(زمان التركية) – نشر موقع (وور أون ذا روكس) الأمريكي والمتخصص في التحليلات العسكرية تحليلا هاما من إعداد الباحث سليم كورو، المحلل في مؤسسة أبحاث السياسة الاقتصادية (TEPAV)، للنهج الذي من الممكن أن تلجأ له تركيا بعد اجتياح روسيا لدولة أوكرانيا، وقد جاء نص المقال التحليلي كالآتي:
مع دخول روسيا والغرب فترة جديدة مثيرة من المواجهة اقترح البعض في واشنطن أن هناك بصيص أمل محتمل لعودة تركيا -الابن الضال لحلف شمال الأطلسي- كعضو يتمتع بمكانة جيدة في الحلف، وبينما يعتقد أن تركيا ستنزعج من عودة القوة الروسية خاصة في البحر الأسود، لا سيما بعد أن أقامت حكومة أردوغان علاقات قوية مع أوكرانيا.
في الواقع يبدو أن العكس هو الأرجح، ففي حال فوز الرئيس فلاديمير بوتين بانتصار عسكري كبير على أوكرانيا وكان قادرًا على الصمود في وجه العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية فسيؤدي هذا إلى تسريع تحرك تركيا إلى موقف ما بعد الناتو، وإذا فشل حلف الناتو في وقف النزعة الوحدوية في موسكو سيؤكد معتقدات أنقرة حول تضاؤل أهمية الحلف وسيعزز آمالها في حقبة جديدة من الجغرافيا السياسية.
فعلى عكس ما حدث خلال الحرب الباردة لا تعتقد أنقرة بالضرورة أن عودة روسيا إلى الظهور تهديد، وهذا يرجع إلى أن نظرة أردوغان وكذلك اليمين التركي ككل أقرب بكثير إلى نظرة بوتين منها إلى نظرة النخب الليبرالية الغربية، وقد يبدو هذا غير جوهري بالنسبة لواضعي السياسات لكنه يمثل الخلفية العاطفية لجهاز السياسة التركي بأكمله وهو ما يشكل التصورات الشعبية والثقافة الإستراتيجية، لقد اشتهر بوتين بأنه قال في عام 2005 إن “زوال الاتحاد السوفيتي كان أعظم كارثة جيوسياسية في القرن [العشرين]” القول الذي انعكس إلى أفعال على أرض الواقع من حرب جورجيا عام 2008 إلى أزمة أوكرانيا الحالية، وتحاول روسيا إلى عكس مسار تلك الكارثة من وجهة نظرها.
بالنسبة للإشتراك المحافظين مثل أردوغان فإن مكانة تركيا كشريك صغير في تحالف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة، حيث يحلم اليمين التركي بإحياء النفوذ التركي وإبراز القوة التركية عبر ثلاث قارات، وقد ظل اليمين عشرون عاما على رأس الحكومة التركية وهو ما سمح لهم ببث هذه الرؤية في البلاد، والحكومة الحالية التي يمكن أن ترجع جذورها إلى اليمينيين الراديكاليين يرون الغرب على أنه معادٍ للنموذج الذي يريدون تقديمه.
لا شيء في النجاح الروسي في أوكرانيا يمكن أن يغير وجهة النظر تلك بل على العكس سيكون لانتصار بوتين تداعيات مثيرة للغاية على بعض الأشخاص في القصر الرئاسي في أنقرة، وسنجد اليمين التركي يصرح بأنهم على أعتاب حقبة جديدة في السياسة العالمية حقبة سعوا هم أنفسهم إلى تحقيقها.
وبينما تركز واشنطن بشكل مفهوم على التداعيات التي قد يتركها التوسع الإقليمي الروسي على الصين وتايوان، لكن الحدود أصبحت أكثر ضبابية في أجزاء أخرى من العالم أيضًا، فمثلا تمتلك تركيا إلى حد بعيد أقوى القوات التقليدية في منطقتها وتسيطر فعليًا على شمال قبرص وتحكم بشكل مباشر أجزاء من شمال سوريا ولها وجود عسكري مهيمن في شمال العراق، ويمكن أن تزيد أنقرة من دمج هذه الأراضي بهدف ضمها في نهاية المطاف ويمكنها أيضًا أن تسعى إلى ربط البر الرئيسي لأذربيجان بمخزنها الإقليمي عبر ممر زانجور في بحر إيجه، ويمكن أن تضغط أنقرة بقوة أكبر ضد الحدود البحرية اليونانية والتي تعتقد أنها غير عادلة، في الواقع يمكن لتركيا أن تجادل بأن لها على الأقل نفس القدر من الحق في هذه المياه والأراضي مثل حق روسيا في أوكرانيا.
نعم كانت أنقرة تغني ترنيمة التدخل الغربي مضيفة حنينها الإمبراطوري وادعاءات التضامن الديني والعرقي لبعض المناطق المحيطة ويمكن للمساعدات الإنسانية والاستفتاءات والعمليات العسكرية تسهيل عملية الضم التي يحلم بها اليمين التركي.
في عالم ما بعد أوكرانيا يمكن لمثل هذه السياسة أن تؤدي في النهاية إلى عقوبات غربية، وبينما تركيا أكثر ديمقراطية من روسيا وليس لديها موارد طاقة يمكن الحديث عنها فستكون العقوبات أكثر ضررا لها، ولكن قد تم التكهن بأن قطع روسيا عن شبكة رسائل SWIFT التي تستخدمها البنوك للمدفوعات عبر الحدود قد يؤدي إلى بناء بديل غير غربي، ومن المؤكد أن الحكومة الصينية تعمل من أجل منع العقوبات على أنظمتها البيئية التكنولوجية والمالية، وبالنظر إلى ذلك فإذا خرجت أكبر دولتين من قبضة العقوبات الغربية فربما يمكن لتركيا أن تحذو حذوهما و لطالما قال أردوغان إنه يفكر في الانضمام إلى مجلس شنغهاي للتعاون ولا يوجد سبب لعدم أخذه الأمرعلى محمل الجد.
تراجع فوائد حلف الناتو
ومما يزيد من تسهيل تحول أنقرة إلى موقف ما بعد الناتو هو أن فوائد عضوية التحالف آخذة في التضاؤل بالفعل بالنسبة لتركيا، فلم يعد بإمكان أنقرة الوصول إلى تكنولوجيا الناتو المتطورة ويبدو أنها أقل اهتمامًا بضمانات الدفاع، ولكي نكون واضحين فقد استفادت تركيا بشكل كبير من عضوية الناتو، حيث تم تشكيل جيشها بالكامل من خلال ثقافة الناتو ومعاييره وتقنياته كما دفعت تركيا أموالاً إلى الحلف بصفتها عضوًا قويًا وأوفت بالتزاماتها من خلال المساهمة في المهام في كوسوفو وأفغانستان واستضافة القيادة البرية لحلف الناتو، وسياستها الحالية لا تتعلق بمغادرة الناتو بل تتعلق بتغيير المنظور، لقد اعتاد الرئيس السابق عبد الله غول أن يقول في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أنه ليس من المهم ما إذا كانت تركيا قد انضمت في نهاية المطاف إلى الاتحاد الأوروبي – كانت عملية الانضمام تدور حول الوصول إلى الاتحاد الأوروبي. فبمجرد أن تصل تركيا إلى هذا المستوى قد تقرر “أن تكون مثل النرويج” وتمتنع عن العضوية، وقد يكون هدف أردوغان مع الناتو غير ذلك فهو موجود بالفعل في النادي لكنه يرى أن مستقبل تركيا سيكون في مكان آخر، إنه يريد نقل البلاد إلى مكان لن تغادر فيه بالضرورة، ولكن لا داعي للقلق بشأن ما يعتقده الأعضاء الآخرون فيه أيضًا.
والقضية الأكثر بروزًا لتركيا هي نظام الدفاع الجوي، فالعمود الفقري لسلاح الجو التركي هو مقاتلة 16-F، وهي نتاج تعاون تركي أمريكي مثمر للغاية في الثمانينيات، وقد انضمت تركيا أيضًا إلى كونسورتيوم 35-F وهي طائرة مقاتلة من الجيل الخامس، وخلال الحرب الأهلية السورية في أوائل عام 2010 حيث اعتمدت تركيا على أنظمة دفاع جوي باتريوت أمريكية الصنع لحماية حدودها الجنوبية كما طلبت شراء بطارياتها الخاصة من الولايات المتحدة، لكن هذا التعاون في انهيار حتى يومنا هذا، وعندما سُئل أردوغان في اجتماعات خاصة عن الموضوع صرح أن الولايات المتحدة لن تبيعه نظام باتريوت، وبينما نفي المسؤولون الأمريكيون ذلك وصرحو بأنهم عرضوا شروطًا موضوعية على تركيا ولكنها رفضتها، وبعد محاولة الانقلاب الفاشل عام 2016 بوقت قصير اشترت تركيا نظام الدفاع الجوي الروسي 400-S وجادل الأمريكيون بأن مقاتلة 35-F لا يمكنها الاشتراك مع النظام الروسي لأسباب أمنية وقاموا بطرد تركيا من برنامج 35 F وحتى الآن ليس من الواضح إذا كان الكونجرس سيسمح للشركات الأمريكية بتحديث أسطول F 16 التركي، وبينما تفرض الدول الأوروبية أيضًا عقوبات فعلية على تركيا بسبب قضايا تتراوح من السياستها التدخلية في الأراضي السورية إلى انتهاكات حقوق الإنسان داخل تركيا.
يستعرض خطاب أردوغان المتهور فيما يتعلق بالسياسة الدفاعية قصة كيف حفزت العقوبات الأمريكية على تركيا بعد تدخلها في عام 1974 في قبرص إلى تطوير صناعة الدفاع في البلاد، كما يسارع إلى الإشارة إلى أنه عندما أرادت حكومته شراء طائرات ريبر بدون طيار من الولايات المتحدة وتم رفضها شرعت في إنشاء برنامج طائرات بدون طيار خاص بها على مستوى عالمي، ويحب أردوغان أن يقول: “لقد جعلنا الجيران السيئون أصحاب منازل” مجادلًا بأن العقوبات الأمريكية ستدفع الآن تطوير TF-X وهي أول طائرة مقاتلة محلية في تركيا.
والسؤال الحقيقي هو هل ما زال أردوغان يعول على الغرب لمساعدة تركيا إذا دعت الحاجة؟ والإجابة هي يمكن أو ربما لا، لكن الشيء الوحيد المؤكد هو أنه إذا نجحت روسيا في السيطرة على أوكرانيا فإن القيادة التركية ستفقد المزيد من الاحترام لنظرائهم الغربيين، صحيح أن بعضًا من هذا قد يتغير: يمكن للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين أن يقدموا لتركيا صفقات مواتية بشأن أنظمة الأسلحة وأن يعملوا على دعم دفاعاتها، خاصة في البحر الأسود، فضلاً عن تغيير العقول في البرلمانات الغربية التي تتحكم في العقوبات، وبينما يمكن عمل الخيار الأول – قد يكون الأخير أكثر صعوبة- وعلى كل حال فسيكون من الصعب استعادة الثقة، وسيخشى الغرب دائمًا من أن تركيا قد تضع التنازلات في جيبها وتمشي على أي حال.
إن الموقف الطبيعي لتركيا الآن هو الوقوف على الحياد، صحيح أن تركيا لديها علاقات قوية مع أوكرانيا، لكن هذا لا يعني بالضرورة التضحية بعلاقتها مع روسيا، وقد أخبرني بعض المسؤولون الأتراك في الماضي أنهم أصيبوا بخيبة أمل لرؤية مثل هذه المشاعر المعادية لروسيا والموالية للغرب لدى نظرائهم الأوكرانيين، فاليمين التركي يفضلون أن تكون كييف قومية ولكن غير منحازة.
لم تكن تركيا طرفًا رئيسيًا في الحركة الدبلوماسية مؤخرًا وهذه ليست مصادفة، ولقد دعا أردوغان بوتين والرئيس فولوديمير زيلينسكي إلى تركيا لعرض وساطة، وقد كان هذا غريبا بالنظر إلى أن الأزمة ليست في الحقيقة بين هذه الدول بل بين روسيا والولايات المتحدة، ولكن الدعوة كانت تعبيرًا عن الأسف الذي تشعر به تركيا حيال وجود صراع أطرافه غير غربي وغير ليبرالي، وربما يعتقد أردوغان أنه لو لم يكن زيلينسكي “غربي التوجه” وتبنى نهجًا تركيًا أكثر تجاه السيادة لما غزا بوتين بلاده.
ولأن الأمور على ما هي عليه فإن اعتبار تركيا الحالي هو اقتصادي بحت، وستكون الحرب بين أوكرانيا وروسيا مروعة للاقتصاد التركي الهش بالفعل، حبث تستورد تركيا ثلث احتياجاتها من الغاز الطبيعي من روسيا وكميات كبيرة من الغذاء من كلا البلدين، كما يعتبر السياح الروس مصدرًا مهمًا للنقد الأجنبي وكان من المتوقع بفارغ الصبر قدوم أفواج من الروس مع اقتراب موسم السياحة، ومن جهة أخرى فقد أبرمت تركيا أيضًا اتفاقيات لاستيراد محركات أوكرانية لبعض أنظمة أسلحتها الرئيسية، وهو ما أشار إليه المحلل الدفاعي أردا مولود أوغلو،و من الصعب العثور على محركات لطائرة الهليكوبتر الهجومية 929 AtakT التابعة لشركة TAI وطائرة Bayraktar Akıncı وهما نظامان مهمان لتركيا.
خاتمة
مع اعتراف بوتين بالجمهوريات الانفصالية يوم الاثنين كان أردوغان في رحلة متعددة البلدان عبر جمهورية الكونغو الديمقراطية والسنغال وغينيا بيساو، وأصدرت وزارة الخارجية التركية بيانًا مقتضبًا دعت فيه روسيا إلى احترام السيادة الإقليمية لأوكرانيا لكن هذا كل ما في الأمر، وعندما تمت الدعوة لعقد قمة طارئة لحلف شمال الأطلسي ألغى أردوغان في النهاية الرحلة الأخيرة من رحلته وعاد إلى وطنه، وفي الطريق بعض التعليقات إلى الصحفيين والمحللين الجيوسياسيين الموجودون معه في الطائرة حيث صرح لهم بقوله: يجب على قادة الناتو أن يقرروا ما يريدون فعله بالفعل تركيا دولة على البحر الأسود وستتصرف كدولة منفردة. ولم يستطع قبول انتهاك روسيا للأراضي الأوكرانية ولكن تركيا لن تتخلى عن أوكرانيا أو روسيا، بدا أردوغان يشعر بالمرارة حيال اضطراره إلى إلغاء رحلته إلى غينيا بيساو من أجل الجلوس في اجتماع مع قادة الناتو القلقين للغاية.
وقبل فترة وجيزة أجرى المستشار الرئاسي إبراهيم كالين مقابلة مع صحيفة يومية ألمانية ، قائلًا: العقوبات ضد روسيا لن تنجح. هم فقط يؤجلون المشاكل، من الأفضل الاستماع إلى الجانب الآخر وفهم اهتماماتهم الاستراتيجية، تشعر روسيا بالتهديد من قبل الناتو، يريد بوتين إعادة رسم الحدود وتجديد التحالفات الاستراتيجية بعد 30 عامًا من انهيار الاتحاد السوفيتي.
وقد بدا كالين وكأنه يحاول تهدئة الأعصاب الغربية بالطريقة التي يمكن بها تهدئة المريض النفسي الذي يعاني منذ فترة طويلة، ينتظر القوميون في روسيا وتركيا وفرنسا والصين والولايات المتحدة والهند وأماكن أخرى معرفة ما إذا كانت أوكرانيا هي المكان الذي ينتهي فيه هذا الواقع أم أنه بداية لواقع جديد.