أنقرة (زمان التركية)ـ وضعت الأزمة الأوكرانية الروسية تركيا في موقف محرج، ورغم إشارة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى دعم قوي لـ كييف، لكنه لن يضحي بعلاقة قوية ومستقرة مع روسيا.
مجلة فورين بولسي نشرت مؤخرا مقالا تحليليا للكاتبة إرين أوبراين المقيمة حاليا في اسطنبول والمتخصصة في الشأن التركي، جاء فيه:
خلال الأسابيع الأخيرة، عندما نشرت روسيا أكثر من 130 ألف جندي على طول الحدود الروسية الأوكرانية وحذرت الولايات المتحدة من غزو روسي وشيك أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دعمه أوكرانيا، فقد أصبح جيران البحر الأسود شركاء تجاريين ودفاعيين مهمين خلال فترة حكم أردوغان، لا سيما بعد توقيع اتفاقيات تجارة حرة بمليارات الدولارات وصفقات إنتاج أسلحة مربحة لتركيا، بالإضافة إلى أن تركيا تسيطر على الممر المائي الوحيد لأوكرانيا إلى البحر الأبيض المتوسط – مضيق البوسفور – وهو أمر بالغ الأهمية لربط البلاد بالسوق العالمية.
وقد شدد الرئيس التركي على أهمية الشراكة والحكم الذاتي الأوكراني في مقابلة مع محطة إن تي في التركية يوم 26 يناير، وعقب بقوله “آمل ألا تشن روسيا هجومًا مسلحًا أو تحتل أوكرانيا فمثل هذه الخطوة لن تكون عملا حكيما لروسيا أو المنطقة”.
هذا هو رأي أردوغان الذي كرره أكثر من مرة ولفترة طويلة لا سيما منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 -والذي ما زالت تركيا لا تعترف به- ويتم ذلك ظاهريًا باسم مجتمع تتار القرم والذي تعتبره تركيا جزءًا من الأخوة التركية الكبرى وقد كانت شبه جزيرة القرم جزءًا من الإمبراطورية العثمانية حتى عام 1783 عندما غزت روسيا شبه الجزيرة واستقرت فيها ووطنت فيها مواطنين من أصل روسي وشردت سكان القرم ، ففي عام 1944 أمر الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين بالترحيل العنيف لمئات الآلاف من تتار القرم المتبقين ، وهو حادث يشبهما قامت به روسيا بوتين عام 2014 كانت محنة هذا المجتمع بمثابة فرصة سانحة لأردوغان في محاولاته من أجل تعزيز علاقة تركيا بأوكرانيا.
دعم أوكرانيا والتوافق مع الناتو من أجل علاقات أفضل مع الغرب بشكل عام.
سافر أردوغان إلى أوكرانيا بنفسه في أوائل فبراير للقاء الرئيس فولوديمير زيلينسكي وتعميق العلاقات التجارية والدفاعية التركية مع الدولة، و لقد عرض العمل كوسيط سلام بين موسكو وكييف ، أشار الرئيس التركي إلى تضامنه مع كييف في حالة نشوب صراع عسكري حتى أنه قام ببيع طائرات بدون طيار لقوات الحكومة الأوكرانية التي تقاتل الانفصاليين المدعومين من روسيا في منطقة دونباس.
لكن ما هو قدر الدعم الذي ترغب تركيا في الذهاب إليه، فعلى الرغم من وقوف تركيا على طرفي نقيض من النزاعات حول العالم – في سوريا وليبيا والآن أوكرانيا – تعتمد بشدة على علاقتها مع روسيا ويحافظ البلدان على “تعاون تنافسي ” بحسب أسلي أيدينتاسباس، الصحافية وزميلة السياسة الأقدم في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية.
فتركيا تعتمد على الغاز الطبيعي الروسي في أكثر من 40 في المائة من إجمالي احتياجاتها من الغاز الطبيعي ومن المرجح أن تستورد المزيد في أعقاب اتفاق مدته أربع سنوات تم توقيعه بين شركة الغاز الروسية العملاقة جازبروم وبوتاس التركية، خاصة في مواجهة أزمة الطاقة المحلية الحالية مع ارتفاع الأسعار وخفض إيران لإمدادات الغاز عن تركيا، ومن جهة أخرى تدهورة علاقات تركيا مع حلفائها الغربيين بسبب انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد ولذلك فمن غير المرجح أن يهدد أردوغان تحالفه مع روسيا حتى ولو من أجل حلفاء تركيا في الناتو.
إلا أن دعم تركيا لأوكرانيا يعكس عدم الارتياح لما يبدو أنه توسع روسي في منطقة البحر الأسود، العلاقات الأوكرانية التركية مدعومة أيضًا بالاتفاقيات الدفاعية والاقتصادية الثنائية الهامة التي وقعتها الحكومة التركية الحالية، فإعتبارًا من عام 2021 تعد تركيا أكبر مستثمر أجنبي في أوكرانيا باستثمارات سنوية تبلغ 4.5 مليار دولار وقد بلغ إجمالي التجارة بين البلدين أكثر من 5 مليارات دولار، كما أنه خلال اجتماعهما الأخير في كييف وقع كلا من أردوغان وزيلينسكي اتفاقية تجارة حرة قالوا إنها ستعزز التجارة البينية لتصل إلى 10 مليارات دولار كما أنها ستوسع التعاون الدفاعي بشكل كبير.
حيث تعتبر أوكرانيا أيضًا شريكًا مهمًا لتركيا في إنتاج وبيع الأسلحة العسكرية منذ عام 2018 باعت تركيا طائرات بدون طيار Bayraktar TB2 إلى كييف -وهي نفس المعدات التي ساعدت في تحقيق انتصار أذربيجان المدعوم من تركيا في ناغورنو كاراباخ- كما وقع أردوغان وزيلينسكي صفقة للإنتاج المشترك لـ Bayraktar TB2s في منشأة إنتاج عسكري في أوكرانيا ستشمل أيضًا منشأة تدريب للطيارين الأوكرانيين، فقد تم استخدام Bayraktar TB2s في الصراع الأوكراني منذ أكتوبر 2021 عندما كانت الحكومة الأوكرانية تتبادل الضربات مع الانفصاليين المدعومين من روسيا في دونباس، وعلى الرغم من هذا التحريض الواضح واتصال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأردوغان بعد وقت قصير من نشر الطائرات بدون طيار، إلا أن أنقرة لم تشر قط إلى أنها ستتوقف عن إمداد كييف بالطائرات بدون طيار، لكن قد لا تكون طائرات Bayraktar TB2 فعالة إذا سعى الروس إلى غزو تقليدي بأسلحة ثقيلة وهو الأكثر توقعا حيث،تقوم روسيا بالحشد على الحدود.
والحقيقة فإن التعاون الدفاعي التركي والأوكراني يمتد إلى ما وراء الطائرات بدون طيار من طراز Bayraktarبعد اجتماع سابق بين الزعيمين في أكتوبر 2020 رسم البلدان طريقًا نحو الإنتاج المشترك لمجموعة من تقنيات الدفاع والأمن ، بما في ذلك المزيد من الطائرات بدون طيار والمحركات النفاثة وهو قطاع تتفوق فيه أوكرانيا. وكان يُنظر إلى هذا على نطاق واسع باعتباره خطوة لمواجهة قوة روسيا في منطقة البحر الأسود لكنه زاد أيضًا بشكل كبير من قدرة الإنتاج الدفاعي لتركيا سواء للاستخدام المحلي أوالتصدير، لذلك ستخسر تركيا عنصرًا رئيسيًا في صناعة الدفاع الوليدة حال تضحيتها بعلاقتها مع أوكرانيا لإرضاء بوتين، كما سيؤدي الفشل في دعم أوكرانيا أيضًا إلى خسارة مبيعات دفاعية مربحة للبلاد مثل اتفاقية عام 2020 لتزويد أوكرانيا بسفن دفاع بحرية.
كما أن دعم أوكرانيا له تأثيره في تقوية علاقات تركيا مع حلفائها الغربيين في الناتو ولا سيما الولايات المتحدة، فقد سبق أن انتقدت الولايات المتحدة والعديد من حلفاء الناتو الآخرين تركيا لانتهاكاتها لحقوق الإنسان منذ محاولة الانقلاب في يوليو 2016 بما في ذلك استمرار سجن شخصيات بارزة مثل السياسي الكردي صلاح الدين دميرتاش ورجل الأعمال عثمان كافالا بالإضافة إلى سجن مئات الصحفيين والمعارضين.
كما تم استبعاد تركيا من برنامج الطائرات المقاتلة F-35 للولايات المتحدة بسبب قرارها شراء أنظمة الدفاع الصاروخي S-400 من روسيا، وتناقش الحكومة الأمريكية حاليًا ما إذا كانت ستبيع طائرات مقاتلة من طراز F-16 لأنقرةأم لا، ولذلك فيمكنأن يساعد الدعم القوي لأوكرانيا والتوافق مع الناتو إلى علاقات أفضل مع الغرب بشكل عام.
ومع ذلك ، من غير المرجح أن يذهب أردوغان إلى أبعد مما فعل في دعم أذربيجان بشكل مباشر في حربها الأخيرة مع أرمينيا، وكما صرح أيدينتاسباس بقوله إن العلاقة بين أردوغان وبوتين هي علاقة تم توطيدها ليس من خلال المؤسسات ولكن من خلال “المصافحة القوية” بين زعيمين يتمتعان بشخصية كاريزمية يميلان إلى تشكيل الدولة على صورتهما.
ويعزو أونور إيسي الخبير الروسي في جامعة بيلكنت هذا التوافق إلى الإيمان بالسياسة الواقعية البسماركية التي يتقاسمها القادة الأتراك والروس، ويقول إن بوتين وأردوغان يمكنهما الحفاظ على تحالفات متداخلة وأحيانًا متناقضة لأنهما يفكران في الدبلوماسية من حيث الدولة وما سيفيدها بشكل مباشر، بعبارة أخرى كل حكومة على استعداد للتحلي بالصبر وانتظار ظهور حل يفيدها أكثر وفي كثير من الأحيان يشير هذا الحل إلى التعاون مع الآخر مما يؤدي إلى تحالف غير متوقع يعمل على تحدي النظام العالمي الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة.
وقد استمر هذا التوازن خلال أكثر من عقدين من حكم حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان، ففي الحرب الروسية الجورجية المريرة والموجزة في عام 2008 وبعد أن أشارت تركيا في البداية إلى دعمها لجورجيا غيرت تركيا مسارها ودعمت موسكو ضمنيًا .
كما أنه وبعد أن غزت روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014 وهو عمل أدانته تركيا على نطاق واسع رفضت أنقرة الانصياع للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي على موسكو، وحتى بعد أن أسقطت تركيا طائرة حربية روسية في عام 2015 تمكن البلدان من إحياء علاقة عمل لأن أردوغان أصدر اعتذارًا ، والعقوبات الوحيدة التي فرضتها روسيا والتي ظلت سارية كانت على الطماطم التركية.
ولكن في نفس الوقت هذا لا يعني أن الدول ليست على استعداد للرد على الخسائر التي تكبدتها فعندما قُتل 33 جنديًا تركيًا على يد مقاتلين مدعومين من روسيا في سوريا في شباط 2020 ردت القوات التركية باستهداف 200 موقع حكومي بالأسلحة والطائرات المسيرة وقتلت 309 من قوات الحكومة السورية المدعومة من روسيا، وبعد مقتل جنديين تركيين في سبتمبر 2021 نشرت تركيا قواتها في إدلب شمال غرب سوريا قبل أيام فقط من اجتماع بين أردوغان وبوتين في سوتشي ومع ذلك فإن العلاقة لا تزال سليمة.
ستفعل تركيا كل ما في وسعها لتجنب مواجهة روسيا وجهاً لوجه.
يمكن لبوتين أن يهدد بشن هجوم شامل على إدلب التي تحيط بها حاليًا القوات المدعومة من روسيا والتي يمكن أن ترسل ملايين اللاجئين السوريين عبر الحدود التركية مما يخلق أزمة لاجئين قبل الانتخابات المقررة في يونيو 2023 أو قد تهدد روسيا بقطع الوقود عن تركيا ، التي تعتمد عليها بشدة لا سيما في الأشهر الباردة ووسط نقص الغاز الطبيعي على مستوى البلاد، وفي المقابل يمكن أن تهدد تركيا بقطع وصول روسيا إلى مضيق البوسفور بموجب أحكام اتفاقية مونترو في زمن الحرب ، على الرغم من أن ذلك غير مرجح.
إن ميزان القوى الحساس هذا وتهديدات التدمير هذه كلها تضمن أنه في حالة غزو روسيا لأوكرانيا وإذا وعد الناتو بمشاركة عسكرية مباشرة فإن تركيا ستبذل قصارى جهدها لتجنب مواجهة روسيا وجهاً لوجه.
وقد قال أردوغان في 26 يناير / كانون الثاني إنه “مستعد لفعل كل ما هو ضروري” من أجل تجنب الحرب، وهو ما جعله يقوم بعرض التوسط لحل النزاع ، وهو عرض أعرب زيلينسكي عن حماسته بينما قالت روسيا بعد رفضها الأولي إلى إنها ستنظر فيه.
والسؤال هو ما إذا كان لا يزال هناك وقت للوساطة؟ بعد رحلته إلى كييف دعا أردوغان بوتين أيضًا إلى تركيا وفقًا لوسائل الإعلام الحكومية التركية فقد وافق الكرملين على زيارة تركيا بعد أولمبياد بكين الشتوية، لكن يخشى كثيرون أن تختار روسيا غزو أوكرانيا إذا كانت مزاعمها الأخيرة بخفض التصعيد غير حقيقية.