بقلم: ياوز أجار
١.٧) انقلاب تركيا الفتاة والحقبة المتعددة الأحزاب
قاد ضباط ذو صلة بالاتحاد والترقي وتركيا الفتاة المعارضتين انقلابا مسلحا ضد ما أسموه “الحكم المطلق” للسلطان عبد الحميد الثاني سنة ١٩٠٨، بعدما أشعل فتيله الضابط العثماني المدعو “نيازي بك” مع جنوده في مقدونيا الواقعة في القسم الأوربي من أراضي الإمبراطورية، لينضم إليهم في وقت لاحق ضباط آخرون في إسطنبول.
السلطان عبد الحميد الثاني بعث مجموعة من الضباط لقمع الحركة التي بدأت لأول مرة في ٣ يوليو ١٩٠٨، لكن إجراءاته لم تنجح بسبب أن هؤلاء الضباط كانوا أعضاء في لجنة الاتحاد والترقي المعارضة. ثم أرسل مقر الاتحاد والترقي في منطقة “مناستير” برقية إلى السلطان مطالبًا إياه بتفعيل القانون الأساسي / النظام الملكي الدستوري مرة أخرى وافتتاح مجلس المبعوثان / البرلمان العثماني، ممهِّلاً إياه حتى ٢٦ يوليو (١٩٠٨).
في ٢٣ يوليو أعلنت الجمعية عودة النظام الدستوري بإطلاق ٢١ بندقية، ومن ثم أبلغت السلطان في “قصر يلديز” في إسطنبول بالقرار عن طريق البرقيات. هـذه الضغوطات آتت ثمارها في النهاية، حيث قرر عبد الحميد إعادة تفعيل القانون الأساسي، ونُشر الإعلان الرسمي في الصحف في صباح اليوم التالي، لينطلق بعده ما سمي “عصر المشروطية الثانية”، والحقبة الديمقراطية المتعددة الأحزاب لأول مرة في تاريخ الإمبراطورية.
وقد اعتبر المؤرخ الفلسطيني روحي الخالدي، في كتابه “الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة” أن ما حققته جمعية الاتحاد والترقي من دفع عبد الحميد الثاني إلى إعلان القانون الأساسي والنظام الدستوري الثاني “أعظم انقلاب لحدوثه من دون سفك قطرة دم واحدة ولا حصول اضطراب وقلاقل في المملكة، مع أن المسطور في التواريخ أن مثل هذا الانقلاب لم تصل أمة إلى ساحله إلا بعد خوضها في بحر لجي من الدم”، على حد تعبيره.
شهدت الإمبراطورية في عصر المشروطية الثانية تأسيس ٤٢ حزبًا سياسيا حتى عام ١٩٢٢، بينها ٩ أحزاب إثنية تعود للعرب واليهود والأرمن والبلغاريين والصرب وغيرهم. وهذا يفند مزاعم بعض العلمانيين المتشددين حول انتقال تركيا إلى النظام متعدد الأحزاب مع مصطفى كمال أتاتورك.
١.٨) ثورة مضادة للاتحاديين
بعد عام واحد من نجاح انقلاب تركيا الفتاة وتمكُّن جمعية الاتحاد والترقي من استعادة الدستور، حدثت واقعة ٣١ مارس الشهيرة كثورة مضادة للاتحاديين. المشاركون في الثورة تحت قيادة مجموعة من الجنود المعارضين للتيار العلماني، الذي كانت تمثله جمعية الاتحاد والترقي المعارضة، طالبوا بتطبيق الشريعة الإسلامية، وأطلقوا هتافات داعمة لعبد الحميد الثاني. لكن الأخير نفى أي صلة بينه وبين الثورة التي وصفها خصومه والعلمانيون قديما وحديثا بأنها كانت “حركة رجعية” أرادت العودة بالدولة إلى عهد السلطنة بدلا من المشروطية / النظام الدستوري.
وفي نهاية المطاف وافق عبد الحميد الثاني على استقالة حكومة حلمي باشا المحسوب على الاتحاديين، وعين حكومة جديدة بقيادة أحمد توفيق باشا. في حين فر أعضاء الاتحاد والترقي من إسطنبول إلى مقرهم في مدينة سالونيك بعد سيطرة الثوار (الذين زعموا أنهم خرجوا مناصرة للشريعة وعبد الحميد الثاني) على إسطنبول بسبعة أيام. لكن الاتحاديين وصفوا الوزارة الجديدة بـ”غير القانونية” تحت رئاسة أحمد توفيق باشا، وحاولوا حشد العلمانيين والأقليات لدعم قضيتهم، وادعى كل من الطرفين أنه من يحوز صفة الحكومة الشرعية.
١.٩) خلع عبد الحميد وعهد الاتحاديين
بعد ١٣ يومًا من اندلاعها، نجح “جيش الحركة” تحت قيادة الجنرال العسكري محمود شوكت باشا، المتعاطف مع الاتحاديين، في قمع “ثورة الإسلاميين”، وعادت الحكومة السابقة لتعلن أحكاما عرفية في مدينة إسطنبول. ولأن البرلمان المشكل مجددا تحت سيطرة الاتحاديين اتهم عبد الحميد الثاني بالتواطؤ مع الثوار تم عزله من منصبه في ٢٧ أبريل ١٩٠٩، وتعيين شقيقه محمد رشاد الخامس سلطانًا على الدولة.
بعد خلع عبد الحميد الثاني، بدأ عهد وحكم الاتحاد والترقي في إدارة الدولة العثمانية حتى توقيع هدنة “مدروس” في عام ١٩١٨. وخلال ٩ سنوات من حكمهم، تعرضت الإمبراطورية لهزائم ثقيلة في حروب طرابلس والبلقان والحرب العالمية الأولى في السياسة الخارجية، وشهدت فوضى عارمة في السياسة الداخلية جراء اغتيالات وتصفيات سياسية قيدت ضد مجهول استهدفت الخصوم السياسيين.
وفي السنوات الأولى من حكم الاتحاديين، استطاعت إمبراطورية النمسا الاستحواذ على البوسنة والهرسك، وبعد ثلاث سنوات هاجمت إيطاليا ليبيا، ثم تحالفت صربيا والجبل الأسود واليونان مع بلغاريا، وأخرجت الدولة العثمانية من البلقان ما عدا مدينة أدرنة، مما أدى إلى هجرة نحو أربعمائة ألف مسلم إلى الداخل التركي خوفا من التعرض للمذابح الأوروبية.
ومن أكبر المآسي التي وقعت تحت حكم الاتحاديين “الطورانيين” ما سمي بمذبحة الأرمن بعدما عاشوا بسلام مع العثمانيين طيلة قرون، بحيث أطلق عليهم “الملة الصادقة” (الطائفة الصادقة) لولائهم للدولة والأمة العثمانية.
١.١٠) إعادة بناء الإمبراطورية والطورانية
ومن بعد خسارة مدينة سالونيك عقب حرب البلقان الأولى (١٩١٢ – ١٩١٣) بين الدولة العثمانية ودول اتحاد البلقان (بلغاريا وصربيا واليونان والجبل الأسود)، قررت اللجنة المركزية لجمعية الاتحاد والترقي نقل مقرها من سالونيك إلى إسطنبول، لتبدأ بعدها في الدفاع عن ضرورة إنقاذ “الباب العالي” (عاصمة الإمبراطورية إسطنبول) من النفوذ البريطاني، وإعادة بناء الإمبراطورية العثمانية على أساس “الطورانية” التي دعت إلى توحيد أبناء العرق التركي المنتشرين في المنطقة الممتدة ما بين هضبة إيران وبحر قزوين؛ مهد القبائل والشعوب التركية. لكن مع الإحباط في تحقيق هذا الحلم حصرت الجمعية هدفها في الدفاع عن القومية التركية في أرض الأناضول فقط بدلالتها الضيقة.
ضياء كوك ألب (٢٣ مارس ١٨٧٥-٢٥ نوفمبر ١٩٢٤) يعتبر من أهم قادة جمعية الاتحاد والترقي، وهو عالم اجتماعي ومنظر قومي اشتهر بلقب “أبو القومية التركية”. وكما هو ظاهر في كتابه “أساسيات القومية التركية” الذي نشره قبيل وفاته في ٢٩٢٤، فإنه التزم أيديولوجيته الطورانية التركية حتى أنفاسه الأخيرة، إلا أنه اضطر إلى تضييق وتقزيم حدود “الجغرافيا الطورانية”، إلى أن أصبحت عبارة عما سماه “دولة الأغوز” التي شملت تركيا وأذربيجان فقط. وقد صاغ تصوراته في ضوء الفكر الغربي الحديث، وتأثر على وجه الخصوص بالمدارس الفكرية الفرنسية والألمانية، وأصبح مصدر إلهام للمبادئ القومية التركية التي طبقها مصطفى كمال أتاتورك في العهد الجمهوري.
الطورانية ظلت حلما طوباويا -بعيدًا عن الواقع- يراود عقول وقلوب من يدافعون عنها من دون ترجمتها إلى أرض الواقع؛ وذلك نظرا لأن المجتمع العثماني كان يتألف من عناصر ومجموعات عرقية مختلفة من جانب؛ ولم تكن الإمبراطورية تمتلك القوة العسكرية والقدرة الاقتصادية الكافية لتأسيس تلك الدولة على الجغرافيا الطورانية المذكورة من جانب آخر.
١.١١) انقسام الأحرار عن الاتحاديين
حركة تركيا الفتاة، التي تعد امتدادا للعثمانيين الجدد الذين يعود ظهورهم إلى عام ١٨٦٥، أنتجت في أواخر الحقبة العثمانية وبداية الحقبة الجمهورية فصيلين رئيسين، أولهما ليبرالي ومؤيد لللامركزية تحت القيادة الفكرية للأمير صباح الدين بك، أطلقوا على أنفسهم “الأحرار”، وانضم إليهم في وقت لاحق مفكرون من أمثال حسن فهمي وميزانجي مراد بك وغيرهما، إلى جانب حصولهم على دعم جميعة “الاتحاد المحمدي” التي أسسها الكاتب الإسلامي وحدت درويشي، مالك صحيفة “فولقان” في ذلك الوقت. في حين أن الفصيل الثاني قوميّ تركيّ علمانيّ راديكاليّ مؤيد للمركزية قاده من الناحية الفكرية إبراهيم تيمو، وإسحاق سوكوتي، وعبد الله جودت، الذين خطفوا الأضواء بتوجههم العلماني / الدنيوي المعارض للإسلام.
انفصل الفريق الأول عن جمعية الاتحاد والترقي وأسس جمعية “المبادرة الشخصية واللامركزية” و”حزب الحرية والائتلاف”، ودافع عن المشروطية والليبرالية من خلال حضوره في البرلمان العثماني بين عامي ١٩١١ و١٩١٣ باعتباره ثاني أكبر حزب معارض.
أما الفريق الثاني فظلوا ضمن جمعية الاتحاد والترقي تحت قيادة مجموعة من المفكرين العلمانيين. ومن ثم نجحوا في ضم شخصيات ذات السمعة الطيبة إلى صفوفهم مثل “الباشوات الثلاثة”، وهم؛ الصدر الأعظم ووزير الداخلية محمد طلعت باشا (١٨٧٤–١٩٢١)، ووزير الحربية إسماعيل أنور باشا (١٨٨١–١٩٢٢)، ووزير البحرية أحمد جمال باشا (١٨٧٢–١٩٢٢).
ومع أن الفريق الثاني، أي جمعية الاتحاد والترقي، شهد تغييرات جزئية عقب كل مؤتمر له، إلا أن خليتها الأساسية “العلمانية” ظلت مسيطرة على الحزب في الفترة الإمبراطورية، ومن بعد ذلك انتقلوا إلى صفوف “حزب الشعب الجمهوري” العلماني أيضًا تحت قيادة مصطفى كمال ورجاله.
واستمر صراع الفريقين على السلطة حتى اغتيال الصدر الأعظم محمود شوكت باشا في عام ١٩١٣، ليسيطر الفصيل الثاني بقيادة الباشوات الثلاثة على جميع المؤسسات ويحكم الدولة العثمانية حتى أفولها. وهم من أقحموا الدولة في الحرب العالمية الأولى دون مبرر إلى جانب الإمبراطوريتين الألمانية والنمساوية المجرية في عام ١٩١٤.
ووسط تلك الفوضى التي أثارتها الحرب العالمية، أعلن شريف مكة الحسين بن علي ثورته واستقلاله عن الدولة العثمانية في ١٠ يونيو ١٩١٦، مما وضع نقطة النهاية للسيادة العثمانية على الحجاز منذ ١٥١٧.
عاد الصراع بين الفريقين بعد الحرب فاستعاد حزب الحرية والائتلاف الليبرالي السيطرة على الحكومة، وقام بتطهيرها من الاتحاديين بمساعدة قوات الحلفاء، فهرب الباشوات الثلاثة إلى المنفى. ولكن لم يدم حكم الحرية والائتلاف طويلاً، حيث بدأت حرب الاستقلال التركية، وأسفرت في النهاية عن انهيار الإمبراطورية العثمانية، وتأسيس الجمهورية التركية على يد القائد العثماني مصطفى كمال.
١.١٢) حل البرلمان العثماني
حافظ البرلمان “العثماني” على وجوده وواصل نشاطه حتى ١٨ مارس ١٩٢٠، إلى أن اتخذ قرارا بإيقاف جلساته إلى أجل غير مسمّى، ثم أصدر السلطان والخليفة الأخير للدولة العثمانية محمد وحيد الدين السادس (١٤ يناير ١٨٦١ – ١٦ مايو ١٩٢٦) قرارًا بحله في ١١ أبريل من نفس العام.
قرار حل البرلمان جاء بسبب احتلال “الحلفاء” لإسطنبول بعد خروج الدولة مهزومة من الحرب العالمية الأولى، والتوقيع على هدنة مودروس، لتترك محلها للجمعية الوطنية الكبرى الحالية.
–