بقلم: علي صويلو
بروكسل (زمان التركية) – الدولة مقدسة؛ خاصة بالنسبة لشعوب لدول النامية. في هذه الدول، يأتي بقاء الدولة ورفاهيتها وحقوقها وكرامتها قبل حقوق الفرد والمجتمع.
والقبول المجتمعي بأنه يمكن التضحية بالفرد والمجتمع من أجل مصلحة الدولة هو المسيطر، لأن الدولة هي “الأب الحامي”، وبدونها لا يوجد الأفراد والمجتمع!
وبينما ابتعدت المجتمعات الديمقراطية عن هذا التصور المشوه عن الدولة، وتبنت نهجًا محورُه الإنسان، استمرت تركيا ونظرائها في تطبيع هذا الفهم الذي عفا عليه الزمن.
السياسيون الشعبويون، الذين يستخدمون القيم الوطنية والأخلاقية لمجتمعهم من أجل بقائهم السياسي، لهم دور كبير في هذا النهج المشوه وغير الإنساني. في تركيا، خاصة في العقد الماضي، وصل النهج الذي يبارك الدولة ويتجاهل الحقوق الفردية إلى ذروته.
هؤلاء الذين يؤمنون بهذا النهج يقدسون الدولة ويرون القادة على أنهم ظل الله وخليفة الله في الأرض. يقوم القادة الذين يديرون الدولة بتهميش كل من يفضل الحرية والديمقراطية ويعطون الأولوية لحقوق الإنسان الأساسية، يتهمون المعارضة بأنهم “خونة” و”إرهابيون” ويعاملونهم على هذا الأساس. هذا الوضع والنهج يدفعان بالدولة والمجتمع (الدولة التي يباركونها) إلى الهاوية.
الدولة مسؤولة عن تنظيم العلاقة بين الشعب والنظام القضائي من جهة، وبين الشعب والدولة من جهة ثانية، وضمان أمن مواطنيها مع قوات الأمن من جهة ثالثة.
مهمة أخرى للدولة هي جباية الضرائب لضمان العدالة والأمن، بمعنى أن تحصيل الضرائب وتحقيق العدالة وتوفير الأمن من الواجبات الأساسية للدولة.
تصبح الجماعات والأفراد ذات النوايا الخبيثة قاسية عندما يستخدمون قوة وسلطة الدولة لمصالحهم الخاصة. يمكن للدولة أن تتخذ سمات شبيهة بالمافيا، لأنها تستخدم القوة الاجتماعية التي يمنحها لها القانون. تصبح الدولة مستبدة عند الضرورة ويمكنها استخدام عصا القانون ضد الأفراد الذين أنشأوها ويمكنها الاستيلاء على ممتلكاتهم وحريتهم. الأخطر هو غياب آليات السيطرة على هذه القوة الجماعية.
الدولة التي تنتهك القانون وتجري أعمالًا غير قانونية تصبح دولة عصابة أو دولة مافيا.
هناك “دولة عميقة” غير مرئية لا تذهب إلى أبعد من نظرية المؤامرة، رغم أن غالبية المجتمع وحتى أولئك الذين يديرون الدولة يؤمنون بها. هذه “الدولة العميقة”، التي أصبحت أسطورية مع انتقال تركيا إلى النظام الديمقراطي متعدد الأحزاب في عام 1950 والتي لم يرها أحد، لم تعد موجودة، إن وجدت أصلا في وقت سابق.
وفقًا لفكرة أخرى، بدلاً من الهيكل السري الذي يُطلق عليه اسم الدولة العميقة، هناك عصابات وعائلات و/أو مجموعات ذات تعمل على تحقيق مصالحها الذاتية داخل الدولة. ومع ذلك، هناك اعتقاد أيضًا بأن هذه الدولة لم تعد فعالة بل باتت خارج النظام، حيث تم استبدالها بمشتقات أو أنواع جديدة. بعبارة أخرى، هناك مجموعات (يسميها البعض “الدولة العميقة”) موالية للمبادئ التأسيسية لجمهورية تركيا وتعتبر نفسها مسؤولة عن مصالحها وأيديولوجياتها من أجل ضمان استمرار النظام القائم الذي بدأ مع أتاتورك.
يعتقد جزء كبير من الناس في تركيا أن وراء “الدولة العميقة” دول مثل الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية التي يعرّفونها بأنها “قوى أجنبية” تريد تدمير تركيا. هناك اعتقاد سائد بين المجتمع في تركيا بأن “القوى الأجنبية” تتعاون مع “الدولة العميقة” وتعيق تطور البلاد. هذا الرأي تعزز وتطور في العقد الماضي في ظل وجود سياسيين شعبويين مثل الرئيس رجب طيب أردوغان.
منذ تحقيقات الفساد في الفترة من 17 إلى 25 ديسمبر 2013، أصبحت تركيا بعيدة عن إنفاذ القوانين، ويعتبر ما يخرج من فم أردوغان قانونًا. أصبح من الواضح، عندما كشف زعيم المافيا سادات بكر، بل اعترف بعلاقاته غير القانونية مع كبار المسؤولين الحكوميين من خلال عدة مقاطع فيديو نشرها العام الماضي، أن النظام القانوني، إلى جانب النظامين السياسي والاقتصادي، فاسد.
يعتقد معظم أفراد المجتمع في تركيا أن الذين أظهروا ردود فعلهم على تصرفات حكومة أردوغان من خلال “مسيرات الجمهورية” في الشارع عام 2007، واحتجاجات “حديقة جيزي” في إسطنبول عام 2013، كانوا موجهين من “الدولة العميقة”.
ومع ذلك، فإن هذه “الدولة العميقة” نفسها، لسبب ما، لم تتحدث عن أكبر عمليات فساد وسرقة في تاريخ تركيا، والتي تم الكشف عنها عقب العمليات المنفذة في ديسمبر 2013. نفس “الدولة العميقة” الخيالية (المعادية للدين) ظلت متفرجًا تجاه كل من أكبر مسجد في تركيا بني في منطقة جامليجا بإسطنبول، وإعادة افتتاح “آيا صوفيا” كمسجد بعد أن كانت بمثابة متحف لمدة 90 عامًا، والتغييرات المهمة في المناهج الدراسية في نظام التعليم التركي الذي دمر العلمانية في البلاد.
التصور التقليدي عن لـ”الدولة العميقة” في تركيا هو أنها مؤيدة للعلمانية ومعارضة للتطرف الديني. في حين يبني حزب العدالة والتنمية خطابه وحججه وخطواته على أسس دينية. لذلك، لو كانت “الدولة العميقة” موجودة لما سمحت لحزب العدالة والتنمية، الذي حكم تركيا على مدى العقدين الماضيين، ودمر جميع قيم وإنجازات الجمهورية ذات المائة عام، بالقيام بكل ما هو مذكور أعلاه أو تعرضت “الدولة العميقة” في تركيا للتغير والتطور وأصبحت تحت سيطرة أردوغان.
–
* علي صويلو، أستاذ مشارك في الإدارة بجامعة كاميرون في لوتون، أوكلاهوما