بقلم: محمد أمين المصري
القاهرة (زمان التركية) – اعتاد العالم أن يمر بين الحين والآخر بفترة عصيبة تتراوح ما بين انتشار أوبئة ومجاعات وحروب، لتأكل معها الأخضر واليابس وتصل إلى أن تكون قابضة لأرواح البشر. ولم يختلف عصر عن آخر في هذا، فكل العصور والأزمنة تكاد لا تخلو من نكبات، بعضها شعر بها العالم أجمع، في حين اقتصرت مصائب أخرى على بعض المجتمعات لتكون آثارها محدودة على تلك المناطق فقط.
ولم تكن الدراما، بأشكالها المتعددة بعيدة عن تصوير ما شهده العالم على مر الزمان من تصرفات سياسية، فكان الخيال والواقع متلازمين معا لينقلا لنا صورة حية نراها في كل وقت عندما تسترجعها الذاكرة.
ومن نماذج ما صوره الخيال من نكبات ألمت بالعالم، رواية “السيد آدم” للكاتب الأمريكي “بات فرانك”، والتي ترجمها الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة المصري الراحل ، وتتحدث عن نهاية التناسل في الكون، ليشاهد العالم بعدها فيلم “الختم السابعThe Seventh Seal “ الصادر عام 1957 للمخرج السويدي إنجريد برجمان، ويشير إلى كارثة الطاعون في منتصف القرن الرابع عشر التي قضت على ثلث سكان أوروبا وقتها، وحاول المخرج عبر أحداثه تصوير علاقة الدين بالحياة، أو بالأدق علاقة رجال الدين والكهنة بالشعب، في صورة تجسد تغول الكهنة في حياة البشر وسعيهم المستمر لبث الرعب والخوف في قلوب الناس من الآخرة، وكيف أن ملك الموت هو الأقرب للإنسان ليقبض روحه، حتى وإن كانت هناك بعض المحاولات لإثنائه عن تنفيذ أمره وتأجيله لفترة أخري.
ثم تخرج علينا هوليوود حديثا بفيلم “صندوق الطيور The Bird Box“، بطولة ساندرا بولوك وإخراج سوزان بيير، وصدر عام 2018 ، ليصور نهاية العالم بصورة أخري، حتى نصل إلي زمن فيروس “كورونا” لنشهد على أرض الواقع، وليس الخيال، كل الأوجاع والآلام، سيما وأن عدد الإصابات والوفيات لم يتوقف يوميا. ولعل الرابط بين خيال الدراما وواقع “كوفيد 19” بكل متحوراته، هو شعور البشر بدنو آجالهم ونهاية العالم. ولعل الرابط بين الرواية والدراما هو عالم السياسة بسبب إفراطه في الأنانية والعنصرية، فمأساة السيد آدم لم تكن لنراها لولا نية الولايات المتحدة أن تكون قوى عظمى بكل الوسائل حتى لو اخترعت قنبلة ذرية تقضي بها على العالم. وفيلم “الختم السابع” كان تعبيرا عن رفض ضمني لعالم الحروب بين الممالك والإمبراطوريات الأوروبية..أما الشريط السينمائي “صندوق الطيور” فهو تعبير صادق عن سوءات عالم “السوشيال ميديا” بكل ابتكارات العصر الحديث التي قضت تقريبا علي السلم الاجتماعي ليغرق كل فرد داخل ذاته.
السيد آدم
تقول رواية “السيد آدم” إن الله – تعالى – شاء أن يختار أمريكيًا زاهدًا ألزم نفسه بعدم معاشرة أي امرأة باستثناء زوجته – ليكون الرجل الوحيد الذي يتعين عليه تخصيب نساء الولايات المتحدة جميعهن، وربما نساء العالم. إنه “السيد آدم” الذي وجد نفسه مطالبًا بأن يكون أبًا لأبناء بلده، والمعمورة، عبر تفرده بخاصية التخصيب البشري.. فكيف يتصرف الجميع – حكومات وشعوبًا وأفرادًا ومؤسسات – حيال هذا الموقف الغريب؟
ونتذكر هنا الملابسات المثيرة التي حدثت في القرن الماضي في رواية “السيد آدم”، لتشابها لما يعايشه العالم حاليًا من هجوم ضار لفيروس “كورونا”، الذي جاء كاشفًا لحقيقة مواقف الحكومات والدول والشعوب، التي ترفع شعارات الحضارة الإنسانية، عند وزنها بميزان العقائد الإيمانية، والمُثُل العليا، والمبادئ الأخلاقية. وثمة عناصر متشابهة كثيرة بين القصة الأمريكية والفيروس من حيث تأثر الاقتصاد وانتشار نظريات المؤامرة وسيطرة الكوابيس على حياة البشر، وتفشي النعرة العنصرية ولغة “الأنا” بين الدول.
بدأت رواية “السيد آدم” عندما واجهت الولايات المتحدة الأمريكية أسوأ كارثة في تاريخها بانتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، إذ سيطرت الحيرة على المسئولين المحليين إزاء عدم تسجيل أي حالة ولادة جديدة بسائر الولايات، على الرغم من أنه يُفترض أن تتجه حركة المواليد الى الزيادة – عادةً بعد انتهاء الحروب – لتعويض ما نتج عنها من خسائر بشرية. وعلى الرغم من وقوع نحو 78 مليون قتيل نتيجة الحرب العالمية الثانية، إلا أن المفاجأة أن الأمريكيين لم يسجلوا أي حالة ولادة جديدة بعد تلك الحرب!
استمر هذا الشح في المواليد قرابة ثمانية أشهر، حتى جذب انتباه صحيفة محلية بواشنطن، فقررت البحث في المفارقة، وكلفت محرريها ومراسليها في دول أوروبا، باستقصاء الظاهرة، فاكتشفوا أن هذا الوضع المثير يشمل تلك الدول، أيضًا، فلا تسجيل لولادة جديدة أو حتى حجز لموعد ولادة في الفترة التي تلت انتهاء الحرب، وتحديدًا منذ الثاني والعشرين من يونيو 1945!
وفي البداية شكَّ المسئولون في ابتزاز المستشفيات لحاجزي مواعيد الولادة، وفساد النظام الرأسمالى الذي قام بتحويل كل شئ إلى سلعة ذات ثمن، بهدف تحقيق أعلي قدر من الربح، وذلك علي حساب المواطن!
مُكلفًا من هذه الصحيفة؛ تولي الصحفي “ستيف” عملية البحث والتحري عن سبب تأخر عمليات الإنجاب، إلا أنه يواجه المشكلة في بيته عندما تسأله زوجته عن سر تأخر الإنجاب لديه، ولماذا لم ينجبا بعد انتهاء الحرب، حيث توفرت الأسرَّة الكافية في المستشفيات بعد أن كانت محجوزة لجرحي الحرب وضحاياها فقط.
والأمر هكذا، ألحت زوجته “مارج” عليه أن ينجبا ولدًا، خاصةً أنهما علي وشك توديع سنوات الشباب، وبالتالى ذكَّرته بأهمية التقاء رجل بامرأة حتي يتم الإنجاب.. مجرد تذكير، لأن إغراق الإنسان نفسه في عمله لن يخلف عليه طفلًا أو نسلًا، فالأطفال لا يأتون من الفراغ أو العدم. ولعل “مارج” أرادت تنبيه زوجها بلطف إلى ضرورة أن “يتعاشرا” حتي يتسني لها الحمل، وتحقيق حلم الإنجاب.
تتواصل الأزمة حتى تضرب قارة أمريكا اللاتينية، المشهور عن ساكنيها كثرة الإنجاب، بغض النظر عما إذا كانت الأسرة فقيرة أم غنية، فالأصل في الحياة هناك هو التناسل والإنجاب.
هنا أدرك الجميع مدى ضخامة الأزمة الكونية، فالعالم يقترب من نهايته بالفعل إذا لم يتم إنجاب أطفال جدد، إذ صار يشبه مريضًا بالسرطان العضال الذي يفتك بأعضاء الجسم كافًة، فلا لوم ولا تثريب – إذن – على عالم أصبح هو المريض!
انفجار المسيسبي
وتمضي الرواية مشيرة إلى أن تفكير قادة الولايات المتحدة في بحث المشكلة لم يطل، فقد اكتشفوا أن تاريخ آخر موعد ولادة سجل بها في الحادي والعشرين من يونيو 1945؛ حيث كان اليوم الأخير في الأشهر التسعة التي سبقت موعد تفجير القنبلة الذرية الأولى في مدينة “بروفايل” علي نهر “المسيسبي”:”لقد كان الانفجار نذيرًا من السماء، بأن يوم القيامة قد أزف، فقد أحسسنا جميعًا – نحن المخلوقات الضعيفة – بـ”ننا أخذنا نلهو ونعبث بتلك القوى الطبيعية الخارقة التي يسيطر عليها الله وحده”..هذه الجملة قالها القائد العسكري الأمريكي “فاريل” عن إطلاق القنبلة الذرية، التي غدت قادرة علي أن تمحو البشرية كلها.
لقد حدث انفجار “المسيسيبي” في الحادي والعشرين من سبتمبر 1944، أي قبل تسعة أشهر من الحادي والعشرين من يونيو 1945، وهو آخر موعد ولادة تم تسجيله بالولايات المتحدة.
وكان الانفجار أشد عنفًا من انفجاري هيروشيما وناجازاكي، إذ دمر مدينة “بورفيل” ومدنًا أخرى بجوارها، وشُوهد وهجه – الذي ملأ القلوب هلعًا – في شيكاغو شمالًا، وخليج المكسيك جنوبًا، وأحست به ولاية سانت لويس كهزة أرضية، في حين لم تتحمل نيوأورليانز لفح حرارته.
لم يعرف أحد، وقتها، سبب الانفجار الذي أهلك الحرث والنسل، ولم ينج منه حي، ولكن في إثره توقفت الولايات المتحدة عن صنع القنابل الذرية، واستشعرت الدول الأخرى الخطر، فلم تمض في هذه السبيل.
وبعد الانفجار مباشرةً، طمأن علماء الذرة الناس بأن خطر انبعاث الأشعة لن يتجاوز دائرة قطرها مئات الأميال، وزادت تساؤلات المواطنين: “هل أشعة جاما تصيب الرجال بالعقم إذا تعرضوا لها؟”.
لكن العلماء آثروا السكوت، وفضلوا عدم الإجابة، واصطنعوا المراوغة كحيلة لعدم الرد، في حين كانوا هم ممن أُصيبوا بالعقم، وأصبح من أنجبوهم حتى تلك اللحظة آخر نسلهم!
وتضخمت خطورة المشكلة – كما ورد في القصة – ودار الصحفي “ستيف” على العلماء لعله يخرج بنتيجة عما يستشعره من أزمة عالمية، فعلي ما يبدو، فإن الانفجار أصاب ذكور الجنس البشري بالعقم.
وقد تفاقمت مشكلته عندما أجاب العالم الخبير “بل” عن استفساراته المتكررة، قائلًا: “نعم لقد عم العقم العالم كله.. أنا وأنت”. فمنذ فاجعة انفجار المسيسبي لم يتشكل جنين في رحم امرأة على وجه البسيطة، واضطر “بل” إلى مصارحة “ستيف” بأن الانفجار انبعثت منه إشعاعات قوية لم تلبث أن عمت العالم بسرعة الضوء، ولم تكن من إشعاعات جاما أو بيتا أو ألفا وذراتها، إنما كانت من الإشعاعات الأخرى ذات الصور الغامضة الأكثر إضرارًا.
لعل المولى – عز وجل – أراد ألا يُصاب البشر جميعهم بالعقم، فكان من نصيب الرجال فقط، لأن النساء ظللن قادرات علي إفراز البويضات ولم يطرأ تلف علي قناة “فالوب” عندهن كلهن.
حقا، ما أعجب الجسم البشري. ولله في خلقه شؤون. فعلي الرغم من أن الأشعة في جملتها تصيب بأذاها الجنسين معًا إلا أن ثمة أنواعا منها تصيب الذكور دون الإناث.
انكشف الأمر فأخذت الأزمة منحنى جديدًا، فلم يعد مقصورًا على صحفي ورئيس تحرير وعدد من العلماء والأطباء، بل علمت به إحدى الإذاعات المحلية، وبثت الخبر عبر أمواج الأثير، ليسفر عن آثار مروعة في العالم أجمع.
لقد كان لبث الخبر الأثر نفسه الذي انتابنا عندما علمنا بأن فيروس “كورونا” لا دواء له.. إذن رجال الولايات المتحدة والعالم مُصابون بالعقم، فمن أين سيأتي النسل بعد ذلك؟
بعد تاريخ الثاني والعشرين من يونيو 1945 لن يتشكل جنين في رحم امرأة على وجه البسيطة..هذا ما انتهت إليه أبحاث العلماء!
هذه الصدمة لم تكن مفاجئة للبشرية فقط – وفقًا للقصة – بل أصابت أيضًا علماء الذرة، إذ عليهم يقع لوم العالم الذي أصابوه بالعقم ليبلغ منتهاه، حتى كادوا يتخيلون أنفسهم معلقين في المشانق، لا مكرمين في حفلات تسلم الجوائز!
لقد اهتز العالم، فالأساقفة شعروا بأنها خدعة دنيئة، والبعض توقع أن يحل الفناء بالعالم خلال ساعات قليلة.
وفي انجلترا، خاطب الملك شعبه مطمئنًا إياهم بأن حكومته ستظل معنية بالأمر، وأنها بدأت في اتخاذ الخطوات الايجابية اللازمة تجاهه، إلى جانب ما تقوم به من استقصاء.
كما عم الاضطراب فرنسا.. في حين تكتمت موسكو الأمر تمامًا.. وفي الولايات المتحدة تحدث الرئيس مباشرة إلى الشعب وطالبه بالهدوء والسكينة، فيما اعتقدت بعض العواصم أن ثمة مؤامرة يهودية لإجهاض العالم، باعتبار أن ما تم هو نتيجة مكر العلماء اليهود!
وداعًا.. حلم الأمومة
في المساء، قطع الراديو برامجه المعتادة ليذيع نبأ عاجلًا مفاده دعوة وزير الصحة الأمريكي إلى عقد مؤتمر في أوائل الأسبوع التالي بحضور نخبة من علماء الطبيعة، وصفوة من خبراء العاصمة الأمريكية؛ ليتدارسوا معًا الخطة الناجعة لإعادة الإخصاب القومي في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
هنا، اقتربت “مارج” من زوجها الصحفي “ستيف”، وقد بدا عليها الانفعال، فقد ضاع حلمها بالأمومة، وهي التي طالما دعت زوجها لذلك، لكنه كان يرفض حتى صاحت به: “حلت بك وبنا اللعنة”، ثم وصفت زوجها بأنه “خصي.. خصي”.
في هذا الأثناء، شهدت المدن الأمريكية حالات انتحار عدة من قبل السيدات اللاتي فقدن الأمل في الإنجاب بعد انتشار خبر عقم الرجال.
ثم مرت الأيام برتابتها المعتادة، حتى اقترب شهر يونيو، وتحديدًا يوم 22 منه، وما إن حل الأول منه حتى اتسعت دوائر القلق، ومع قرب نهايته كان الذعر قد استولى على القلوب، وتمكن الهلع من الجميع، وأصبح الخبر حقيقة مؤلمة تسيطر علي العالم كله، وتطوي القارات من إفريقيا إلى القطبين الجنوبي والشمالي، حيث أحس الجميع بالخيبة، في مقابل البعض ممن ظل الأمل يراودهم.
وهنا – كما تواصل الرواية- حبس العالم أنفاسه في انتظار العاقبة الوخيمة، وقد رأى بوادرها تنبيء بها، فمنذ ذلك اليوم والأيام التي تليه، ومعدلات الولادة آخذ في التراجع درجة درجة.
فجأة يتلقى الصحفي “ستيف” مكالمة هاتفية من الطبيبة “مارية أوستنهايمر” تبشره فيها بأن هناك حالة ولادة قريبة قد سُجلت في مزرعة بمدينة “تاري تاون”.
الغريب أن حمل الأم في هذه الولادة أتم تسعة أشهر غير منقوصة، وبدأ بعد ثلاثة أشهر من ظهور الإشعاعات التي عقم بسببها الذكور جميعًا.
لم يضع “ستيف” دقيقة، إذ ذهب مسرعًا إلى مدينة “تاري تاون” ليكون شاهدًا على حالة الولادة الفريدة تلك. ووصل إلى المزرعة، وقرع جرس الباب في عنف، فإذ برجل بين الخامسة والأربعين والخمسين من العمر، فارع الطول، محمر الوجه، ينضح جبينه عرقًا، وقد نزع سترته، وشمر عن أكمامه، فاتحًا الباب له، فعرف منه أنه طبيب الولادة، ودعاه للدخول، والتعرف إلى صاحب المكان السيد “هومر آدم” زوج السيدة “ماري إلين” التي هي على وشك الولادة
ودوت، فجأة، في غرفة بالطابق العلوي للمنزل صرخة حادة لامرأة ثم انقطعت الصرخة دون أن تكمل، فوقع “آدم” مغشيًا عليه على الأريكة.
وبعد هذه الواقعة، وتحديدًا في ساعات الليل؛ صرخ الطبيب “بلاندي” معلنًا قدوم بنت إلى الحياة، دون جهد أو مشقة.. إذ تمت تسميتها “إليانور”، وبلغ وزنها سبعة أرطال، ليتشابه خروجها إلى النور مع حدوث أروع قصة ولادة منذ بدء الخليقة، أو بالأحري منذ حادث “المسيسبي” الذري الإشعاعي بالولايات المتحدة.
أقوى رجل في العالم
وفقًا لرواية “السيد آدم”: أصبح السيد “هومر آدم” أشهر رجل علي وجه البسيطة، وحديث الولايات المتحدة والعالم. إنه أمريكي بسيط، رفض الأطباء تجنيده وقت الحرب لطوله المفرط، وضمور عضلاته، وشدة نحافته، ثم عمل في منجم بأستراليا وقتًا طويلًا، وتزوج من “ماري إلين”، بعد عودته منها.
أبلغ الصحفي “ستيف”، “هومر آدم” بأنه سيكون الرجل الأسعد حظا في العالم، وسوف يعلو نجمه بين الذكور جميعًا، ثم سأله: “أين كنت يوم انفجار المسيسيبي؟”، فأجاب :”كنت في ليدفيل بكلورادو، وقد دعاني هناك مدير المنجم لأقوم بالبحث والاستقصاء وكتابة تقرير عما إذا كان من الممكن التنقيب ثانية في مناجم الفضة والرصاص.. لقد قضيت النهار في جوف المنجم الثاني، وهو أكبر مناجم العالم وأكثر مناجم الرصاص عمقًا، وحين صعدت إلى ليدفيل سمعت بالانفجار الذي هز الدنيا كلها”.
لقد كان “آدم” – إذن – في جوف الأرض، في عزلة عن العالم، وقت انفجار القنبلة الذرية، مما حجبه عن موجاتها، كما أن الرصاص يقي الإنسان أثر الإشعاعات، حيث كانت وفرة من الرصاص والفضة في الطبقة الدنيا من المنجم.
كان آدم على بعد نحو ألف متر تحت سطح الأرض – إذن – أي كان أكثر رجال العالم آمنًا ضد الإشعاعات الناجمة عن الانفجار. وكشف “آدم” لستيف، أيضًا، أنه كان العامل الوحيد في المنجم وقتها لأن المنجم الآخر مهجور منذ عشرات السنين.
هنا.. تبدل الوضع في الولايات المتحدة، إذا بدا “هومر” آدم كأنه الخلاص من العقم الأمريكي والعالمي، وبالتالي وفرت له الإدارة الأمريكية كل إمكانات الدعم والحماية، حتى إنها أحضرته لواشنطن العاصمة، ووضعته في عهدة الجيش؛ ليكون بالقرب من الهيئات الحكومية.
ولكي نعرف مدى أهمية “آدم” للدولة الأمريكية، فقد تم تعيين العقيد فيليبس سمايث – الياور الخاص للقائد العام للمنطقة الوسطى، وضابط الشئون العامة – مسئولًا عسكريًا عن حماية “آدم” وسلامته أمام الدولة.
بل اجتمعت الهيئة المشتركة لرؤساء أركان الحرب، وناقشت مسألة “آدم”، وكيف أصبح رمزًا قوميًا يجب الحفاظ عليه من أجل مستقبل الولايات المتحدة وربما البشرية جمعاء!. واستقر المشاركون في الاجتماع – بعد النظر إلى المصالح القومية ومستقبل الدفاع عن البلاد – على أن “السيد آدم” قد أصبح من الممتلكات الحكومية ذات الأهمية الاستراتيجية الحيوية.
لكن “آدم” انتفض رافضًا هذه الميزة التي اختصه بها الجيش والإدارة الأمريكية، إذ كان يرغب في أن يعيش مع زوجته “ماري إلين” وطفلته “إليانور” حياة بسيطة هادئة، ولسان حاله يقول:”هل كُتب عليَّ أن أحمل وزركم جميعًا إذ غدوتم عقماء”؟!
أملت المصلحة العليا أن يكون “آدم” مواطنًا ذا أهمية خاصة للمجتمع الأمريكي، ناهيك عن أنه أصبح سرًا عسكريًا من الأسرار المهمة التي لا تقل شأنًا عن القنبلة الذرية للولايات المتحدة.
والأمر هكذا، قررت الحكومة تخصيص هيئة عسكرية وعلمية وطبية لرعاية “آدم”، بل والإنفاق عليه وأسرته.
ومن ثم أصبح آدم – بين عشية وضحاها – بندًا رئيسًا في نقاشات الكونجرس لإقرار كيفية حمايته والحفاظ عليه والاستفادة من إمكاناته، حتى إن الجيش الأمريكي فكر وقتها في نقل “آدم” إلى قلعة نوكس الحصينة حيث يُحفظ رصيد الدولة من الذهب، لولا تحذير كبير أطباء الجيش من عواقب وخيمة هناك قد تلحق الضرر بصحته العامة.
بين الكونجرس واللجان الوزارية المختصة؛ تضخم صراع الهيئات الأمريكية المختلفة علي “آدم”، كل منها تحاول أن يكون لها الحق دون الأخري في أن تملي السياسة التي تراها بالنسبة له، ناهيك عن أن جهات أخري رأت فيه العالم كله، إذ أصبح له شأن دولي أكثر منه قومي وطني، بل طالب البعض بأن يؤول الإشراف عليه إلى هيئة الأمم المتحدة!
في تلك الآونة، تم التفكير في الاستفادة من “هومر آدم” في التلقيح الصناعي، خاصة أن العارفين بعالم الخيل يعلمون فوائده، إذ لم يعد من الضروري أن ينزوي (ما معى هذه الكلمة) الحصان على أنثاه في الحظيرة، ويكفي الحصول على سائله المنوي لتُحقن به الأنثى، حتى إن أرقى سلالات الخيل قد جئ بنطفها من الأرجنتين وأستراليا، كما أن شحن أوقية من السائل المنوي أيسر من استيراد حصان يزن طنًا.
ومن هنا، توصلت المؤسسة القومية لإعادة التخصيب إلى فكرة التلقيح الصناعي كوسيلة لإنجاب الأطفال في الولايات المتحدة، وتلقت الهيئة آلاف الطلبات للتلقيح بعد أن اقتنع الأزواج بهذا الحل كمخرج وحيد للحفاظ على البشرية، بعد أن نبذوا أنانيتهم، من أجل استمرار الحياة.
هكذا، توصل كبار رجال الدولة والمؤسسة القومية لإعادة الإخصاب إلى اعتقاد مفاده أنه لا نجاة للجنس البشري إلا بالتلقيح الصناعي باعتباره الوسيلة الوحيدة التي تتيح إنتاج عدد محدد من الذكور تستند إليه نشأة الأجيال القادمة.
لكن ثمة مشكلة واجهت مراكز الأبحاث العلمية والطبية في ذلك، فبدلًا من الاستمرار طويلًا في الأبحاث لحين اكتشاف طريقة لعلاج الذكور، وإعادتهم إلى القدرة علي الإخصاب، رأوا أمامهم “آدم” وهو وسيلة جاهزة، لديه القدرة الجنسية، إلا أن المشكلة هي أنه رجل وحيد وعليه إخصاب كل سيدات الولايات المتحدة ثم العالم، فهو الضمان الفريد المؤكد الذي يحول بين العالم وبين أن يفني!
وقد انتصر رأي الرئيس الأمريكي للمؤسسة القومية لإعادة الإخصاب، إذ قرر توليها مسئولية الحفاظ على “آدم” ورعايته وإجراء الأبحاث عليه، ومن ثم، تم تخصيص مبالغ كبيرة للعلماء لدعمهم في أبحاثهم، على أن تظل مسئولية حماية “آدم” والحفاظ عليه ضمن مسئوليات الجيش.. كما تم فتح الباب أمام الأمهات للتطوع لتجارب التلقيح الصناعي.
إذن.. آدم “الأمريكي” سيكون أبا لكل أطفال العالم، وستكون الولايات المتحدة سيدة الكون.