية حتى بعد هدنة “مودروس” الموقعة في ٣٠ أكتوبر ١٩١٨ وانتهاء الحرب العالمية الأولى والعمليات القتالية في الشرق الأوسط لصالح الحلفاء.
كانت الدول الحليفة فرضت سيطرتها على الحكومة العثمانية في العاصمة القسطنطينية (إسطنبول)، وطالبتها بإصدار أوامر لحل الجيش العثماني. غير أن مجموعة من القادة العسكريين العثمانيين رفضوا الاستسلام وحل قواتهم. هذه الأزمة تفاقمت عندما بعث السلطان محمد السادس الجنرال والقائد مصطفى كمال باشا إلى الأناضول ليقود مع القادة والجنود الآخرين حرب تحرير أراضي الأناضول من الاحتلال.
ومع أن بيروقراطيين ذوي انتماءات فكرية مختلفة شاركوا في توجيه لجان الدفاع الوطني المتشكلة في جميع أنحاء الأناضول تجاه المحتلين، إلا أن عملية القيادة والتنسيق تركزت مع مرور الوقت في يد مصطفى كمال ورجاله.
١.١٧) حرب الاستقلال / التحرير
وهكذا انطلقت حرب الاستقلال في ١٩ مايو ١٩١٩ بين قادة التحرير والاستقلال ووكلاء الحلفاء، وهم اليونان على الجبهة الغربية، وأرمينيا على الجبهة الشرقية، وفرنسا على الجبهة الجنوبية، والمملكة المتحدة وإيطاليا في إسطنبول، بالإضافة إلى الحكومة العثمانية الخاضعة للقوات المحتلة.
ونظرا لأن الاحتلال كبل أيدي الحكومة العثمانية في إسطنبول، توجه القادة العثمانيون تحت قيادة مصطفى كمال إلى إنشاء الجمعية الوطنية الكبرى/ البرلمان في أنقرة وتشكيل حكومة مضادة لما في إسطنبول.
مصطفى كمال ورجاله أسسوا “حكومة أنقرة” لتبدأ التحرك بشكل مستقل عن الحكومة العثمانية في إسطنبول الواقعة تحت الاحتلال. تباينت مواقف الحكومتين فيما يخص التعامل مع القوات المحتلة، وتبادل الطرفان الاتهامات فيما بينهما؛ فبينما اتهمت حكومة أنقرة الحكومة العثمانية بالخضوع لإرادة المحتلين، اتهمت الأخيرة الأولى بإثارة الفتنة والفوضى ومعارضة السلطنة والخلافة العثمانية والتسبب في خسارة مزيد من أراضي الإمبراطورية.
هـذه التطورات حدت بقوى الحلفاء إلى ممارسة الضغوط على الحكومة العثمانية لتعليق الدستور وإغلاق مجلس النواب وتوقيع معاهدة سيفر. وفي النهاية وقعت حكومة فريد باشا “العثمانية” على معاهدة سيفر في أغسطس ١٩٢٠، حيث كانت تقترح منح الولايات العربية لبريطانيا وفرنسا في شكل انتداب تحت رعاية عصبة الأمم، وتقسيم الأناضول بين اليونان وإيطاليا، ووضع سوريا تحت الانتداب الفرنسي، والعراق وجورجيا تحت الانتداب البريطاني، وأرمينيا تحت الانتداب الأمريكي. أما العاصمة إسطنبول، ومعها مضيق الدردنيل، فهي ستكون تحت سيطرة العصبة الدولية.
لكن المعاهدة لم تدخل حيز التنفيذ؛ فمع أن الحلفاء وقعوا على المعاهدة إلا أن الحكومة العثمانية واليونانية لم تصادقا عليها. رغم توقيع فريد باشا على المعاهدة، فقد رفض مجلس الشيوخ العثماني التصديق عليها، فضلا عن أن اليونان لم ترض بالحدود المرسومة لها في المعاهدة. ومن ثم ردت حكومة الحركة الوطنية في أنقرة بقيادة مصطفى كمال على هذه المعاهدة بإصدار دستور جديد في يناير ١٩٢١، معتبرة قرارات الحكومة العثمانية غير سارية. ومن جانب آخر، بادر مصطفى كمال إلى التوقيع على معاهدة لوزان في يوليو ١٩٢٣ ليتم الاعتراف بحكومة أنقرة باعتبارها الحكومة الشرعية، وخروج الحلفاء من الأناضول وتراقيا الشرقية، والإطاحة بالحكومة العثمانية وإلغاء السلطنة، وقيام جمهورية تركيا في ٢٩ أكتوبر ١٩٢٣ كدولة قومية علمانية. ثم جرى إلغاء الخلافة العثمانية تمامًا في ٣ مارس ١٩٢٤ بموجب ما سمي بالإصلاحات الثورية التي نفذها مصطفى كمال في وقت لاحق.
مصطفى كمال حصل فيما بعد على لقب “أتاتورك” (أبو الأتراك)، بسبب بصمته الظاهرة في كل من الانتصار القومي بعد طرد القوات المحتلة وبناء تركيا الحديثة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية.
–