بقلم: ياوز أجار
إسطنبول (زمان التركية) – لاستعراض مرحلة التحول من الإمبراطورية العثمانية إلى الجمهورية التركية الحديثة، ومن أجل التقاط بداية الخيط، يجب علينا أن نلقي نظرة سريعة على الوضعين الداخلي والدولي وطبيعة الحكم والمجتمع، حتى يمكن الاطلاع على الجذور التاريخية التي أنتجت الواقع الحالي المعقد في تركيا.
1.0) الحقبة الإمبراطورية.. من الصعود إلى الهبوط
إن الاسم الرسمي للدولة التي أسستها السلالة العثمانية هو “الدولة العلية”، غير مقترنة بكلمة “العثمانية”، وتأتي بمعنى “الدولة العظيمة”.
وقد تشكل المجتمع العثماني من خمس فئات رئيسية في العصر الكلاسيكي، وهم؛ فئة “القلمية”، كما كان يطلق عليهم في تلك الفترة، وكانوا مسؤولين عن الشؤون المالية للإمبراطورية، وفئة “العلمية” الذين كانوا يمثلون أهل العلم والتعليم تحت إشراف “شيخ الإسلام”، وفئة “الملكية” الذين كانوا يتكونون من موظفين مدنيين رفيعي المستوى، وفئة “السيفية” التي كانت ترمز إلى السلك العسكري، إلى جانب الفلاحين المشتغلين في مجالات الزراعة.
وكانت الشريعة الإسلامية هي المحدد الأساسي للقانون والحياة المدنية في الإمبراطورية، في حين كان للشرع العرفي القائم على التقاليد المتوارثة والتجربة البشرية مساحة واسعة في وضع السياسات اليومية والسياسات التي ترسم العلاقات الدبلوماسية مع الدول الأخرى.
1.1) تحول ديموغرافي
لكن بالتزامن مع انضمام أراضٍ أوروبية وبلقانية إلى حدودها جراء الحروب المتتالية، خاصة بعد فتح إسطنبول، شهدت الإمبراطورية تحولاً سكّانيًّا كبيرًا، وضمّت أنواعًا مختلفة جدا من القوميات والطوائف الدينية والمجموعات الفكرية.
بعد التوسع الجغرافي والتنوع الطائفي، طبقت الإمبراطورية نظامًا أطلق عليه المؤرخ التركي المتخصص في التاريخ العثماني إلبر أورتايلي “نظام الأقليات والملل”، قام على مبدأ الحوار والتسامح، وقدم الحرية الكاملة للطوائف الأخرى لبناء دور عباداتهم وممارسة طقوسهم الدينية.
سكان منطقة “الروملِّي” الواقعة في أوروبا من أراضي الإمبراطورية (اليونان، ومقدونيا، وألبانيا، وكوسوفو، وصربيا، والجبل الأسود، وبلغاريا، والبوسنة)، أي موطن الأقليات، بمن فيهم اليهود والأرمن والشراكسة واليونان والصرب وغيرهم، شكلوا، منذ البداية، العنصرَ البارز في عالم التجارة والفن والجهاز البيروقراطي في المدن الكبيرة؛ في حين أن الأغلبية المسلمة كانت تتألف عموما من الفلاحين المقيمين في مناطق ريفية وكانوا العنصر الأساسي للزراعة والجيش.
كان اليهود هاجروا إلى أراضي الإمبراطورية من إسبانيا والبرتغال عن طريق إيطاليا في عام ١٤٩٢. ولكن قبل ذلك كانت مجموعة من اليهود قطنت الأناضول تحت الدولة البيزنطية، وكانوا موجودين في تلك المنطقة منذ القرن الرابع قبل الميلاد.
هذا الوضع لم يتغيَّر حتى بعد سقوط الإمبراطورية وتأسيس الجمهورية التركية الحالية. فمثلما كانت الطبقة المثقفة في الإمبراطورية تتألف من سكان روملي، والأقليات بصفة عامة، كذلك قامت الجمهورية الجديدة على فئة النخب أيضًا.
هذا أدى إلى تقسيم وتوزيع المناصب البيروقراطية والوظائف العامة بين أهالي روملي والأقليات عمومًا، على الرغم من أن “الفلاحين” من الأتراك والأكراد كانوا يمثِّلون الأغلبية والعمود الفقري في العهدين العثماني والجمهوري معًا.
هـذه الطبيعة السكانية للإمبراطورية، وقابليتها للتوظيف من قبل الدول الأخرى، أصبحت دافعًا لاندلاع ثورات في منطقة البلقان في القرن التاسع عشر للمطالبة بالاستقلال، وذلك وسط العجز الفكري عن تطوير منظومة اجتماعية وسياسية تواكب العصر وتلبي احتياجاته، وتحريض الدول الأوروبية المتصارعة في البلقان والشرق الأوسط وروسيا القيصرية. فبعد مرحلة التأسيس في عام ١٢٩٩ على يد عثمان الأول بن أرطغرل، ومرحلة القوة والازدهار التي بدأت في عام ١٥١٢ مع سليم الأول، دخلت الإمبراطورية في مرحلة الضعف والانحلال في عام ١٥٩٥، بالتزامن مع وصول محمد الثالث إلى عرش الحكم، إلى أن سقطت في عهد عبد المجيد الثاني، بعد حوالي ٦ قرون، وبالتحديد سنة ١٩٢٤، لتتولد من أنقاضها تركيا الراهنة على يد القائد العسكري مصطفى كمال ورجاله.
فقد بدأت الإمبراطورية تواجه مشاكل اقتصادية بالتزامن مع فقدان الأراضي لأول مرة عقب معاهدة “كارلوفجي” في ٢٦ يناير ١٦٩٩، حيث تنازل العثمانيون بموجبها عن معظم المجر وترانسلفانيا وسلافونيا للنمسا، فيما ذهبت بودوليا لبولندا، في حين ذهب معظم دلماتيا والمورة للبندقية، ليبدأ معها عصر التراجع العثماني في أوروبا الشرقية.
وكذلك بدأت الإمبراطورية تعاني من عجز مستمر في الميزانية منذ القرن السابع عشر؛ فبعد اتفاقيات التجارة الحرة التي وقعتها مع الدول الأوروبية، والامتيازات التجارية التي قدمتها للقوى الأجنبية، حصلت الإمبراطورية رسوما جمركية منخفضة من البضائع التي تدخل أراضيها، مما أدى إلى تدهور الصناعات الحرفية وهجرة سكان الأرياف نحو المدن وتدهور الزراعة في القرى. وذلك بالإضافة إلى تدهور تجارتها الخارجية وانخفاض قيمة عملتها، الأمر الذي دفعها إلى زيادة الضرائب على الأقاليم العربية التي تقع تحت نفوذها لتعويض خساراتها.
1.2) انقسامات طائفية.. توازنات دولية
بالإضافة إلى الصعوبات الاقتصادية، فإن الأفكار التحررية والحركة القومية، التي توسع نطاقها بعد الثورة الفرنسية في عام ١٧٨٩، أوقعت بين الإمبراطورية والطوائف المختلفة.
وكان الصرب أول طائفة استقلت عن الإمبراطورية وفقًا لاتفاقيتي “أيستيفانوس” و”برلين” الموقعتين عقب الحرب العثمانية الروسي (١٨٧٧-١٨٧٨). فيما كان اليونان أول أقلية حصلت على الاستقلال من الإمبراطورية بعد ثورة شنها اليونانيون بين عامي ١٨٢١ و١٨٣٢، بدعم روسيا وبريطانيا وفرنسا وغيرها.
ومن ثم استغلت فرنسا انشغال الإمبراطورية مع التمرد اليوناني والحرب الروسية، واحتلت الجزائر في عام ١٨٣٠، بعدما التحقت بالدولة العلية في عام ١٥٠٤، إلى أن اضطر الفرنسيون إلى الخروج منها في أعقاب مقاومة شعبية وإعلان الجزائريين عن استقلالهم في ٣ يوليو ١٩٦٢.
وفي عام ١٨٤٠ – ١٨٤١ عقد مؤتمر لندن بين الإمبراطورية وبريطانيا والنمسا وبروسيا وروسيا، تمخض عن قرارات مهمة، منها؛ منح ولاية مصر لمحمد علي باشا على أن ينتقل الحكم فيها من الأب إلى الابن، لكنها ستظل تابعة قانونيا للإمبراطورية العثمانية. بهذا الاتفاق، أصبحت مصر دولة حرة في شؤونها الداخلية، وتتبع الدولة العثمانية في شؤونها الخارجية، إلى أن سقطت في 18 يونيو سنة 1953، بإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية في مصر.
بعد اتفاقية لندن، اكتسبت قضية المضائق العثمانية (مضيق الدردنيل والبوسفور) وضعية دولية وفُرضت قيود على حقوق السيادة العثمانية عليها، فيما فقدت روسيا تفوقها على تلك المضائق، ولكن عززت فرنسا وإنجلترا أمنهما في البحر الأبيض المتوسط.
بالإضافة إلى حالة الضعف الداخلي التي شهدتها في شتى المجالات، بدأت الإمبراطورية تتلقى ضربات، في فترة الضعف، ومن ثم في فترة الانحطاط، من دول كبيرة، مثل روسيا، وقوى استعمارية، مثل إنجلترا وفرنسا وألمانيا والنمسا؛ فضلا عن تمرد شعوب عاشت جنبًا إلى جنب قرونا طويلة تحت راية العثمانيين، كاليونان، والبلغار، والصرب، والألبان، والمجر، والكروات، والسلوف، الرومان، والعرب وغيرهم.
فبعد فقدان السلطة السياسية، والتحول إلى شبه مستعمرة لأوروبا من الناحية الاقتصادية، أثارت الإمبراطورية شهية جميع الدول الصناعية خصوصا. فالإمبراطورية النمساوية المجرية كانت ترغب في الاستيلاء على منطقة البلقان من ناحية، وتفكر روسيا في ضم المضائق للوصول إلى البحار الدافئة من ناحية أخرى، وتعتزم إنجلترا وفرنسا المسيطرتان على الاقتصاد العالمي حينها استخدام المواد الخام العثمانية من ناحية ثالثة.
لكن لم يكن من السهولة بمكان تقسيم الدولة العلية فيما بين الدول القوية في تلك الفترة، نظرا لتضارب مصالحها وإستراتيجياتها؛ إذ كانت إنجلترا تعارض أن تكتسب روسيا قوة تمكنها من الاستيلاء على المضائق، وجزء مهم من الطريق المؤدي إلى مستعمرتها الهند، في حين كانت فرنسا تعتبر استيلاء الإمبراطورية النمساوية المجرية على البلقان، ووصول روسيا إلى البحر الأبيض المتوسط، كابوسًا مخيفًا.
هذا الوضع دفع كلا من إنجلترا وفرنسا إلى تقديم الدعم لبقاء الدولة العلية حتى نهاية القرن التاسع عشر. ربما انهارت الدولة العثمانية في أوائل القرن التاسع عشر لولا تلك التوازنات السياسية بين القوى الكبرى في ذلك الوقت.
–