بقلم: نجم الدين يالجين وشريف عكاظ
إسطنبول (زمان التركية) – في آخر اليوم الدراسي كان الطلاب ينتظرون نهاية الدرس بفارغ الصبر ووضعوا كتبهم ودفاترهم في شنطهم وبمجرد أن دق الجرس تجهزوا للخروج إلا علي لم يتجهز حيث كان يفعل ما في وسعه لأجل أن يتأخر.
أخيرا دق الجرس وفي لحظة واحدة توجه الطلاب مقبلين نحو الباب لكن علي لم يقم من مكانه وبكل ثقل (بُطئ) أخذ يجمع أغراضه ثم أخذ ينظر بطرف عينه إلى أستاذته وبطرف آخر كان ينتظر مغادرة أصدقائه؛ لاحظت المعلمة اختلاف حالته فسألته قائلة خيرا يا علي؟ ألن تذهب إلى بيتك؟ سكت حتى خرج آخر طالب من الفصل ثم أجاب معلمته قائلا: كنت أريد أن أتحدث معك يا معلمتي ردت المعلمة، قائلة: تحدث قل ما تشاء.
“إنه صديقنا أحمد الذي تعرفينه”
نعم ماذا حدث له؟
أحواله ليست جيدة على الأغلب فوالدته لا تضع له الأطعمة المغذية في صندوق طعامه
ماذا تعني؟
أريد أن أساعده لكنه لو علم بمساعدتي له قد يحزن، ثم اقترح على معلمته ماذا لو وفرت كل يوم ثمن قطعة واحدة من سميط وأعطيتها لك وأنت تسلميها لـ علي آخر كل أسبوع.
ثم أخرج من جيبه حفنة من عملات معدنية ووضعها على الطاولة أمام معلمته وانصرف إلا أن المعلمة نورهان لم تلمس تلك النقود حيث جلست على كرسيها وأخذت تفكر، واسترجعت معلوماتها عن علي وتبين لها بعد الفحص أن الحالة المادية لأسرة علي ليست جيدة.
تساءلت المعلمة إلى أي مدى يفكر بحسن نية هذا الطالب المجتهد المحبوب؟ فعلى الرغم من كونه ليس ابنا لأسرة ميسورة الحال ولا ينتمي لعائلة غنية إلا أنه يريد أن يساعد في عمل الخير، إضافة إلى ذلك ما كان يريد أن يعرف عنه أنه هو من يقوم بالمساعدة.
ثم قالت المعلمة: فكر مليا يا علي، فعلى حد علمي أنك أيضا حالتك المادية ليست جيدة فهل معرفتي خاطئة؟
ما تعرفينه صحيح يا معلمتي، أبي يعمل باليومية، وفي أغلب الأحيان لا يستطيع العثور على عمل، لكني أعمل وأكسب مالا أيضا
أين تعمل؟
أبيع السميط
جالت المعلمة بنظرها مرة أخرى ثم وقفت مبهورة أمام شخصية كهذه فماذا يقال عن شخصية وصلت إلى هذا القدر في عمل الخير. ثم قالت المعلمة في نفسها يجب أن أجد طريقة لجعله يتراجع عن هذا الأمر دون جرح مشاعره، ربما إذا تحدثت معه أكثر من ذلك يجد حلاً.
التفتت المعلمة نورهان إلى علي قائلة: ماذا تريد أن تكون عندما تكبر (في المستقبل)؟
أريد أن أكون رجل أعمال غنيا
لماذا؟
لأجل أن أساعد الناس أكثر
ردت المعلمة قائلة: جميل يا علي، انظر يا علي، عائلة أحمد حالتها المادية لا تختلف عن حال عائلتك، لو أردت المساعدة لا تتعجل عندما تصبح غنياً يمكنك أن تساعد، ألا يمكن هذا؟
رد علي قائلاً: نعم غير ممكن يجب أن أساعده الآن!
لماذا لا يمكن؟
لأجل ثلاثة أسباب؛
السبب الأول: إن هذه النقود ليست ملكا لي في الأساس بل هي ملك لله، ولأجل إحساني إلى خلق الله يحبب الله عباده في ويرقون لحالي ويشترون مني سميطا أكثر، وبهذا الشكل فأنا أكسب نقودا أكثر حتى ممن يعملون طوال اليوم. فمثلا في الحي الذي أعمل فيه، عمي حسن يشتري مني كل يوم قطعتين من السميط ويطعم بهما الحمام.
السبب الثاني: تنحني الشجرة عندما تكون غضة طرية (من شبَّ على شيءٍ شاب عليه) إن لم أتعود على هذا الأمر من الآن فلن أستطيع عمله وأنا كبير.. فلو أجلت عمل الخير إلى الوقت الذي سأصبح فيه غنياً سأؤجله إلى أن أصبح أغنى وهكذا تخدعني نفسي.
السبب الثالث: وهو أكثر أهمية.. عندما أكبر أريد أن أصبح من أغنى أغنياء العالم فمن لم يستثمر في صغره لن يكون غنيا في كبره.
تعجبت المعلمة لما سمعته. فلقد وجدت أمامها طفلاً (رجلاً) حكيما وليس فتى صغيرا ثم قالت: لم أفهم آخر كلامك!
قال: يا معلمتي، لأني لست غنيا الآن فأنا أساعد بثمن قطعة أو قطعتين من السميتط ولا أستطيع أن أساعد بأكثر من ذلك، والله يعطي جنته على قدر بذل الإنسان ما في وسعه، وليس في وسعي إلا هذا. ولذا فثمن الجنة الآن هو على قدر ما أعطي، فلو مت قبل أن أكون غنيا فسأكون قد اشتريت الجنة بهذه القطع من السميط! فهل هناك استثمار يدر ربحا أكثر من هذا؟
اغرورقت عيني المعلمة بالدموع باديا عليها التأثر والموافقة (لما سمعت) هازة رأسها أي نعم. عندما عادت المعلمة إلى المدرسة وقد خلت من الطلاب ولما دخلت إلى مكتبها لأجل جمع أغراضها وجدت النقود التي تركها علي فوق المكتب وبدون شعور منها جلست وأخذت نقود علي بيدها ثم قالت: لم أمسك بيدي نقودا بمثل هذه القيمة من قبل! كان الأمر كما لو كانت تحمل أثمن اللآلئ والياقوت والماس في العالم، بل حتى هذه الأموال أكثر قيمة منها، حيث تستطيع أن تشتري الجنة بهذه القطع المعدنية من النقود! أمسكت النقود المعدنية بإحكام وبشعور لا يرغب في التخلي عنها أبدا ولم تستطع أن تنهض من مكانها طغت عليها مشاعر لا توصف وفجأة سال الدمع من عينيها كما لو أن ماء السماء قد انهمر.. ظلت على هذه الحالة فترة ثم لما عادت إلى رشدها كان المساء قد حل. تجهزت للخروج من المدرسة وأثناء خروجها وهي تخطو خطوات على مهل سمع الحارس صادق صوت المعلمة نورهان وهي تقول: من يشتري الجنة بهذه العملات المعدنية؟!
سألها الحارس متعجبا: ماذا قلت يا أستاذة؟
لكنها لم تسمع وظلت تردد تلك الكلمات حتى اختفت عن نظر الحارس.