*بقلم: محمد أبو سبحة
القاهرة (زمان التركية) – يعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أكثر زعماء العالم لفتا للأنظار فيما يتعلق بالتبديل السريع والمثير لمواقفه؛ بعد أن ينتهي من ممارسة ديماغوجيته يستحضر براغامتيته، ويكون دائما هو المبادر لتحويل العلاقات مع الأطراف الأخرى من النقيض إلى النقيض، لكنه لا ينجح دائما.
الأشهر الماضية شهدت تحركات تركية موسعة لإصلاح العلاقات مع دول الشرق الأوسط؛ ومع أن أنقرة فشلت في إقناع مصر بجدوى التحالف بينهما، لكن أبو ظبي استجابت، فيما لم تهتم السعودية، وتبدو إسرائيل غير متحمسة.
لم يسمح أردوغان لإصابته بفيروس كورونا أن تعطل زيارته إلى الإمارات. الرئاسة التركية قالت مؤخرًا إنه لا تغيير في جدول زيارته المقررة إلى أبو ظبي منتصف فبراير الجاري، ما يعكس تعطش زعيم حزب العدالة والتنمية لهذه الزيارة، بقدر تعطش الاقتصاد التركي للاستثمارات الخليجية.
الفارق الزمني بين إعلان أردوغان عن إصابته بمتحور أوميكرون والشفاء منه لم يتجاوز خمسة أيام، إلا أن هذه الفترة الزمنية القصيرة شهدت تداول الكثير من الشائعات حول تدهور حالة أردوغان الصحية، ما يجعل لديه حافزًا إضافيًا لإعلان الشفاء وإجراء زيارة خارجية إلى دولة عربية أخرى غير قطر، التي تركزت زيارات أردوغان لها في السنوات الأخيرة، والسودان التي حرم منها بعد الانقلاب على عمر البشير.
وكان التحول المفاجئ في العلاقات التركية-الإماراتية لافتا للانتباه. السنوات الخمس الأخيرة شهدت عدائًا سياسيًا بين أنقرة وأبو ظي التي أدين تدخلها في اليمن واتُهمت بتمويل محاولة انقلاب 2016، وإرسال جواسيس إلى تركيا وأخيرًا الإضرار بالقضية الفلسطينية من خلال التطبيع مع إسرائيل، فيما كانت الإمارات قد وجهت إلى تركيا عام 2017 اتهامات بممارسة “سلوك استعماري” في سوريا، و”سلب المدينة المنورة” خلال الحكم العثماني.
في ظل حالة الاقتصاد التركي التي وصلت إلى مرحلة الحاجة القصوى لتدخل فوري لإنعاشه مع اضطراب الليرة وارتفاع التضخم، ما كان من سيد التنازلات وزعيم الانتهازيين أردوغان بعد أن حصل على 63 مليون درهم إماراتي إلا أن يستحضر روحه البراغماتية المعتادة ويقول “ما المانع من اتخاذ خطوات مع إسرائيل مماثلة لما تم مع الإمارات؟” التي اتهمها قبل عامين بـ “الخيانة” بسبب التطبيع مع تل أبيب، بينما يسعى حاليًا للهدف ذاته!
مع تغير الإدارة الحاكمة في إسرائيل، تشجع أردوغان على أخذ خطوة أكبر نحو إصلاح العلاقات مع الإسرائيليين، وأخذ يتودد للرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ وأعلن حتى الآن موعدين مختلفين لزيارة مرتقبة للرئيس الإسرائيلي إلى تركيا، آخرها في مارس المقبل.
يأمل أردوغان مبدئيا من وراء إصلاح العلاقات مع إسرائيل في تهدئة التوترات مع الولايات المتحدة الغاضبة من التقارب التركي الروسي، لمساندة الدور الذي تقوم به حاليا اللوبيات اليهودية والأرمينية مع إدارة جو بايدن لصالح أنقرة، والفوز بصفقة “تجارة الغاز” في ظل تنافس تركي مع اليونان وقبرص حول ممر الغاز الطبيعي الذي تسعى تل أبيب لتصديره إلى أوروبا عبر شرق البحر المتوسط، وينتظر أردوغان من تل أبيب المساهمة لاحقا في إصلاح العلاقات مع مصر.
ساءت العلاقات بين أنقرة وتل أبيب مجددا، منذ أن طرد أردوغان السفير الإسرائيلي عام 2018 على خلفية مقتل عدد من الفلسطينيين في “يوم الأرض”، ولم تعين تل أبيب سفيرًا لها في تركيا حتى اليوم، رغم أن تركيا اتخذت في ديسمبر 2020 خطوة نحو المصالحة مع إسرائيل وأعلنت تعيين سفير لها في تل أبيب لكنه لم يغادر بعد حتى بلاده، في انتظار أن تتخذ إسرائيل خطوة مماثلة وترسل سفيرا إلى تركيا.
إسرائيل غير متعجلة في استرجاع علاقاتها مع تركيا، ويبدو أن الساسة الإسرائيليين أصيبوا بالملل من ديماغوجية أردوغان، الذي يفضل الهجوم على إسرائيل لرفع أسهم شعبويته داخليا، بينما يحافظ على علاقات اقتصادية قوية مع الإسرائيليين ويأمل على الدوام في توسعها وزيادة عدد السياح اليهود في بلاده. أعتقد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت لن ينتظر سماع أردوغان يتهمه بقمع الفلسطينين ليرد عليه مثل سلفه نتنياهو، قائلا “أنت أيضا تقمع الأكراد!” لذلك فهو يقول إنهم يدرسون عرض التطبيع التركي “بهدوء وحذر شديد” ولا شك أن صفقة التطبيع لن تتم بدون وقف الدعم التركي لحركة حماس الممولة إيرانيا.
ترسل أنقرة العديد من الرسائل الإيجابية لإسرائيل من أجل تطبيع سلس للعلاقات، حيث أعلنت مؤخرًا إحباط جهاز المخابرات الوطني بالتعاون مع جهاز المخابرات الإسرائيلي مخططا إيرانيا لاغتيال رجل الأعمال الإسرائيلي يائير جلير ردا على اغتيال العالم النووي محسن فخري زاده، وهي إشارة للإسرائيليين أن تركيا ليست حليفا قويا لعدوهم إيران، وقبل فترة أفرجت أنقرة بدون قرار قضائي عن زوجين إسرائيليين بعد اتهامهما بالتجسس، على خلفية صور التقطاها لمنزل أردوغان.
بعد ثماني سنوات من العداء، بذلت أنقرة مساعي حثيثة لمصالحة القاهرة، وكانت هناك جولتان من مباحثات استكشافية العام الماضي بين وفدي وزارة خارجية البلدين، لكن تبدو مصر غير مقتنعة بجدوى عودة العلاقات مع تركيا، في ظل عدم تقديم تركيا عرضًا يستحق التغاضي عن كافة الإساءات التي وجهت إلى الدولة وقيادتها، واستمرارها في احتضان عناصر جماعة الإخوان المسلمين، حتى وإن أجبرتهم على وقف برامجهم الإعلامية المسيئة إلى مصر، لكنها تظل تحتفظ بهم كورقة يمكن استعمالها مجددا للإضرار بمصر.
القاهرة لم تقل “مرحبا أردوغان” كما كان يظن الرئيس التركي، فليس من السهل الوثوق في أردوغان الذي قبل أن يعرض بأيام مصالحة مصر كان يهاجمها بعدما وقعت اتفاقية بحرية مع اليونان، بينما أقرت أنقرة في وقت لاحق أن مصر لم تمس بحقوق تركيا في شرق المتوسط على الإطلاق، ودعا أردوغان نفسه القاهرة لتوقيع اتفاقية مشابهة!
عندما وجد أردوغان أن إثارته لقضية مقتل خاشقجي لم تجلب له غير خسارة الاستثمارات التركية في السعودية، ومقاطعة السعوديين للمنتجات التركية والسياحة في بلده، قرر أن يعود أدراجه محاولا فتح خطوط اتصال مع المملكة من جديد، إلا أنه لم يستقبل حتى الآن أي رد فعل إيجابي، وأعلن مؤخرًا أنه سيزور السعودية في فبراير الجاري بينما لم يكن هناك تأكيد من المملكة بشأن الزيارة.
وفي النهاية قد يقول قائل إن أردوغان يعمل لمصلحة شعبه وبلده ولا يعد ذلك تنازلا مهينا طالما أنه يجلب المصلحة والمنفعة، وهنا يجب أن نرد بسؤال: هل تتحقق الفائدة للشعب والبلد بإفساد وتدمير العلاقات مع الدول ثم إعادة إصلاحها بتقديم التنازلات؟ أم أن الفائدة هنا عائدة على شخص أردوغان الديماغوجي البارع في تضليل الجماهير بشعارات كاذبة للتحايل من أجل البقاء في الحكم؟
* كاتب صحفي مصري وباحث متخصص في الشأن التركي
@MohmadAbosebha